الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث عشر
في أنَّ اللذَّة تابعةٌ لِلْمَحَبَّة في الكمال والنُّقصان
فكلَّما قَوِيَتِ المحبَّةُ قويت اللذَّةُ بإدراك المحبوب، وهذا البابُ من أجلِّ أبواب الكتاب، وأنفعِها، ونذكرُ فيه بيانَ معرفة اللذَّة، وأقسامها، ومراتبها، فنقول: أما اللذَّة ففُسِّرت بأنَّها إدراكُ المُلائم، كما أنَّ الألم إدراك المُنافي.
قال شيخنا: والصَّوابُ: أنْ يُقال: إدراكُ المُلائم يُسببُ اللذَّة، وإدراك المُنافي يُسبب الألم، ف
اللذَّة والألم يَنْشآن عن إدراك المُلائم والمُنافي
، والإدراك سببٌ لهما، واللذَّة أظهر من كل ما يُعرَّف به، فإنها أمرٌ وجدانيٌّ، وإنما تُعْرَف بأسبابها وأحكامها. واللذَّة، والبهجةُ، والسرورُ، وقُرَّة العين، وطيب النَّفس، والنَّعيمُ ألفاظٌ مُتقاربةُ المعنى، وهي أمرٌ مطلوبٌ في الجملة، بل ذلك مقصود كلِّ حيٍّ، وذلك أمرٌ ضروريٌّ مِنْ وجوده، وذلك في المقاصد والغايات بمنزلة الحِسِّ والعلوم البديهية في المبادئ والمقدّمات، فإنَّ كل حيٍّ له علمٌ وإحساسٌ، وله عملٌ وإرادةٌ، وعلمُ الإنسان لا يجوزُ أن يكون كلُّه نظريًّا استدلاليًّا؛ لاستحالة الدَّور والتسلسل، بل لابدَّ له مِنْ علمٍ أوَّليٍّ بديهيٍّ، يَبْدَهُ النَّفسَ، ويبتدئ فيها، فلذلك يُسمَّى بديهيًّا وأوَّليًّا، وهو من نوع ما تُضطرُّ إليه النَّفس، فيُسمَّى ضروريًّا.
فإنَّ النفس تُضطرُّ إلى العلم تارةً، وإلى العمل أُخرى، وكذلك العملُ الاختياريُّ المراديُّ له مُرادٌ، فذلك المرادُ إمَّا أن يُراد لنفسه، أو لشيءٍ آخر، ولا يجوزُ أن يكون كلُّ مرادٍ مرادًا لغيره؛ حذرًا من الدَّور والتَّسلسل، فلابدَّ من مرادٍ مطلوبٍ محبوبٍ لنفسه، فإذا حصل المطلوبُ المرادُ المحبوب؛ فاقترانُ اللذَّة، والنِّعمة، [59 أ] والفرح، والسُّرور، وقُرَّة العين به على قدر قوَّة محبته، وإرادته ورغبته فيه، وذلك أمرٌ ذَوْقِيٌّ وجديٌّ، ولهذا يغلِب على أهل الإرادة والعمل من السَّالكين اسمُ الذوق والوَجد؛ لما في وجود المراد المطلوب من الذَّوق والوجد الموجب للفرح، والسُّرور، والنَّعيم.
فها هنا ثلاثةُ أنواعٍ من الأسماء متقاربة المعاني:
أحدُها: الشَّهوةُ، والإرادةُ، والميل، والطلب، والمحبَّة، والرغبةُ، ونحوُها.
الثاني: الذَّوقُ، والوَجدُ، والوصولُ، والظَّفَرُ، والإدراكُ، والحصولُ، والنَّيْلُ، ونحوُها.
الثالث: اللذَّةُ، والفرَح، والنعيم، والسرور، وطيب النفس، وقرّة العين، ونحوُها.
وهذه الأمور الثلاثة متلازمةٌ.
فصل
وإذا كانت اللذَّةُ مطلوبةً لنفسها فهي إنَّما تُذَمُّ؛ إذا أعقبتْ ألمًا أعظمَ منها، أو منعت لذَّةً خيرًا منها، وتُحْمَدُ؛ إذا أعانت على اللذَّة الدائمة المستقرة، وهي لذةُ الدار الآخرة ونعيمها؛ الذي هو أفضلُ نعيم وأجلُّه، كما قال الله تعالى:{وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف/ 56 ــ 57]، وقال تعالى:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل/ 30]، وقال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى/ 16 ــ 17].
وقال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت/ 64] وقال العارفون بتفاوتِ مابين الأمرين لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه/ 72 ــ 73].
والله سبحانه إنما خلق الخلق لدار القرار، وجعل اللذة كلَّها بأسرها فيها، كما قال الله تعالى:{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف/ 71]، وقال تعالى:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة/ 17]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: أَعْدَدْتُ لعِبَادي الصالحين ما لا عينٌ رأتْ، ولا
أُذُنٌ سمعتْ، ولا خطر [59 ب] على قلب بشرٍ، بَلْه ما اطَّلَعْتُمْ عليه»
(1)
أي: غير ما اطلعتم عليه، وهذا هو الذي قصده النَّاصحُ لقومه، الشفيقُ عليهم؛ حيث قال:{يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر/ 38 ــ 39] فأخبرهم أنَّ الدُّنيا متاعٌ يُتَمتعُ بها إلى غيرها، والآخرة هي المستقرُّ والغاية.
فصل
وإذا عُرِفَ
(2)
أنَّ لَذّاتِ الدنيا ونعيمها متاعٌ، ووسيلةٌ إلى لَذَّات الدَّار الآخرة، ولذلك خُلقت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الدُّنيا مَتَاعٌ، وخَيْرُ مَتاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»
(3)
= فكلُّ لذَّة أعانتْ على لَذَّات الدار الآخرة؛ فهي محبوبةٌ مَرْضِيَّةٌ للرَّب تعالى، فصاحبُها يلتذُّ بها من وجهين: من جهة تنعُّمه وقُرَّة عينه بها، ومن جهة إيصالها له إلى مرضاة ربِّه، وإفضائها إلى لذَّةٍ أكمل منها، فهذه هي اللذَّة التي ينبغي للعاقل أن يسعى في تحصيلها، لا اللذَّة التي تُعْقِبُهُ غايةَ الألم، وتفوِّتُ عليه أعظمَ اللذَّات.
(1)
أخرجه البخاري (3244، 4779، 7498)، ومسلم (2824) من حديث أبي هريرة.
(2)
ت: «عرفت» .
(3)
أخرجه مسلم (1467) من حديث عبد الله بن عمرو.
ولهذا يثابُ المؤمنُ على كلِّ ما يلتذُّ به من المباحات؛ إذا قصد به الإعانة، والتوصُّل إلى لذَّة الآخرة، ونعيمها، فلا نسبة بين لذَّة الحرام ولذَّة صاحب الزَّوجة، أو الأمةِ الجميلة؛ التي يحبها، وعينُه قد قَرَّت بها، فإنَّه إذا باشرها، والتذَّ قلبُه، وبدنُه، ونفسُه بوصالها؛ أُثيب على تلك اللذة في مقابلة عقوبة صاحب اللذَّة المحرَّمة على لذَّته،، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«وفي بُضْع أحَدِكُمْ أجْرٌ» . قَالُوا: يا رسول الله! يأْتي أحدُنا شهْوتَهُ ويكون لهُ فيها أجْرٌ؟! قال: «أرأيْتُمْ لَوْ وَضَعها في الحَرامِ أكانَ عليهِ وِزْرٌ؟» قالوا: نعم. قال: «فكذلك إذا وضعها في الحلال يكونُ لهُ أجرٌ»
(1)
.
واعلم أنَّ هذه اللذَّةَ تتضاعف، وتتزايد بحسب ما عند العبد من الإقبال على الله، وإخلاص العمل له، والرَّغبة في الدار الآخرة، فإنَّ الشهوة واللذاذة المنقسمة في الصُّور اجتمعت [60 أ] له في صورةٍ واحدة، والخوف والهمَّ والغمَّ الذي في اللَّذة المحرَّمة معدومٌ في لذَّته، فإذا اتفق له مع هذا صورةٌ جميلةٌ، ورُزق حُبَّها، ورُزقت حُبَّه، وانصرفت دواعي شهوته إليها، وقصر بصره عن النَّظر إلى سواها، ونفسه عن التطلُّع إلى غيرها، فلا مناسبة بين لذَّته ولذَّة صاحب الصورة المحرَّمة، وهذا أطيب نعيم يُنالُ من الدُّنيا، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم ثالث ثلاثة بها يُنال خيرُ الدُّنيا والآخرة، وهي: «قلبٌ شاكرٌ، ولسانٌ ذاكرٌ، وزوجةٌ حسناءُ،
(1)
أخرجه مسلم (1006) من حديث أبي ذر.
إن نظر إليها؛ سرَّته، وإن غاب عنها، حفظته في نفسها وماله»
(1)
، والله المستعان.
وقال القاسم بن عبد الرحمن
(2)
: كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقرأُ القرآن، فإذا فرغ قال: أين العُزّاب؟ فيقول: ادنوا مني، قولوا: اللهم ارزقني امرأةً إذا نظرتُ إليها سرتني، وإذا أمرتُها أطاعتني، وإذا غِبْت عنها حفظت غيبتي في نفسها ومالي.
والألمُ، والحزنُ، والهمُّ، والغمُّ ينشأُ من عدم العلم بالمحبوب النَّافع، أو من عدم إرادته وإيثاره مع العلم به، أو من عدم إدراكه والظَّفر به مع محبته، وإرادته، وهذا من أعظم الألم.
ولهذا يكون ألمُ الإنسان في البرزخ وفي دار الحيوان بفوات محبوبه أعظم من ألمه بفواته في الدُّنيا من ثلاثة أوجه:
أحدُها: معرفتُه هناك بكمال ما فاته، ومقداره.
الثاني: شدَّةُ حاجته إليه، وشوقُ نفسه إليه، مع أنَّه قد حيل بينه وبينه، كما قال الله تعالى:{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ/ 54].
(1)
أخرجه أحمد (5/ 285)، والترمذي (1856)، وابن ماجه (3094) من حديث ثوبان. وقال الترمذي: حديث حسن.
(2)
أخرجه الخرائطي في «اعتلال القلوب» (ص 99)، وأبو الشيخ في «العظمة» (رقم 576).
الثالث: حصولُ ضدِّه المؤلم له.
فليتأمل العاقلُ هذا الموضع، وليُنْزِل نفسه منزلة من قد فاته أعظمُ محبوب، وأنفعُه، وهو أفقرُ شيءٍ، وأحوجُهُ إليه فواتًا لا يُرْجى تدارُكُه. وحصل على ضِدِّه، فيا لها من مصيبةٍ ما أوجعَها! وحالةٍ ما أفْظعها! فأين هذه الحال من حالة من يلتذُّ في الدُّنيا بكل ما يقصد به وجه الله سبحانه وتعالى من الأكل، والشُّرب، واللِّباس، [60 ب] والنكاح، وشفاء الغيظ بقهر العدو، وجهادٍ في سبيله؟! فضلًا عمَّا يلتذُّ به من معرفة ربه، وحبِّه له، وتوحيده، والإنابة إليه، والتوكُّل عليه، والإقبال عليه، وإخلاص العمل له، والرِّضا به، وعنه، والتفويض إليه، وفرح القلب وسروره بقربه، والأنس به، والشوق إلى لقائه، كما في الحديث الذي صحَّحه ابن حِبَّان، والحاكم:«وأسألُك لذَّة النَّظرِ إلى وجْهِكَ، والشوق إلى لِقَائِكَ»
(1)
.
وهذه اللذَّةُ لا تزال في الدُّنيا في زيادةٍ مع تنغيصها بالعدوِّ الباطن من الشيطان، والهوى، والنَّفس، والدُّنيا، والعدوِّ الظاهر، فكيف إذا تجرَّدت الروح، وفارقت دار الأحزان والآفات، واتَّصلت بالرفيق الأعلى {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء/ 69 ــ 70].
(1)
سبق تخريجه من حديث عمار. وهو في «صحيح ابن حبان» (1971)، و «المستدرك» (1/ 524).
فإذا أفضى إلى دار النَّعيم؛ فهناك من أنواع اللَّذة، والبهجة، والسُّرور ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فبؤْسًا، وتعسًا للنفوس الوضيعة الدنيئة؛ التي لا يَهُزُّها الشوقُ إلى ذلك طربًا، ولا تَتَّقِدُ نارُ إرادتها لذلك رغبًا، ولا تبعد عمَّا يَصُدُّ عن ذلك رهبًا، فبصائرُها كما قيل
(1)
:
خفافيشُ أعشاها النَّهارُ بضوئه
…
ولاءَمَها قِطْعٌ من اللَّيل مظلمُ
تجول حول الحُشِّ؛ إذا جالت النفوس العلويَّةُ حول العرش، وتندسُّ في الأحجار؛ إذا طارت النُّفوس الزكيَّة إلى أعلى الأوكار.
فلم تَرَ أمثال الرِّجالِ تَفاوَتُوا
…
إلى الفَضْلِ حتَّى عُدَّ أَلفٌ بواحدِ
(2)
فصل
وكلُّ لذَّةٍ أعقبت ألمًا، أو منعت لذَّةً أكمل منها؛ فليست بلذَّةٍ في الحقيقة، وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها، فأيُّ لذَّة لآكل طعامٍ شهيٍّ مسمومٍ يُقَطِّع أمعاءَه عن قريب؟
وهذه هي لذَّات الكُفَّار والفُسَّاق بعلوِّهم في الأرض، وفسادهم،
(1)
البيت لابن الرومي في «ديوانه» (ص 92)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 374) وقافيته «غَيْهبُ» .
(2)
البيت للبحتري في «ديوانه» (1/ 625)، و «التمثيل والمحاضرة» (ص 435)، و «زهر الآداب» (1/ 275). وفي النسختين:«ألف ألف بواحد» .
وفرحهم فيها بغير الحق، ومرحهم، وذلك مثل لذَّة الذين اتَّخذوا من دون [61 أ] الله أولياء يُحِبُّونهم كحبِّ الله، فنالوا بهم مودّةَ بَيْنِهمْ في الحياة الدُّنيا، ثم استحالت تلك اللذَّة أعظمَ ألمٍ وأمرَّه.
ومن ذلك لذَّةُ العقائد الفاسدة، والفرحُ بها، ولذَّةُ غلبة أهل الجور، والظلم، والعدوان، والزِّنى، والسرقة، وشرب المسكرات؛ وقد أخبر الله ــ سبحانه وتعالى ــ: أنَّه لم يُمكِّنهم من ذلك لخيرٍ يريده بهم، إنَّما هو استدراج منه ليُنِيلَهم به أعظم الألم، قال الله تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون/ 55 ــ 56] وقال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة/ 55].
فصل
وأمَّا اللذَّة التي لا تُعقب ألمًا في دار القرار، ولا تُوصل إلى لذَّةٍ هناك؛ فهي لذَّةٌ باطلةٌ؛ إذ لا منفعة فيها ولا مضرَّة، وزمنُها يسيرٌ، ليس لتمتُّع النفس بها قدر، وهي لابد أن تشغل عما هو خيرٌ وأنفعُ منها في العاجلة والآجلة؛ وإن لم تشغل عن أصل اللذَّة في الآخرة، وهذا القسم هو الذي عناه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله:«كلُّ لهْوٍ يِلْهُو به الرَّجُل فهو باطِلٌ إلا رَمْيَهُ بقوسهِ، وتَأْدِيبَهُ فرَسَهُ، ومُلاعبَتَهُ أهْلَهُ؛ فإنَّهُنَّ من الحَقِّ» رواه مسلم
(1)
.
(1)
الذي أخرجه مسلم (1918) من حديث عقبة بن عامر بلفظ: «ستفتح عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» . والحديث الذي ذكره المؤلف أخرجه أحمد (4/ 144)، وأبو داود (2513)، والترمذي (1637)، والنسائي (6/ 28، 222 - 223)، وابن ماجه (2811) من حديث عقبة بن عامر، وهو حديث صحيح.
ولهذا كانت لذَّة اللَّعب بالدفِّ في العُرس جائزةً؛ فإنها تُعين على النكاح، كما تُعين لذّةُ الرمي بالقوس وتأْديبِ الفرس على الجهاد، وكلاهما محبوبٌ لله. فما أعانَ على حصول محبوبه؛ فهو من الحقِّ، ولهذا عدّ ملاعبة الرجل امرأته من الحقِّ؛ لإعانتها على مقاصد النكاح الذي يُحبُّه الله سبحانه وتعالى، وما لم يُعِنْ على محبوب الربِّ تعالى؛ فهو باطلٌ، لا فائدة فيه، ولكن إذا لم تكن فيه مضرَّةٌ راجحةٌ؛ لم يَحْرُم، ولم يُنْه عنه، ولكن إذا صدَّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة؛ صارَ مكروهًا بغيضًا للربِّ عز وجل مَقِيتًا عنده، إمَّا بأصله، [61 ب] وإما بالتَّجاوُز فيه.
وكلُّ ما صدَّ عن اللذَّة المطلوبة؛ فهو وبالٌ على صاحبه، فإنَّه لو اشتغل حين مباشرته له بما ينفعه، ويَجْلِبُ له اللذَّةَ المطلوبة الباقية؛ لكان خيرًا له، وأنفع.
ولمَّا كانت النفوس الضَّعيفةُ كنفوس النساء والصِّبيان، لا تنقاد إلى أسباب اللذَّة العظمى إلَاّ بإعطائها شيئًا من لذة اللهو واللَّعب، بحيث لو فطمتْ عنه كل الفطام طلبت ما هو شرٌّ لها منه، رخِّص لها من ذلك ما لم يُرخَّصْ فيه لغيرها، وهذا كما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه
على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جَوارٍ يَضربْنَ بالدُّفِّ، فأسكتهنَّ لدخوله، وقال:«هذا رجُلٌ لا يُحِبُّ الْباطِل»
(1)
فأخبر: أنَّ ذلك باطل، ولم يمنعهنَّ منه؛ لما يترتب لهن عليه من المصلحة الراجحة، ويترُكنَ به مفسدةً أرجح من مفسدته، وأيضًا: فيحصلُ لهم من التَّأَلُّمِ بتركه مفسدةٌ هي أعظم من مفسدته، فتمكينُهم من ذلك من باب الرَّحمة، والشَّفقة، والإحسان، كما مكَّن النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا عُمَيرٍ من اللعب بالعصفور بحضرته
(2)
، ومكَّنَ الجاريتين من الغناء بحضرته
(3)
، ومكَّن عائشة رضي الله عنها من النظر إلى الحَبَشة وهم يلعبون في المسجد
(4)
، ومكَّن تلك المرأة أن تضربَ على رأْسه بالدُّف
(5)
، ونظائر ذلك.
فأين هذا من اتِّخاذ الشيوخ المشار إليهم المُقْتَدى بهم ذلك دينًا،
(1)
أخرجه أحمد (3/ 435) من حديث الأسود بن سريع، وليس فيه قصة ضرب الجواري بالدف. وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. ولكن أصل الحديث صحيح كما سيأتي.
(2)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (6129، 6203)، ومسلم (2150) عن أنس.
(3)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (949)، ومسلم (892) عن عائشة.
(4)
كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (454)، ومسلم (892) عن عائشة.
(5)
أخرجه أبو داود (3312)، والبيهقي (10/ 77) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وله شاهد من حديث بريدة، أخرجه أحمد (5/ 353، 356)، والترمذي (3691)، والبيهقي (10/ 77).
وطريقًا مع التوسُّع فيه غاية التوسُّع بما لا ريبَ في تحريمه؟
ونظيرُ هذا إعطاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من الزكاة والغنيمة؛ لضعف قلوبهم عن قلوب الرَّاسخين في الإيمان من أصحابه، ولهذا أعطى هؤلاء، ومنع هؤلاء، وقال: أكِلُهُم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغَنَاءِ والخير.
ونظير هذا: مزاحُه صلى الله عليه وسلم مع من كان يمزح معه من الأعراب، والصبيان، والنساء؛ تطييبًا لقلوبهم، واستجلابًا لإيمانهم، وتفريحًا لهم. وفي مراسيل الشَّعبيِّ: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مرَّ على أصحاب الدِّرَكْلَة فقال: «خذوا يا بني أرفدة حتَّى تعلمَ الْيَهُودُ والنَّصَارى [62 أ] أنَّ في دِيننا فُسْحةً» . ذكره أبو عُبيد
(1)
، وقال: الدِّركلة: لعبة العجم.
فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يبذُل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألَّفُها به على الحقِّ المأْمور به، ويكون المبذول ممَّا يلتذُّ به الآخذ، ويحبُّه، لأنَّ ذلك وسيلةٌ إلى غيره، ولا يفعل ذلك مع من لا يحتاج إليه، كالمهاجرين، والأنصار، بل يبذلُ لهم أنواعًا أُخر من الإحسان إليهم، والمنافع في دينهم ودنياهم.
ولمَّا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ممَّن لا يحبُّ هذا الباطل ولا سماعه، ولا يحتاج أن يُتَأَلَّف بما يُتألف به غيرُه، وليس مأْمورًا بما
(1)
في «غريب الحديث» (1/ 327). وأخرجه أحمد (6/ 116، 233) من حديث عائشة، والفقرة الأولى منه عند البخاري (950)، ومسلم (892) من حديث عائشة.