الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكون العارف عارفًا حتى لو أُعطي مُلْك سليمان؛ لم يشغلهُ عن الله طرفه عين. وقيل: العارف أنِسَ بالله، فأوحشه من غيره، وافتقر إلى الله، فأغناه عن خلقه، وذلَّ لله، فأعزَّهُ في خلقه.
وقال أبو سليمان الدَّارانيُّ: يُفتحُ للعارف على فراشه مالا يُفتح له وهو قائمٌ يُصلي.
وقال ذو النون: لكل شيء عقوبةٌ، وعقوبة العارف انقطاعه عن ذكر الله.
وبالجملة ف
حياةُ القلب مع الله لا حياة له بدون ذلك أبدًا
، ومتى واطأ اللسانُ القلب في ذكره، واطأَ القلبُ مراد الحبيب منه، واستقلَّ له الكثير من قوله، وعمله، واستكثر له القليل من بره ولطفه، وعانق الطاعة، وفارق المخالفة، وخرج عن كله لمحبوبه، فلم يبق له منه شيءٌ، وامتلأ قلبه بتعظيمه، وإجلاله، وإيثار رضاه، وعز عليه الصبر عنه، وعدم القرار دون ذكره والرغبة إليه، والاشتياق إلى لقائه، ولم يجد الأُنس إلا بذكره، وحفظ حدوده، وآثره على غيره؛ فهو المحب حقًا.
وقال الجنيد: سمعت الحارث المُحاسبي يقول: المحبة ميلك إلى الشيء بكليتك، ثم إيثارُك له على نفسك، وزوجك، ومالك، ثم موافقتك له سرًّا وجهرًا، ثم علمك بتقصيرك في حبه.
وقيل: المحبةُ نارٌ في القلب تحرق ما سوى مراد الحبيب من محبِّه. وقيل: بل هي بذل المجهود في رضا الحبيب، ولا تصحُّ إلا
بالخروج عن رؤية المحبة إلى رؤية المحبوب. وفي بعض الآثار الإلهية: عبد ي! أنا وحقك لك مُحب! فبحقي عليك كن لي محبًّا. وقال عبد الله بن المبارك: من أُعطي شيئًا من المحبة، ولم يعط مثله من الخشية؛ فهو مخدوعٌ.
وقال يحيى بن معاذ: مثقال خردلةٍ من الحُبِّ أحبُّ إليَّ من عبادة سبعين سنة بلا حب.
وقال أبو بكر الكتَّاني
(1)
: جرت مسألةٌ في المحبة بمكة أيام الموسم، فتكلم الشيوخ فيها، وكان الجنيد أصغرهم سنًّا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي! فأطرق رأْسه، ودمعت عيناه، ثم قال: عبد ذاهبٌ عن نفسه، مُتَّصل بذكر ربه، قائمٌ بأداء حقوقه، ناظرٌ إليه بقلبه، أحرق قلبه أنوارُ هويته، وصفا شربه من كأس وده، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فمن الله، وإن تحرك فبأمر الله، وإن سكت فمع الله. فهو بالله، ولله، ومع الله، فبكى الشيوخ، وقالوا: ما على هذا مزيد، جزاك الله يا تاج العارفين!
وقيل: أوحى الله إلى داود ــ عليه السلام ــ: يا داودُ! إني حرمتُ على القلوب أن يدخلها حبي وحبُّ غيري.
وأجمع العارفون كلهم: أن المحبة لا تصحُّ إلا بالموافقة، حتَّى قال بعضهم: حقيقة المحب موافقة المحبوب في مراضيه، ومساخطه،
(1)
ذكره عنه المؤلف في مدارج السالكين (3/ 16).
واتفق القوم: أن المحبة لا تصحُّ إلا بتوحيد المحبوب.
ويُحْكَى: أن رجلًا ادعى الاستهلاك في محبة شخصٍ، فقال له: كيف وهذا أخي أحسن مني وجهًا، وأتمُّ جمالًا؟ فالتفت الرجل إليه، فدفعه الشابُّ، وقال: من يدعي هوانا ينظر إلى سوانا؟!
وذُكرت المحبة عند ذي النُّون، فقال: كُفُّوا عن هذه المسألة، لا تسعها النفوس فتدعيها، ثم أنشأ يقول:
الخوف أولى بالمُسي
…
ءِ إذا تألَّه والحزنْ
والحُبُّ يجملُ بالتقي
…
وبالنَّقِيِّ من الدَّرنْ
وقال سمنون: ذهب المحبُّون لله بشرف الدُّنيا والآخرة. لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المرءُ مع من أحبَّ»
(1)
فهم مع الله في الدنيا والآخرة.
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادقٍ من ادَّعى محبَّته، ثمَّ لم يحفظ حدوده.
فصل
فالمحبة شجرةٌ في القلب، عروقها الذلُّ للمحبوب، وساقها معرفته، وأغصانُها خشيتُه، وورقُها الحياء منه، وثمرها طاعته، ومادَّتها التي تسقيها ذِكْرُه، فمتى خلا الحبُّ عن شيءٍ من ذلك؛ كان ناقصًا.
وقد وصف الله ــ سبحانه ــ نفسه بأنه يحب عباده المؤمنين،
(1)
سبق تخريجه (ص 38).
ويحبونه، وأخبر أنهم أشد حبًّا [156 أ] لله، ووصف نفسه بأنه الودود، وهو الحبيب. قاله البخاري
(1)
. والوُدُّ: خالصُ الحب، فهو يودُّ عباده المؤمنين، ويودُّونه.
وقد روى البخاري في صحيحه
(2)
من حديث أنس بن مالك ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه ــ تبارك وتعالى ــ: أنه قال: «من أهان لي وليًّا؛ فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبد ي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزالُ عبد ي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته؛ كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويدهُ التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأُعطينه، ولئن استعاذ بي لأُعيذنه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت، وأكره مساءتهُ ولابد له منه» .
(1)
في صحيحه (13/ 403).
(2)
أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة. وأما حديث أنس فقد أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية (8/ 318 - 319)، والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 121) من طريق صدقة بن عبد الله عن هشام الكناني عن أنس. وصدقة ضعيف. وانظر الكلام على طرق الحديث وشرحه في جامع العلوم والحكم (2/ 330 وما بعدها)، وفتح الباري (11/ 341 وما بعدها)، والسلسلة الصحيحة (1640).
وفي لفظ غير البخاري
(1)
: «فإذا أحببته؛ كنت له سمعًا، وبصرًا، ويدًا، ومؤيدًا» . فتأمل كمال الموافقة في الكراهة، كيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه! وكمال الموافقة في الإرادة، كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه، وإجابة طلباته، وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة ــ رضي الله عنها ــ للنبي صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك
(2)
.
وقال له عمه أبو طالب: يا ابن أخي! ما أرى ربك إلا يطيعك! فقال: «وأنت يا عم! لو أطعته؛ أطاعك»
(3)
.
وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء/ 125] قال: حبيبًا قريبًا، إذا سألهُ؛ أعطاه، وإذا دعاه؛ أجابه. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام: يا موسى! كن لي كما أُريد؛ أكن لك كما تريد.
وتأمل هذه الباء في قوله: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، كيف تجدها مبينة لمعنى قوله: كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره
(1)
في حديث أنس المذكور.
(2)
أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464) عن عائشة.
(3)
أخرجه ابن عدي في الكامل (7/ 102)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/ 184) من حديث أنس. وفي إسناده هيثم بن جماز البكاء، وهو ضعيف.
الذي يبصر به
…
إلى [156 ب] آخره! فإن سمع؛ سمع بالله، وإن أبصر؛ أبصر به، وإن بطش؛ بطش به، وإن مشى؛ مشى به. وهذا تحقيق قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل/ 128] وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت/ 69] وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال/ 19]، وقوله فيما رواه عنه رسوله:«أنا مع عبد ي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه»
(1)
. وهذا ضد قوله: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} [الأنبياء/ 43] فالصحبة التي نفاها هاهنا هي التي أثبتها لأحبابه، وأوليائه وتأمل كيف جعل محبته لعبده متعلقةً بأداء فرائضه! وبالتقرب إليه بالنوافل بعدها لا غير، وفي هذا تعزيةٌ لمدعي محبته بدون ذلك: أنه ليس من أهلها، وإنما معه الأماني الباطلة، والدعاوي الكاذبةُ.
وفي الصحيحين
(2)
من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحب الله العبد؛ نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبُّوه! فيُحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض» . وفي لفظ
(1)
ذكره البخاري تعليقًا في صحيحه (13/ 499). وأخرجه أحمد (2/ 540) والبخاري في خلق أفعال العباد (344)، وابن المبارك في الزهد (956) من حديث أبي هريرة مرفوعًا. وانظر فتح الباري (13/ 500)، وتغليق التعليق (5/ 363).
(2)
البخاري (6040)، ومسلم (2637/ 157).
وفي لفظٍ آخر له
(1)
عن سهيل بن أبي صالح قال: كنا بعرفة، فمرَّ عمر بن عبد العزيز، وهو على الموسم، فقام الناس ينظرون إليه، فقلت لأبي: يا أبت! إني أرى الله يحبُّ عمر بن عبد العزيز! قال: وما ذاك؟ قلت: لما له من الحبِّ في قلوب الناس! فقال: إني سمعتُ أبا هريرة
ــ رضي الله عنه ــ يُحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الحديث. وأخرجه الترمذي
(2)
، ثم زاد في آخره: فذلك قولُ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ [157 أ]
…
الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم/ 96] انتهى. وقال بعضُ السلف في تفسيرها: يحبهم، ويحببهم إلى عباده.
وفي الصحيحين
(3)
من حديث أنسٍ ــ رضي الله عنه ــ: أن رجلًا
(1)
برقم (2637/ 158).
(2)
برقم (3160).
(3)
البخاري (6167)، ومسلم (2639).
سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال:«وما أعددتَ لها؟» قال: لا شيء إلا أني أُحبُّ الله ورسوله! فقال: «أنت مع من أحببتَ» قال أنس ــ رضي الله عنه ــ: فما فرحنا بشيءٍ فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت» قال أنس: فأنا أُحب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر، وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبِّي إيَّاهم، وإن لم أعمل أعمالهم.
وفي الترمذيِّ
(1)
عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المرء مع من أحبَّ، وله ما اكتسب» .
وفي سنن أبي داود
(2)
عنه قال: ما رأيتُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرحوا بشيءٍ أشدَّ منه، قال رجلٌ: يا رسول الله! الرجل يحب الرجل على العمل من الخير يعمل به ولا يعمل بمثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«المرء مع من أحب» .
وهذه المحبة لله توجب المحبة في الله قطعًا، فإن من محبة الحبيب المحبة فيه والبغض فيه.
وقد روى مسلم في صحيحه
(3)
من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى يوم القيامة: أينَ المُتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظِلّهم في ظلي يوم لا ظل إلَاّ ظلي» .
(1)
برقم (2386). وسبق.
(2)
برقم (5127).
(3)
برقم (2566).
وفي جامع الترمذي
(1)
من حديث مُعاذ بن جبل ــ رضي الله عنه ــ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله عز وجل: المُتحابون بجلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون، والشهداء» . وفي لفظ لغيره
(2)
: «المُتحابون بجلال الله يكونون يوم القيامة على منابر من نور يغبطهم أهل الجمع» .
وفي «الموطأ»
(3)
من حديث أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتًى برَّاق الثنايا والناس حوله، فإذا اختلفوا في شيءٍ؛ أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، فقالوا: هذا مُعاذ بن جبل! فلما كان الغدُ هجَّرت فوجدتُه قد سبقني [157 ب] بالتهجير، ووجدته يصلي، فانتظرتُه حتى قضى صلاته، ثم جئته من قبل وجهه، فسلمتُ عليه ثم قلت: والله إني لأُحبُّك في الله، فقال: آلله؟ قلت: آلله! فقال: آلله؟ فقلت: آلله! فأخذ بحبوة ردائي، فجبذني إليه، وقال: أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيَّ، والمتباذلين فيَّ» .
وفي سنن أبي داود
(4)
من حديث أبي ذرٍّ ــ رضي الله عنه ــ قال: قال
(1)
برقم (2390). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2)
ذكره ابن الأثير في جامع الأصول (6/ 551) وعزاه إلى رزين.
(3)
2/ 953، 954. وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 229، 233).
(4)
برقم (4599)، وأخرجه أيضًا أحمد (5/ 146)، كلاهما من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن رجل عن أبي ذر به. ويزيد ضعيف لسوء حفظه، والرجل مجهول، فالحديث ضعيف، انظر السلسلة الضعيفة (1310).
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الأعمال: الحب في الله، والبغض في الله» .
وفيه أيضًا
(1)
عن عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله» قالوا: يا رسول الله! تخبرنا من هم؟ قال: «هم قومٌ تحابوا بروح الله على غير أرْحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها. فوالله إن وجوههم لنورٌ! وإنهم لعلى نورٍ، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» وقرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس/ 62].
وفي لفظ لغيره
(2)
: «إن لله عبادًا ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء بمكانهم من الله» قالوا: يا رسول الله! صِفْهم لنا، جَلِّهم لنا، لعلنا نحبُّهم؟ قال:«هم قومٌ تحابوا بروح الله على غير أموال تباذلوها، ولا أرحامٍ تواصلوها، هم نورٌ، ووجوههم نورٌ، وعلى كراسي من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس» ثم قرأ هذه الآية: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس/ 62].
(1)
أبو داود (3527). وإسناده منقطع، أبو زرعة لم يدرك عمر بن الخطاب.
(2)
أخرجه ابن حبان في صحيحه (573) عن أبي هريرة.
وفي صحيح مسلم
(1)
من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلًا زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه؛ قال: أين تُريد؟ قال: أُريد أخًا لي في هذه القرية. قال: لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا! غير أني أُحبُّهُ في [158 أ] الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك: أنَّ الله قد أحبَّك كما أحبَبْتَهُ فيه» .
وقال رجلٌ لمُعاذ: إني أحبك في الله! قال: أحبَّك الذي أحببتني له.
وفي سنن أبي داود
(2)
: أن رجلًا كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرَّ رجلٌ، فقال: يا رسول الله! إنِّي لأُحبُّ هذا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أعْلَمْتَهُ؟» قال: لا! قال: «فأعْلِمْهُ» ، فلحقه، فقال: إني أُحبُّك في الله! قال: أحبَّك الذي أحببتني له.
وفيها أيضًا
(3)
: عن المقدام بن معدي كرب ــ رضي الله عنه ــ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أحبَّ الرَّجُلُ أخاهُ؛ فليُخْبرِهُ أنَّهُ يُحِبُّهُ» .
(1)
برقم (2567).
(2)
برقم (5125). وأخرجه أيضًا أحمد (3/ 141، 150)، وابن حبان في صحيحه (571)، والحاكم في المستدرك (4/ 171). وهو حديث حسن.
(3)
أبو داود (5124). وأخرجه أيضًا أحمد (4/ 130)، والبخاري في الأدب المفرد (542)، والترمذي (239 مكرر)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (206). وقال الترمذي: حديث المقدام حديث حسن صحيح غريب.
وفي الترمذي
(1)
من حديث يزيد بن نعامة الضَّبِّيِّ ــ رضي الله عنه ــ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا آخى الرَّجُل الرَّجُل؛ فليسأله عن اسمه، واسم أبيه، وممنْ هُو، فإنه أوْصلُ للمودَّة» .
وفي صحيح مسلم
(2)
من حديث أبي هريرة ــ رضي الله عنه ــ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده! لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أوَ لا أدُلُّكُمْ على شيءٍ إذا فعلْتُمُوهُ تحابَبْتُمْ؟ أفْشُوا السَّلام بيْنكُمْ» .
وقال الإمام أحمد
(3)
: حدَّثنا حجاج بن محمد التِّرمذيُّ، أنبأنا إسرائيل، حدثنا شريك، عن أبي سنان، عن عبد الله بن أبي الهُذيل، عن عمَّار بن ياسر: أنَّ أصحابه كانوا ينتظرونه، فلما خرج؛ قالوا: ما أبطأك عنَّا أيها الأمير؟! قال: أما إنِّي سوف أحدِّثكم: أنَّ أخًا لكم ممَّن كان قبلكم، وهو موسى عليه السلام قال: يا ربِّ! حدّثني بأحبِّ الناس إليك، قال: ولِمَ؟ قال: لأحبَّه لِحبِّك إيَّاه، قال: عبد في أقصى الأرض، أو طرف الأرض، سمع به عبد آخرُ في أقصى، أو طرف الأرض، لا يعرفه،
(1)
برقم (2392). وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، ولا نعرف ليزيد بن نعامة سماعًا من النبي صلى الله عليه وسلم. ويُروى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا، ولا يصح إسناده.
(2)
برقم (54).
(3)
في الزهد (ص 87 - 88).
فإن أصابته مصيبةٌ؛ فكأنَّما أصابته، وإن شاكته شوكةٌ؛ فكأنَّما شاكته، لا يحبُّه إلَّا لي، فذلك أحبُّ خلقي إليَّ. وقال: يا ربّ خلقت خلقًا تدخلهم النار، أو تعذِّبهم، فأوحى الله إليه: كلُّهم [158 ب] خلقي، ثم قال: ازرع زرعًا. فزرعهُ، فقال: اسقه، فسقاه، ثم قال: قم عليه. فقام عليه ما شاء الله من ذلك، فحصده، ورفعه، فقال: ما فعل زرعك يا موسى؟! قال: فرغتُ منه ورفعته، قال: ما تركت منه شيئًا؟ قال: ما لا خيرَ فيه، أو ما لا حاجة لي فيه، قال: فكذلك: أنا لا أُعذّب إلا من لا خير فيه.
فصل
ولو لم يكن في محبة الله إلَّا أنَّها تنجي مُحِبَّهُ من عذابه؛ لكان ينبغي للعبد ألَّا يتعوَّض عنها بشيءٍ أبدًا.
وسئل بعض العلماء: أين تجد في القرآن: أن الحبيب لا يعذِّب حبيبه؟ فقال: في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة/ 18].
وقال الإمام أحمد
(1)
: حدثنا إسماعيل بن يونس عن الحسن
ــ رضي الله عنه ــ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يعذِّب الله حبيبهُ! ولكن قد يبتليه في الدنيا» .
(1)
في الزهد (ص 54).
وقال أحمد
(1)
: حدثنا سيَّار، حدَّثنا جعفر، حدثنا أبو غالبٍ، قال: بلغنا أنَّ هذا الكلام في وصية عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم: يا معشر الحواريّين! تحبَّبوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقرَّبوا إليه بالمقت لهم، والتمسوا رضاه بسخطهم. قالوا: يا نبي الله! فمن نجالس؟ قال: جالسوا من يزيدُ في أعمالكُم منطقُه، ومن تذكركم بالله رؤيته، ويزهِّدكم في دنياكم عمله.
ويكفي في الإقبال على الله ثوابًا عاجلاً: أن الله ــ سبحانه وتعالى ــ يُقبل بقلوب عباده إلى من أقبل عليه، كما أنه يُعرض بقلوبهم عمَّن أعرض عنه، فقلوب العباد بيد الله لا بأيديهم.
وقال الإمام أحمد
(2)
: حدَّثنا حسين في تفسير شيبان عن قتادة قال: ذُكر لنا أنَّ هَرِم بن حيَّان كان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله ــ عز وجل ــ بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودَّتهم ورحمتهم.
وقد روي هذا مرفوعًا
(3)
، ولفظه: «وما أقبل عبد على الله بقلبه إلَّا أقبل الله عليه بقُلوب عبادهِ، وجعل قُلُوبهم تفدُ إليه بالْوُدِّ، [159 أ]
(1)
في الزهد (ص 54).
(2)
في الزهد (ص 232).
(3)
أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (5021) من حديث أبي الدرداء. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/ 248): فيه محمد بن سعيد بن حسان المصلوب، وهو كذاب.
والرَّحمة، وكان الله بكل خيرٍ إليه أسرع».
وإذا كانت القلوب مجبولةً على حُبِّ من أحسن إليها، وكل إحسان وصل إلى العبد فمن الله ــ عز وجل ــ كما قال الله تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل/ 53] فلا ألأمَ ممَّن شغل قلبه بحب غيره دونه.
قال الإمام أحمد
(1)
: حدثنا أبو معاوية، قال: حدَّثني الأعمش عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، قال: أوحى الله إلى داود ــ عليه السلام ــ: يا داود! أحببني، وحبِّب عبادي إليَّ، وحببني إلى عبادي. قال: يا ربِّ! هذا أنا أُحبك، وأُحبِّبُ عبادك إليك، فكيف أُحبِّبك إلى عبادك؟ قال: تذكرني عندهم، فإنهم لا يذكرون منِّي إلا الحسن.
ومن أفضل ما سئل الله ــ عز وجل ــ حبُّه وحبُّ من يحبُّه، وحبُّ عملٍ يقرب إلى حبِّه، ومن أجمع ذلك أن يقول
(2)
: «اللهمَّ! إني أسألك حُبَّك، وحُبَّ من يحبُّك، وحُبَّ عملٍ يقرِّبني إلى حبك، اللهمَّ! ما رزقتني مما أُحبُّ؛ فاجعله قوَّةً لي فيما تُحبُّ، وما زوْيتَ عني مما لا
(1)
في الزهد (ص 72). وفيه «المنهال عن أبي عبد الله الجدلي» .
(2)
لم أجد الدعاء بهذا السياق فيما رجعت إليه من المصادر، ولعل المؤلف جمع فيه ما رُوِي مفرقًا، والفقرة الأولى منه أخرجها الترمذي (3235) من حديث معاذ. والفقرة الثانية أخرجها الترمذي (3491) من حديث عبد الله بن يزيد الخطمي. والفقرة الثالثة أخرجها الترمذي (3490) من حديث أبي الدرداء.
أحب؛ فاجعله فراغًا لي فيما تُحبُّ؛ اللهم! اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من أهلي، ومالي، ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم! حبّبني إليك، وإلى ملائكتك، وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين. واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك وأنبياءك وعبادك الصالحين. اللهمَّ! أحي قلبي بحبِّك، واجعلني لك كما تحبُّ. اللهم! اجعلني أُحبُّك بقلبي كلِّهِ، وأرضيك بجهدي كله. اللهم! اجعل حبي كله لك، وسعيي كله في مرضاتك.
وهذا الدعاء هو فُسطاط خيمة الإسلام؛ الذي قيامُها به، وهو حقيقةُ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والقائمون بحقيقة ذلك هم:{بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج/ 33] والله سبحانه تعرَّف إلى عباده من أسمائه، وصفاته، وأفعاله بما يوجب محبتهم له، فإن القلوب مفطورةٌ على محبة الكمال، ومن قام به، والله ــ سبحانه وتعالى ــ له الكمالُ المطلق [159 ب] من كل وجهٍ؛ الذي لا نقص فيه بوجهٍ ما، وهو سبحانه الجميل الذي لا أجمل منه، بل لو كان جمالُ الخلق كلهم على رجل واحدٍ منهم، وكانوا جميعُهم بذلك الجمال لما كان لجمالهم نسبةٌ قطُّ إلى جمال الله، بل كانت النسبة أقل من نسبة سراجٍ ضعيفٍ جدًّا إلى جرم الشمس {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل/ 60].
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «إن الله جميلٌ يحب الجمال» عبد الله