الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وسبعين ومائة
فيها كانت فتنة الوليد بن طريف الشّاريّ الخارجيّ، وأحد الشّراة وهم الخوارج، سمّوا بذلك لقولهم: شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنّة حين فارقنا الأئمة الجبابرة، وكان الوليد، أحد الشجعان، وندب الرّشيد لحربه يزيد بن زائدة، ابن أخي معن بن زائدة الشيباني، ومكث يزيد مدة يماكره ويخادعه، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد، فقالوا للرشيد: إنه مداهن، فأرسل إليه يتوعّده، فناجزه يزيد فظفر به، وكان الوليد ينشد في المصاف:
أنا الوليد بن طريف الشّاري
…
قسورة [1] لا يصطلى بناري [2]
ولما انهزم تبعه يزيد بنفسه حتّى أدركه على مسافة بعيدة فقتله واحتزّ رأسه، ولما قتل لبست أخته الفارعة عدّة حربها وحملت [على جيش يزيد] [3] فضرب يزيد بالرمح فرسها [4] وقال: اغربي، غرّب الله عينك [5] فقد فضحت
[1] القسورة: الأسد. قاله في «مختار الصحاح» ص (534) .
[2]
في الأصل والمطبوع: «بنار» والبيت في «مرآة الجنان» (1/ 385) .
[3]
زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 385) .
[4]
في الأصل، والمطبوع:«قرنيها» وأثبت ما في «مرآة الجنان» .
[5]
في المطبوع: «غرب الله عنك» ، وفي «مرآة الجنان» :«غرب الله عليك» .
العشيرة، فانصرفت ولها في أخيها مراث كثيرة شهيرة [1] .
وفيها اعتمر الرّشيد في رمضان ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحج، ثم حجّ بالنّاس، فمشى من مكّة إلى منى، ثم إلى عرفات، وشهد المشاهد والمشاعر ماشيا.
وفيها توفي إمام دار الهجرة أبو عبد الله مالك بن أنس الحميريّ الأصبحيّ شهير الفضل، كان طوالا، جسيما، عظيم [2] الهامة، أبيض الرأس واللحية، أشقر، أزرق العين، يلبس الثياب العربية البيض، وإذا اعتمّ جعلها [تحت][3] ذقنه، ويسدل طرفها بين كتفيه.
روي أنه قال: ما أفتيت حتّى شهد لي سبعون أنّي أهل لذلك. وقلّ رجل كنت أتعلّم منه ومات حتّى يستفتين.
قال اليافعيّ [4] : أخبر بنعمة الله [تعالى عليه][5] .
وكان مالك عظيم المحبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم مبالغا في تعظيم حديثه، حتّى كان لا يركب في المدينة مع ضعفه وكبر سنّه، ويقول: لا أركب في بلد فيها جسد رسول الله- صلى الله عليه وسلم مدفون.
قال الشّافعيّ: قال لي محمد بن الحسن: أيّما [6] أعلم صاحبنا أو صاحبكم؟ يعني أبا حنيفة ومالكا- رحمهما الله تعالى- قلت: على الإنصاف؟
[1] قلت: وقد ساق اليافعي إحدى مراثيها في أخيها ومطلعها:
أيا شجر الخابور ما لك مورقا
…
كأنّك لم تحزن على ابن طريف
[2]
في المطبوع: «عظيما» وهو خطأ.
[3]
لفظة «تحت» سقطت من الأصل، واستدركتها من المطبوع، و «العبر» للذهبي (1/ 273) .
[4]
في «مرآة الجنان» (1/ 387) .
[5]
زيادة من «مرآة الجنان» .
[6]
في الأصل، والمطبوع:«أي» وأثبت ما في «مرآة الجنان» .
قال: نعم. قلت: أنشدك الله من أعلم بالقرآن؟ قال: صاحبكم. قلت: فمن أعلم بالسّنّة؟ قال: صاحبكم. قلت: فمن أعلم بأقاويل الصحابة؟ قال:
صاحبكم. قلت: فما بقي إلّا القياس، وهو لا يكون إلّا على هذه الأشياء، وكان مالك [يأتي المسجد، و][1] يشهد الصلوات الخمس والجمعة، ويصلي على الجنائز، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، وأكثر جلوسه في المسجد، ثم ترك ذلك فكان يصلي وينصرف، وترك حضور الجنائز، ثم ترك الكلّ، وسعي به إلى جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عبّاس، وقيل له: إنه لا يرى خلافتكم، فضربه سبعين سوطا، ومدّت [2] يده حتّى انخلعت [كتفه][3] فلم يزل بعد ذلك في [علوّ، و][4] رفعة، كأنما كانت [5] السياط حليّا حلّي به.
ولما ورد المنصور المدينة، أراد أن يقيده منه، فقال: والله ما ارتفع سوط منها عن بدني إلّا وقد جعلته في حلّ لقرابته من رسول الله- صلى الله عليه وسلم وقيل:
ضرب لفتوى لم توافق أغراضهم. وقيل: إنه حمل إلى بغداد وقال له واليها:
ما تقول في نكاح المتعة؟ فقال: هو حرام، فقيل له: ما تقول في قول عبد الله بن عبّاس فيها؟ فقال: كلام غيره فيها أوفق لكتاب الله تعالى، وأصرّ على القول بتحريمها، فطيف به على ثور مشوّها، فكان يرفع القذر عن وجهه ويقول: يا أهل بغداد من لم يعرفني فليعرفني، أنا مالك بن أنس، فعل بي ما ترون لأقول بجواز نكاح المتعة ولا أقول به، ثم بعد ذلك لم يزده الله تعالى إلّا رفعة، وكان ذلك كالتميمة له، فجزاه الله تعالى عن نفسه والأمة خيرا.
[1] زيادة من «مرآة الجنان» (1/ 389) وهو المصدر الذي نقل عنه المؤلف بتصرّف.
[2]
أي جذبت. انظر «لسان العرب» (مدد) .
[3]
زيادة من «مرآة الجنان» .
[4]
زيادة من «مرآة الجنان» .
[5]
في الأصل، والمطبوع:«كان» ، وأثبت ما في «مرآة الجنان» .
وحدّث عتيق بن يعقوب الزّبيديّ قال: قدم هارون الرّشيد المدينة، وكان قد بلغه أن مالك بن أنس عنده «الموطأ» يقرؤه على النّاس، فوجّه إليه البرمكيّ فقال: أقرئه السلام وقل له: يحمل إليّ الكتاب ويقرؤه عليّ، فأتاه البرمكيّ فقال: أقرئه السلام، وقل له: إن العلم يؤتى ولا يأتي، فأتاه البرمكيّ فأخبره، وكان عنده أبو يوسف القاضي، فقال: يا أمير المؤمنين، يبلغ أهل العراق أنك وجّهت إلى مالك في أمر فخالفك، اعزم عليه، فبينما هو كذلك، إذ دخل مالك، فسلّم وجلس، فقال له الرّشيد: يا ابن أبي عامر أبعث إليك وتخالفني؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني الزّهري، عن خارجة بن زيد، عن أبيه قال: كنت أكتب الوحي بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ من الْمُؤْمِنِينَ 4: 95 [النساء: 95] وابن أمّ مكتوم عند النّبيّ- صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله انى رجل ضرير، وقد انزل الله عليك فى فضل الجهاد ما قد علمت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«لا ادرى» وقلمي رطب ما جف، ثم وقع فخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فخذي، ثم أغمي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا زيد اكتب غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ 4: 95 [النساء:
95] .
ويا أمير المؤمنين حرف واحد بعث فيه جبريل والملائكة- عليهم السلام من مسيرة خمسين ألف عام، ألا ينبغي لي أن أعزّه وأجلّه، وإن الله تعالى رفعك وجعلك في هذا الموضع بعملك، فلا تكن أنت أول من يضيع عزّ العلم فيضيع الله عزّك، فقام الرّشيد يمشي مع مالك إلى منزله ليسمع منه «الموطأ» فأجلسه معه على المنصّة، فلما أراد أن يقرأه على مالك، قال [1] :
تقرؤه عليّ. قال: ما قرأته على أحد منذ زمان. قال: فيخرج النّاس عنّي حتّى أقرأه أنا عليك، فقال: إن العلم إذا منع من العامّة لأجل الخاصّة لم
[1] في المطبوع: «قال لي» .
ينفع الله تعالى به الخاصّة. فأمر معن بن عيسى القزّاز ليقرأه عليه، فلما بدأ ليقرأه قال مالك لهارون: يا أمير المؤمنين! أدركت أهل العلم ببلدنا وإنهم ليحبّون التواضع للعلم، فنزل هارون عن المنصّة، وجلس بين يديه وسمعه، رحمهما الله تعالى.
وقال أبو عبد الله الحميديّ الأندلسيّ: أنشدني والدي أبو طاهر إبراهيم:
إذا قيل من نجم الحديث وأهله
…
أشار أولو الألباب يعنون مالكا
إليه تناهى علم دين محمّد
…
فوطّأ فيه للرّواة المسالكا
ونظّم بالتصنيف أشتات نشره
…
وأوضح ما قد كان لولاه حالكا
وأحيا دروس العلم شرقا ومغربا
…
تقدّم في تلك المسالك سالكا
وقد جاء في الآثار من ذاك شاهد
…
على أنّه في العلم خصّ بذالكا
فمن كان ذا طعن على علم مالك
…
ولم يقتبس من نوره كان هالكا
يشير بقوله، وقد جاء في الآثار إلخ إلى حديث «تضرب الإبل أكبادها إلى عالم المدينة لا ترى أعلم منه» [1] .
وقال الشّافعيّ- رضي الله تعالى عنه-: إذا ذكر العلماء فمالك النجم.
وقال معن القزّاز وجماعة: حملت بمالك أمّه ثلاث سنين.
وقيل: إنه بكى في مرض موته وقال: والله لوددت أني ضربت في كل مسألة أفتيت بها، وليتني لم أفت بالرّأي.
وتوفي بالمدينة، ودفن بالبقيع عن أربع وثمانين سنة، وقيل: تسعين،
[1] رواه أحمد في «المسند» (2/ 299) ، والترمذي في «سننه» رقم (2682) في العلم، باب ما جاء في عالم المدينة، والحاكم في «المستدرك» (1/ 91) ، وحسنة الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وهو من رواية ابن جريج عن أبي الزبير عن أبي صالح عن أبي هريرة. وابن جريج، وأبو الزبير مدلّسان، وقد روياه بالعنعنة.
ولما مات قال ابن عيينة: ما ترك على وجه الأرض مثله.
وفيها توفي خالد بن عبد الله الواسطيّ الطّحّان الحافظ، وله سبعون سنة. روى عن سهيل بن أبي صالح وطبقته.
قال إسحاق الأزرق: ما أدركت أفضل منه.
وقال أحمد: كان ثقة صالحا، بلغني أنه اشترى نفسه من الله تعالى ثلاث مرات.
وأبو الأحوص سلّام بن سليم الكوفي. روى عن زياد بن علاقة وطبقته، وكان أحد الحفّاظ الأثبات.
قال أحمد العجلي: ثقة صاحب سنّة واتّباع، وآخر من روى عنه هنّاد.
وفي رمضان إمام أهل البصرة حمّاد بن زيد بن درهم الأزديّ مولاهم البصريّ الضرير، أبو إسماعيل. كان من أهل الورع والدّين.
قال ابن مهدي: لم أر قطّ أعلم بالسّنّة منه، وهو أحد الحمّادين صاحبي المذهبين المشهورين.
وقال عبد الرّحمن بن مهدي: أئمة النّاس أربعة: الثّوريّ بالكوفة، ومالك بالحجاز، وحمّاد بن زيد بالبصرة، والأوزاعيّ بالشّام.
وقال يحيى بن يحيى التميميّ: ما رأيت شيخا أفضل من حمّاد بن زيد.
وقال أحمد العجلي: حمّاد بن زيد ثقة، كان حديثه أربعة آلاف حديث يحفظها، ولم يكن له كتاب.
وقال ابن معين: ليس أحد أثبت من حمّاد بن زيد.
وفيها الهقل بن زياد الدّمشقيّ كاتب الأوزاعيّ.
قال ابن معين: ما كان بالشّام أوثق منه.
وقال مروان الطّاطري: كان أعلم النّاس بالأوزاعيّ وبمجلسه وفتياه.
وقال ابن ناصر الدّين: هو الهقل بن زياد بن عبيد [1] السّكسكيّ مولاهم الدّمشقيّ اسمه محمد فلقب [2] بهقل، كان إماما مفتيا من الثقات. انتهى [3] .
[1] ويقال: زياد بن عبيد الله. (ع) .
[2]
في الأصل: «فقلب» وهو سبق قلم من الناسخ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
[3]
انظر «الأنساب» للسمعاني (7/ 98) .