الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المجلد الثاني]
سنة إحدى ومائة
في رجب منها توفي الخليفة العادل، أمير المؤمنين وخامس الخلفاء الرّاشدين أبو حفص عمر بن عبد العزيز [1] بن مروان الأمويّ بدير سمعان من أرض المعرّة [2]
[1] في المطبوع: «عمر بن العزيز» وهو خطأ.
[2]
قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/ 144) : روى خليفة بن خيّاط وغيره، أن عمر بن عبد العزيز مات يوم الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة بدير سمعان من أرض حمص. قال: وإنما هو من أرض المعرّة، ولكن المعرّة كانت من أعمال حمص هي وحماة.
قلت: وذكر ابن قتيبة في «المعارف» ص (363) ، والسّيوطي في «تاريخ الخلفاء» ص (246) بأنه توفي في دير سمعان من أرض حمص. وفي ذلك تأييد لما ذكره الذهبي في «سير أعلام النبلاء» ، وتقوية لما ذهب إليه المؤلف ابن العماد رحمه الله.
واضطرب الفيروزآبادي في «القاموس المحيط» والزبيدي في «تاج العروس» (دير) في تحديد مكان وفاته، فجزما بأنه مات بدير سمعان من أرض دمشق وبه دفن، ثم ذكرا في مادة (سمع) بأنه دفن في دير سمعان من أرض حمص.
وجزم ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 517)، والحميري في «الروض المعطار» ص (251) بأنه دفن في دير سمعان بنواحي دمشق. قال ياقوت: وروي أن صاحب الدير دخل على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه بفاكهة أهداها له، فأعطاه ثمنها، فأبى الدّيراني أخذه، فلم يزل به حتى قبض ثمنها، ثم قال: يا ديراني إني بلغني أن هذا الموضع ملككم، فقال: نعم، فقال: إني أحب أن تبيعني منه موضع قبر سنة، فإذا حال الحول فانتفع به.
فبكى الدّيرانيّ، وباعه، فدفن فيه. وقال كثيّر:
سقى ربّنا من دير سمعان حفرة
…
بها عمر الخيرات رهنا دفينها
وله أربعون سنة [1] وخلافته سنتان وستة أشهر وأيام كخلافة الصّدّيق، وكان أبيض جميلا نحيف الجسم، حسن اللحية، بجبهته أثر حافر فرس شجّه وهو صغير، فلذا كان يقال: أشجّ بني أميّة، يذكر أن في «التوراة» أشجّ بني أميّة تقتله خشية الله، حفظ القرآن في صغره، وبعثه أبوه من مصر إلى المدينة فتفقه بها حتى بلغ رتبة [2] الاجتهاد. جده لأمه عاصم بن عمر بن الخطّاب، وذلك أن عمر خرج طائفا ذات ليلة فسمع امرأة تقول لبنيّة لها:
اخلطي الماء في اللبن، فقالت البنية: أما سمعت منادي عمر بالأمس ينهى عنه؟ فقالت: إنّ عمر لا يدري عنك، فقالت البنية: والله ما كنت لأطيعه علانية وأعصيه سرّا، فأعجب عمر عقلها، فزوجها ابنه عاصما، فهي جدة عمر بن عبد العزيز.
قال السيد الجليل رجاء بن حيوة [3] : استشارني سليمان بن عبد الملك فيمن يعهد إليه بالخلافة، فأشرت بعمر، فقال: فكيف ببني عبد الملك؟! فقلت: اكتب العهد واختمه وبايع لمن فيه، ففعل، فلما مات كتمنا موته، ثم قلت: بايعوا لأمير المؤمنين ثانيا على السمع والطاعة لمن في الكتاب، ففعلوا، فقلت: أعظم الله أجركم في أمير المؤمنين، ثم أخرجت الكتاب
صوابح من مزن ثقالا غواديا
…
دوالح دهما ماخضات دجونها
وقال الشريف الرضي:
يا بن عبد العزيز لو بكت العي
…
ن فتى من أميّة لبكيتك
أنت أنقذتنا من السّبّ والشت
…
م فلو أمكن الجزا لجزيتك
دير سمعان لا عدتك العوادي
…
خير ميت من آل مروان ميتك
وانظر «آثار البلاد وأخبار العباد» للقزويني ص (196) .
[1]
قلت: وفي «المعارف» أنه كان ابن تسع وثلاثين سنة. وفي «سير أعلام النبلاء» ، و «تاريخ الخلفاء» أنه كان ابن تسع وثلاثين سنة ونصف السنة.
[2]
في المطبوع: «مرتبة» .
[3]
في الأصل: «رجاء بن حياة» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب، وانظر ترجمته في ص (64) من هذا المجلد.
فوجموا [1] ولم يقولوا شيئا، ثم خرجوا في جنازته ركبانا، وخرج عمر يمشي، فلما رجعوا [2] أرسل عمر إلى نسائه من أرادت منكن الدّنيا فلتلحق بأهلها، فإن عمر قد جاءه شغل شاغل، فسمعت النوائح في بيته يومئذ.
وقال أيضا: قوّمت ثياب عمر وهو يخطب باثني عشر درهما، وكانت حلته قبل ذلك بألف درهم لا يرضاها، وقال: إن لي نفسا ذوّاقة توّاقة، كلما ذاقت شيئا تاقت [إلى][3] ما فوقه، فلما ذاقت الخلافة- ولم يكن شيء في الدّنيا فوقها- تاقت إلى ما عند الله في الآخرة، وذلك لا ينال إلّا بترك الدّنيا.
ومن كلامه- رضي الله عنه: ينبغي في القاضي خمس خصال:
العلم بما يتعلق به، والحلم عند الخصومة، والزّهد عند الطمع، والاحتمال للأئمة، والمشاورة لذوي العلم.
وعاتب مسلمة بن عبد الملك أخته فاطمة زوجة عمر في ترك غسل ثيابه في مرضه [4] فقالت: إنه لا ثوب له غيره.
وكان مع عدله وفضله حليما رقيق الطبع.
ومن ألطف ما حكي عنه ما ذكره في «مروج الذهب» [5] قال: كان رجل من [أهل] العراق أتى المدينة [6] في طلب جارية وصفت له قارئة [7] قوّالة،
[1] أي: سكتوا على غيظ. انظر «لسان العرب» (وجم) .
[2]
تحرفت في الأصل إلى «رجوا» ، وأثبت ما في المطبوع.
[3]
لفظه «إلى» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع. وتاقت أي: اشتاقت.
[4]
في المطبوع: «في مرض» وهو تحريف.
[5]
«مروج الذهب» (3/ 197- 199) بتحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[6]
في الأصل، والمطبوع:«كان رجل من المدينة أتى العراق» وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» ولفظة «أهل» التي بين حاصرتين زيادة منه.
[7]
تحرفت في «مروج الذهب» إلى «قارثة» فتصحح فيه.
فسأل عنها، فوجدها عند قاضي البلد، فأتاه، ثم سأله أن يعرضها عليه، فقال:
يا عبد الله لقد أبعدت الشّقّة [1] في طلب هذه الجارية، فما رغبتك فيها؟ لما رأى من شدة إعجابه [بها] [2] قال: إنها تغنّي فتجيد، فقال القاضي:
ما علمت بهذا، فألح عليه في عرضها، فعرضت [3] بحضرة مولاها القاضي، فقال لها الفتى: هات، فتغنّت [4] :
إلى خالد حتّى أنخن [5] بخالد
…
فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمّل
ففرح القاضي بجاريته وسرّ بها [6]، وغشيه من الطرب أمر عظيم حتّى أقعدها على فخذه وقال: هات بأبي أنت وأمي شيئا، فتغنّت [7] :
أروح إلى القصّاص كلّ عشيّة
…
أرجّي ثواب الله في عدد الخطا
فزاد الطرب على القاضي، ولم يدر ما يصنع، فأخذ نعله فعلّقها في أذنه وجثا على ركبتيه، وجعل يأخذ بإحدى أذنيه [8] والنعل معلّق فيها ويقول: أهدوني [إلى البيت الحرام][9] فإني بدنة، فلما أمسكت قال للفتى: يا حبيبي، انصرف، فقد كنا فيها راغبين قبل أن نعلم أنها تقول، ونحن الآن فيها أرغب، فانصرف الفتى، وبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فقال:
[1] في الأصل، والمطبوع:«أجدت الشقة» وهو خطأ، والتصحيح من «مروج الذهب» . والشّقّة:
بعد مسير إلى الأرض البعيدة، والشّقّة أيضا السفر الطويل. انظر «لسان العرب» (شقق) .
[2]
لفظة «بها» سقطت من الأصل والمطبوع، واستدركتها من «مروج الذهب» .
[3]
في الأصل، والمطبوع:«فعرضها» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[4]
في «مروج الذهب» : «فغنت» .
[5]
في الأصل، والمطبوع:«حتى أنخنا» والتصويب من «مروج الذهب» .
[6]
في «مروج الذهب» : «وسرّ بغنائها» .
[7]
في «مروج الذهب» : «فغنت» .
[8]
في «مروج الذهب» : «وجعل يأخذ بطرف أذنه» .
[9]
ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
قاتله الله، لقد استرقّه الطّرب، وأمر بصرفه عن عمله [1]، فلما صرف قال:
نساؤه طوالق، لو سمعها عمر لقال: اركبوني فإني مطية، فبلغ ذلك عمر، فأشخصه، وأشخص الجارية، فلما دخلا على عمر، قال له: أعد ما قلت، قال: نعم، فأعاده، ثم قال للجارية: قولي، فتغنّت [2] :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا
…
أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا
…
صروف اللّيالي والجدود العواثر [3]
فما فرغت [من هذا الشعر][4] حتّى طرب عمر طربا بيّنا [5] ، وأقبل يستعيدها ثلاثا، وقد بلّت دموعه لحيته، ثم أقبل على القاضي فقال:
لقد قاربت في يمينك، ارجع إلى عملك راشدا. انتهى.
وبالجملة فمناقبه عديدة قد أفردت بالتصنيف.
ومما رثاه به جرير:
لو كنت أملك والأقدار غالبة
…
تأتي رواحا وتبيانا [6] وتبتكر
رددت عن عمر الخيرات مصرعه
…
بدير سمعان لكن يغلب القدر [7]
وفيها، أو في سنة مائة، توفي ربعيّ بن حراش أحد علماء الكوفة وعبّادها،
[1] في «مروج الذهب» : «وأمر بصرفه من عمله» .
[2]
في «مروج الذهب» : «فغنت» .
[3]
في «مروج الذهب» : «والجدود العوائر» .
[4]
ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
[5]
في الأصل، والمطبوع:«حتى اضطرب عمر اضطرابا مبينا» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[6]
في الأصل، والمطبوع:«وتبييتا» وهو خطأ، والتصحيح من «سير أعلام النبلاء» ، و «البداية والنهاية» .
[7]
لم أجدهما في «ديوانه» المطبوع في دار المعارف بمصر بتحقيق الدكتور نعمان محمد أمين طه، وقد أوردهما الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (5/ 147) ، والعامري في «غربال الزمان» ص (94) ونسباهما لجرير. وأوردهما الحافظ ابن كثير في «البداية والنهاية» (9/ 212) مع أربعة أبيات، أخرى ونسبهما لمحارب بن دثار.
قيل: إنه لم يكذب قطّ، وشهد خطبة [عمر][1] بالجابية [2] وحلف لا يضحك حتّى يعلم أفي الجنّة هو أم في النّار.
وفيها مقسم [3] مولى ابن عبّاس، ولم يكن مولاه، بل مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، وأضيف إلى ابن عبّاس لملازمته إياه.
ومحمّد بن مروان بن الحكم، الأمير، ولد الخليفة مروان، وكان بطلا شجاعا شديد البأس، له عدة مصافّات [4] مع الرّوم، وكان متولي الجزيرة [5] وغيرها.
وفيها، وقيل: في سنة خمس وتسعين، الحسن بن محمّد بن الحنفيّة الهاشميّ العلويّ [6] .
روي أنه صنف كتابا في الإرجاء ثم ندم عليه، وكان من عقلاء قومه وعلمائهم.
وفيها استعمل يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة على إمرة العراقين، وأمره بمحاربة يزيد بن المهلّب- وكان قد خرج عليهم- فحاربه حتّى قتل في السنة الآتية.
[1] لفظة «عمر» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2]
الجابية: قرية من أعمال دمشق، ثم من عمل الجيدور من ناحية الجولان قرب مرج الصفّر في شمالي حوران، إذا وقف الإنسان في [بلدة] الصنمين واستقبل الشمال ظهرت له، وتظهر من نوى أيضا، وهي جابية الملوك، وباب الجابية بدمشق منسوب إليها. انظر «معجم ما استعجم» للبكري (1/ 355) ، و «معجم البلدان» لياقوت (2/ 91) .
[3]
قال الحافظ ابن حجر: هو مقسم بن بجرة، بضم الموحدة وسكون الجيم، ويقال نجدة بفتح النون وبدال، أبو القاسم. «تقريب التهذيب» (2/ 273) بتصرف.
[4]
أي: عدة مقابلات. انظر «لسان العرب» «صفف» .
[5]
يعني جزيرة أقور التي بين دجلة والفرات والمقسمة الآن بين أراضي سورية والعراق وتركيا. انظر «الأمصار ذوات الآثار» للذهبي ص (57) بتحقيقي، طبع دار ابن كثير.
[6]
نسبة إلى جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال الذهبيّ في «العبر» [1] : وممن توفي بعد المائة:
إبراهيم بن عبد الله بن حنين المدنيّ، له عن أبي هريرة.
وإبراهيم بن عبد الله [بن معبد][2] بن عبّاس الهاشميّ المدنيّ. له عن ابن عبّاس، وميمونة [3] .
وعبد الله بن شقيق العقيليّ البصريّ، سمع من عمر، والكبار.
والقطاميّ الشاعر المشهور [4] .
ومعاذة العدويّة [5] الفقيهة العابدة بالبصرة.
وعراك بن مالك المدنيّ.
ومورّق، العجليّ.
وبشير بن يسار، المدنيّ الفقيه.
[1]«العبر في خبر من عبر» (1/ 122) بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد، طبع وزارة الإعلام في الكويت.
[2]
ما بين حاصرتين سقط من الأصل، وأثبته من المطبوع، و «العبر» .
[3]
هي أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلالية المتوفاة سنة (51) هـ: انظر خبرها في المجلد الأول من كتابنا هذا ص (219) و (248) .
[4]
اختلف في اسمه فقيل: عمرو بن شييم، وقيل: عمير بن شييم، القطامي، واختلف في سنة وفاته أيضا. انظر «طبقات فحول الشعراء» (2/ 534) ، و «الأعلام» (5/ 88- 89) .
[5]
هي معاذة بنت عبد الله العدوية البصرية، أمّ الصّهباء. روت عن علي بن أبي طالب، وعائشة، وهشام بن عامر.
وحدّث عنها أبو قلابة الجرمي، ويزيد الرّشك، وعاصم الأحول، وعمر بن ذر، وإسحاق بن سويد، وأيوب السّختياني، وآخرون.
وحديثها محتج به في الصّحاح، وقد ساق الحافظ عبد الغني المقدسي أحد الأحاديث التي روتها عن السيدة عائشة مما أخرجه الشيخان وغيرهما في كتابه «عمدة الأحكام» ص (53- 54) بتحقيقي.
وقد ذكرت بعض المصادر والمراجع التي بين يديّ أنها ماتت سنة (83) هـ خلافا لما ذكره المؤلف ابن العماد رحمه الله، منها «سير أعلام النبلاء» (4/ 508- 509) ، و «الأعلام» (7/ 259) .
وأبو السّوّار العدويّ [1] البصريّ، صاحب عمران بن حصين.
وعبد الرّحمن بن كعب بن مالك الأنصاري.
وابن أخيه عبد الرّحمن بن عبد الله.
وحفصة بنت سيرين، الفقيهة العابدة.
وعائشة بنت طلحة التيميّة، التي أصدقها مصعب بن الزّبير مائة ألف دينار.
وعبد الرحمن بن أبي بكرة، أوّل من ولد بالبصرة.
ومعبد بن كعب بن مالك.
وذو الرّمّة الشاعر المشهور. انتهى.
قلت: وذو الرّمّة أحد فحول الشعراء، واسمه غيلان، [2] وأحد العشّاق
[1] قلت: جزم ابن معين في «معرفة الرجال» (2/ 98) طبع مجمع اللغة العربية بدمشق، والبخاري في «التاريخ الصغير» (1/ 194) ، وابن حبّان في «مشاهير علماء الأمصار» ص (96) بأن اسمه حسّان بن حريث، وفي «العبر» :«صاحب عمران بن حنين» وهو خطأ.
وقال ابن حجر في «تقريب التهذيب» (2/ 432) : قيل اسمه حسان بن حريث، وقيل:
حريث بن حسان، وقيل: حريف، آخره فاء، وقيل: منقذ، وقيل: حجير بن الربيع.
وذكر الذهبي في «الكاشف» (3/ 303) بأنه روى عن علي بن أبي طالب، وعمران بن حصين رضي الله عنهما. وذكره بكنيته ولم يذكر اسمه.
[2]
قال الزركلي: هو غيلان بن عقبة بن نهيس بن مسعود العدوي، من مضر، أبو الحارث، ذو الرّمّة، شاعر من فحول الطبقة الثانية في عصره. قال أبو عمرو بن العلاء، فتح الشعر بامرئ القيس، وختم بذي الرّمّة. وكان شديد القصر، دميما، يضرب لونه إلى السواد، أكثر شعره تشبيب وبكاء أطلال، يذهب في ذلك مذهب الجاهليين. وكان مقيما بالبادية، يحضر إلى اليمامة والبصرة كثيرا. وامتاز بإجادة التشبيه. قال جرير: لو خرس ذو الرّمّة بعد قصيدته: «ما بال عينك منها الماء ينسكب» لكان أشعر الناس. مات سنة (117) هـ. «الأعلام» (5/ 124) ، وانظر «شرح أبيات المغني» للبغدادي (1/ 233) .
قلت: وقد طبع ديوانه أربع مرات أفضلها وأجودها التي صدرت بتحقيق الدكتور عبد القدوس أبو صالح.
المشهورين من العرب، وصاحبته ميّة ابنة مقاتل بن طلبة [1] بن قيس بن عاصم المنقري التميميّ، [وقيس بن عاصم هو] [2] الذي قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين وفد عليه:«هذا سيّد أهل الوبر» [3] وهو أول من وأد البنات غيرة وأنفة.
وسبب فتنته بها، أنه لحظها وهي خارجة من خبائها [4] ، فخرّق إداوته [5] ثم دنا يستطعم حديثها، فقال إني مسافر [6] وقد تخرّقت إداوتي [7] فأصلحيها لي، فقالت: والله إني لخرقاء [8]- والخرقاء التي لا تحسن العمل لكرامتها على أهلها [9]- فشبّب بالخرقاء أيضا، وهي ميّة [10] .
[1] في الأصل، والمطبوع:«مقاتل بن طليب» وهو تحريف، والتصحيح من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (4/ 11) مصدر المؤلف.
[2]
ما بين حاصرتين سقط من الأصل، والمطبوع، واستدركته من «وفيات الأعيان» لابن خلكان.
[3]
قلت: قال الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (8/ 197) : قال ابن سعد: كان- قيس بن عاصم- قد حرّم الخمر في الجاهلية، ثم وفد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وفد بني تميم، فأسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«هذا سيّد أهل الوبر» ، وكان سيدا جوادا، ثم ساق بسند حسن إلى الحسن، عن قيس بن عاصم قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فلما دنوت منه قال:«هذا سيّد أهل الوبر» فذكر الحديث.
وذكر الحديث أيضا ابن عبد البر في «الاستيعاب» على هامش «الإصابة» (9/ 180) ، وابن الأثير في «أسد الغابة» (4/ 432) كلاهما في ترجمة قيس بن عاصم رضي الله عنه.
[4]
أي من بنائها.
وفي «ديوان ذي الرّمّة» و «وفيات الأعيان» : وهي خارجة من خباء» .
[5]
في الأصل، والمطبوع:«فخرق ثيابه أو دلوه» وهو خطأ، والتصحيح من «ديوان ذي الرّمّة» (1/ 370)، و «وفيات الأعيان» . قال الزبيدي في «تاج العروس» : الإداوة- بالكسر- المطهرة، وهي إناء صغير من جلد يتخذ للماء.
[6]
في «ديوان ذي الرّمّة» ، و «وفيات الأعيان» :«إني رجل على ظهر سفر» .
[7]
في الأصل والمطبوع: «أرداني» .
[8]
في الأصل، والمطبوع:«إني خرقاء» وأثبت ما في «ديوان ذي الرّمة» ، و «وفيات الأعيان» .
[9]
في «وفيات الأعيان» : «والخرقاء التي لا تعمل شغلا لكرامتها على أهلها» ، وعبارة كتابنا موافقة لعبارة «ديوان ذي الرّمة» .
[10]
قال الدكتور عبد القدوس أبو صالح في تعليقه على «ديوان ذي الرّمّة» (1/ 369) : اختلف في
ويروى [1] أن ذا الرّمّة لم ير ميّة قطّ إلّا في برقع، فأحبّ أن ينظر إلى وجهها فقال:
جزى الله البراقع من ثياب
…
عن الفتيان شرّا ما بقينا
بوارين الملاح فلا نراها
…
ويخفين القباح فيزدهينا [2]
فنزعت البرقع عن وجهها فقال:
على وجه ميّ مسحة من ملاحة
…
وتحت الثّياب العرّ [3] لو كان باديا [4]
خرقاء أهو لقب لميّة، أم هو اسم لغيرها؟ .. وقد نقل في «الخزانة» (1/ 52) عن ثعلب قوله: وكان ذو الرّمّة يسمي ميّة خرقاء لقولها: إني خرقاء. وذهب ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» ص (509) إلى قوله: وكان يشبب أيضا بخرقاء. وهي من بني البكاء بن عامر بن صعصعة. وقد ورد هذا النسب في «جمهرة الأنساب» ص (64) ، و «صفة جزيرة العرب» للهمداني ص (334) ، و «معاهد التنصيص» (2/ 262) ، و «شواهد المغني» للسيوطي (150) ، و «الخزانة» (4/ 495) ، و «الصحاح» ، و «اللسان» ، و «القاموس» (خرق) ، أما صاحب الأغاني (16/ 116- 120) فهو يذكر حينا أن خرقاء لقب لمية، ويذكر حينا آخر أنه لقب أو اسم لامرأة من بني عامر، وينقل أن ميّة أغضبت ذا الرّمّة فتغزل بخرقاء، يريد أن يغيظها بذلك، فقال فيها قصيدتين أو ثلاثا، ثم لم يلبث أن مات. وقد عمدت إلى استعراض «الديوان» كله، فرأيت ذا الرّمّة ذكر خرقاء وحدها في قصيدتين فقط، وذكرها مع ميّة في سبع قصائد، ويكاد الناظر في هذه القصائد المشتركة بينهما يجزم بأن خرقاء غير ميّة، ولا سيما أن الشاعر ما يلبث بعد ذكره ميّة في مطلع القصيدة (5) أن يتغزل بحسان ربيعة عامر وهم قوم خرقاء كما تقدم. بل إن أبا الفرج يعدد الأسباب التي قيلت في سبب عدوله إلى خرقاء «الأغاني» (16/ 119) . وهكذا لا نجد بدا من ترجيح ما ذهب إليه الأصمعي هنا، ولا سيما أن أبا نصر يذكر بعد قليل نسب خرقاء، وينقل خبرا عن لقاء محمد بن الحجّاج الأسدي بها، كما ينقل ابن قتيبة لقاء المفضل الضبي بها. ثم إن أبا الفرج يذكر أخبارا كثيرة عن خرقاء ويورد شعرا للقحيف العقيلي يتغزل فيه بها، وانظر «الأغاني» (20/ 140) .
[1]
في الأصل، والمطبوع:«يروى» وقد أثبت الواو من «وفيات الأعيان» .
[2]
البيان في ملحق «ديوانه» (3/ 1917) .
[3]
في المطبوع، و «وفيات الأعيان» :«العار» ، وفي ملحق «الديوان» :«الخزي» ، والعرّ:
الجرب. انظر «لسان العرب» (عرر) .
[4]
البيت في ملحق «ديوانه» (3/ 1921) .
فنزعت ثيابها وقامت عريانة فقال:
ألم تر أنّ الماء يخبث طعمه
…
وإن كان لون الماء أبيض صافيا [1]
فيا ضيعة [2] الشّعر الذي لجّ فانقضى
…
بميّ ولم أملك ضلال فؤاديا
فقالت [له][3] : أتحب أن تذوق طعمه؟ فقال: إي والله، فقالت:
تذوّق الموت قبل أن تذوقه.
ومن شعره السائر [فيها][4] قوله:
إذا هبّت الأرواح من نحو جانب
…
به أهل ميّ هاج شوقي هبوبها [5]
هوى تذرف العينان منه وإنّما
…
هوى كلّ نفس حيث [6] حلّ حبيبها [7]
وكان ذو الرّمّة يشبّب بخرقاء أيضا، ومن قوله فيها:
تمام الحجّ أن تقف المطايا
…
على خرقاء واضعة اللّثام [8]
قيل: كانت وفاته سنة سبع عشرة ومائة.
ولما حضرته الوفاة قال: أنا ابن نصف الهرم، أنا ابن أربعين سنة، وأنشد:
يا قابض الرّوح من نفس إذا احتضرت
…
وغافر الذّنب زحزحني عن النّار [9]
[1] البيت في ملحق «الديوان» (3/ 1921) .
[2]
في الأصل، والمطبوع:«فوا ضيعة» وأثبت لفظ ملحق «الديوان» (3/ 1923) .
[3]
لفظة «له» التي بين حاصرتين سقطت من الأصل، والمطبوع، واستدركتها من «وفيات الأعيان» .
[4]
لفظة «فيها» التي بين حاصرتين لم ترد في الأصل، والمطبوع، وأثبتها من «وفيات الأعيان» .
[5]
في الأصل، والمطبوع:«هاج قلبي هبوبها» والتصحيح من «ديوانه» .
[6]
في الأصل، والمطبوع:«أين» وأثبت ما جاء في «ديوانه» .
[7]
البيتان في «ديوانه» (2/ 694- 695) .
[8]
البيت في ملحق «ديوانه» (3/ 1913) .
[9]
لم أجد البيت في «ديوانه» وهو في «الشعر والشعراء» (1/ 525) و «وفيات الأعيان» (4/ 16) مع بعض الخلاف اليسير.
وإنما قيل له: ذو الرّمّة بقوله في الوتد:
أشعث باقي رمّة التقليد [1]
والرّمّة: بضم الراء: الحبل البالي، وبكسرها: الحبل البالي.
وممن توفي بعد المائة على ما قاله في «العبر» [2] .
أبو الأشعث الصنعانيّ الشّاميّ.
وزياد الأعجم الشاعر [المشهور][3] .
وسعيد بن أبي هند، والد عبد الله [4] .
وأبو سلّام ممطور الحبشيّ الأسود.
وأبو بكر [5] بن أبي موسى الأشعريّ القاضي. انتهى.
[1] في الأصل: «التقليل» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. وهذا صدر بيت في «ديوانه» (1/ 358) عجزه:
نعم فأنت اليوم كالعمود
[2]
(1/ 123) .
[3]
زيادة من «العبر» .
[4]
هو عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاري مولاهم المدني، أبو بكر. قال ابن حبّان: كان يهم في الشيء بعد الشيء. مات سنة (147) . انظر «مشاهير علماء الأمصار» ص (137) ، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (5/ 10) ، و «تهذيب التهذيب» لابن حجر (5/ 239) .
[5]
قال الحافظ ابن حجر: يقال: اسمه عمرو، ويقال: عامر. روى عن أبيه، والبراء بن عازب، وجابر بن سمرة، وابن عبّاس، والأسود بن هلال. وروى عنه أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي، وأبو عمران الجوني، وبدر بن عثمان، وعبد الله بن أبي السفر، والأجلح بن عبد الله الكندي، وأبو إسحاق السبيعي، ويونس بن أبي إسحاق، وغيرهم. قال الآجري: قلت لأبي داود: سمع أبو بكر من أبيه؟ قال: أراه قد سمع، وأبو بكر أرضى عندهم من أبي بردة، وكان يذهب مذهب أهل الشام. جاءه أبو غادية الجهني قاتل عمار، فأجلسه إلى جانبه، وقال:
مرحبا بأخي، وقال محمد بن عبد الله بن نمير: كان أكبر من أبي بردة، وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله، وذكر ابن حبّان في «الثقات» قلت: اسمه كنيته، وقال: مات في ولاية