الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة سبعين ومائة
في أحد ربيعيها [1] توفي الخليفة أبو محمّد موسى الهادي بن المهديّ، وكان طويلا، أبيض، جسيما، مات من قرحة أصابته، وقيل: قتلته أمّه الخيزران لمّا همّ بقتل أخيه الرّشيد، فعمدت لما وعك إلى أن غمّته [2] وعاش بضعا وعشرين سنة، فالله يسامحه، فلقد كان جبّارا ظالم النفس. قاله في «العبر» [3] .
وقال في «مروج الذّهب» [4] : كان موسى قاسي القلب، شرس الأخلاق، صعب المرام، كثير الأدب، محبّا له، وكان شديدا، شجاعا بطلان، جوادا، سمحا [5] .
حدّث يوسف بن إبراهيم، الكاتب صاحب إبراهيم بن المهدي، عن إبراهيم، أنه كان واقفا بين يديه وهو على حمار له ببستانه المعروف [6] ببغداد، إذ قيل له: قد ظفر برجل من الخوارج، فأمر بإدخاله
[1] في الأصل: «في أحد ربيعها» ، وأثبت ما في المطبوع، وهو الصواب.
[2]
أي غطّته. انظر «مختار الصحاح» ص (482) .
[3]
(1/ 258) .
[4]
(3/ 335- 346) والمؤلف ينقل عنه بتصرف.
[5]
في «مروج الذهب» : «سخيا» .
[6]
في الأصل، والمطبوع:«المعروفة» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
إليه، فلما قرّب الخارجيّ إليه، أخذ الخارجيّ السيف من بعض الحرس، وأقبل يريد موسى، فتنحّت وكلّ من كان معي، وإنه [1] لواقف على حماره ما يتحلحل، فلما أن قرب منه [الخارجيّ] [2] صاح موسى: اضربا عنقه، وليس وراءه أحد منّا، فأوهمه، فالتفت الخارجيّ [لينظر][3] وجمع موسى نفسه ثم طفر عليه [4] فصرعه، وأخذ السيف من يده فضرب به عنقه.
قال [5] . فكان خوفنا منه أكثر من الخارجي، فو الله ما أنكر علينا تنحّينا، ولا عذلنا [على ذلك][6] ولم يركب حمارا بعد ذلك اليوم، ولا فارقه سيف [7] . انتهى.
وحدّث عبد الله بن الضّحّاك عن الهيثم بن عدي، قال: وهب المهديّ لموسى الهادي سيف عمرو بن معدي كرب الصّمصامة، فدعا به موسى بعد ما ولي الخلافة، فوضعه بين يديه، ودعا بمكتل [8] دنانير، وقال لحاجبه: ائذن للشعراء، فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا في السيف، فبدأهم ابن يامين البصري فقال:
[1] يعني موسى الهادي.
[2]
زيادة من «مروج الذهب» .
[3]
زيادة من «مروج الذهب» .
[4]
في «مروج الذهب» : «ظهر عليه» .
قال ابن منظور: الطّفر: وثبه في ارتفاع، كما يطفر الإنسان حائطا، أي يثبه
…
وقد طفر يطفر طفرا: وثب في ارتفاع. «لسان العرب» (طفر) .
[5]
القائل إبراهيم بن المهدي.
[6]
زيادة من «مروج الذهب» .
[7]
في «مروج الذهب» : «ولا فارقه سيفه» .
[8]
قال ابن منظور: المكتل والمكتلة: الزّبيل الذي يحمل فيه التمر أو العنب إلى الجرين، وقيل: المكتل شبه الزّبيل يسع خمسة عشر صاعا. «لسان العرب» (كتل) .
حاز صمصامة الزّبيديّ عمرو
…
من جميع الأنام موسى الأمين
سيف عمرو وكان فيما سمعنا
…
خير ما أغمدت عليه الجفون
أوقدت فوقه الصّواعق نارا
…
ثمّ شابت به الذّعاف المنون
وإذا ما شهرته تبهر الشّم
…
- س ضياء فلم تكد تستبين
وكأنّ الفرند [1] والجوهر الجا
…
ري في صفحتيه ماء معين
ما يبالي إذا الضّريبة حانت
…
أشمال سطت به أم يمين [2]
فقال [له] الهادي: لك السيف والمكتل، فخذهما، ففرّق المكتل على الشعراء، وقال: دخلتم معي وحرمتم من أجلي، وفي السيف عوض، ثم بعث إليه الهادي، فاشترى منه السيف بخمسين ألفا. انتهى.
وكان عيسى بن دأب من أهل الحجاز، وكان أكثر أهل عصره أدبا، وعلما، ومعرفة بأخبار النّاس وأيامهم، وكان الهادي كلفا به، يقول له:
يا عيسى ما استطلت [3] بك يوما ولا ليلة ولا غبت عنّي إلّا ظننت أني لا أرى غيرك [4] .
وذكر [5] عيسى هذا أنه رفع إلى الهادي، أن رجلا من أرض المنصورة [6]
[1] الفرند: السيف. انظر «مختار الصحاح» ص (501) .
[2]
الأبيات في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 345- 346) ، و «زهر الآداب» للقيروني (2/ 781) ، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (6/ 109) .
[3]
في الأصل، والمطبوع:«ما استطاعت» ، والتصحيح من «مروج الذهب» .
[4]
في الأصل، والمطبوع:«غيرى» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[5]
في الأصل، والمطبوع:«فذكر» وما أثبته من «مروج الذهب» .
[6]
في الأصل: «المنصور» وهو خطأ، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب.
قال ياقوت في «معجم البلدان» (5/ 211) : المنصورة: مفعولة من النصر في عدة مواضع، فيها المنصورة بأرض السند وهي قصبتها، مدينة كبيرة كثيرة الخيرات ذات جامع كبير. وانظر تتمة كلامه هناك.
من بلاد السّند من أشرافهم وأهل الرياسة منهم من آل المهلّب بن أبي صفرة ربى غلاما سنديا، أو هنديا، أن الغلام هوي مولاته، فراودها عن نفسها، فأجابته، فدخل السيد فأصابه معها، فجبّ ذكر الغلام وخصاه، ثم عالجه إلى أن برأ فأقام مدّة، وكان لمولاه ابنان أحدهما طفل والآخر يافع، فغاب الرجل عن منزله، وعاود وقد أخذ السّنديّ الصبيين وصعد بهما إلى أعالي سور الدّار، إذ دخل مولاه، فرفع رأسه فإذا هو بابنيه مع الغلام على اسور، فقال:
يا فلان عرّضت ابنيّ للهلاك، فقال: دع ذا عنك، والله إن لم تجبّ نفسك بحضرتي لأرمينّ بهما، فقال له: الله الله في وفي ابنيّ، قال: دع ذا عنك، فو الله ما هي إلا نفسي، وإني لأسمح بها من شربة ماء، وأهوى ليرمي بهما، فأسرع مولاه فأخذ مدية وجبّ نفسه، فلما رأى الغلام أنه قد فعل، رمى بالصبيين فتقطّعا، وقال: ذلك الذي فعلت، فعلت بفعلك بي، وقتلي هذين زيادة، فأمر الهادي بالكتاب إلى صاحب السّند بقتل الغلام، وتعذيبه بأفظع ما يكون من العذاب، وأمر بإخراج كل سنديّ في مملكته، فرخص السّنديّ في أيامه حتّى كانوا يتداولون بالثمن اليسير.
وقال ابن دأب: قال لي الهادي: هلمّ بنا إلى ذكر فضائل البصرة، والكوفة وما زادت به كل واحدة منهما على الأخرى. قال: قلت: ذكر عن عبد الملك بن عمير أنه قال: قدم علينا الأحنف بن قيس الكوفة مع مصعب بن الزّبير، فما رأيت شيخا [قبيحا][1] إلّا وقد رأيت في وجه الأحنف منه شبها [2] كان صعل الرأس، أعصف [3] الأذن، باخق
[1] لفظة «قبيحا» سقطت من الأصل، وأثبتها من المطبوع.
[2]
في الأصل، والمطبوع:«شيئا» وأثبت ما في «مروج الذهب» للمسعودي (3/ 340) .
[3]
في المطبوع: «أغصف» وهو تصحيف.
العين، ناتئ الوجه، مائل الشّدّق، متراكب الأسنان، [ضعيف العارضين أحنف الرّجل][1] ولكنه كان إذا تكلم جلّى عن نفسه، فجعل يفاخرنا ذات يوم بالبصرة، ونفاخره بالكوفة، فقلنا: الكوفة أغذى، وأمرأ، وأفسح، وأثيب، فقال له رجل: والله ما أشبه الكوفة إلا بشبابة صبيحة [2] الوجه، كريمة الحسب، لا مال لها، فإذا ذكرت حاجتها كفّ النّاس عنها، وما أشبّه البصرة إلّا بعجوز ذات عوارض موسرة، فإذا ذكرت ذكر يسارها وذكرت عوارضها فكفّ عنها طالبها، فقال الأحنف: أما البصرة فإنّ أسفلها قصب، وأوسطها خشب، وأعلاها رطب، نحن أكثر ساجا، وعاجا، وديباجا، ونحن أكثر قيدا [3] ونقدا، والله ما آتي البصرة إلّا طائعا ولا أخرج منها إلّا كارها. قال: فقام إليه شابّ من بكر بن وائل فقال: يا أبا بحر، بم [4] بلغت في النّاس ما بلغت؟ فو الله ما أنت بأجملهم، ولا بأشرفهم، ولا بأشجعهم، قال: يا ابن أخي، بخلاف ما أنت فيه، قال: وما ذاك؟ قال بتركي ما لا يعنيني كما عناك من أمري ما لا [ينبغي أن][5] يعنيك. انتهى.
وحدّث عدة [من الأخباريين][6] من ذوي المعرفة بأخبار الدولة، أن موسى قال لهارون أخيه: كأني بك تحدّث نفسك بتمام الرّؤيا، وتؤمّل ما أنت منه [7] بعيد، ومن دون ذلك خرط القتاد [8] فقال هارون: يا أمير المؤمنين
[1] زيادة من «مروج الذهب» .
[2]
في الأصل: «بإنسانة صبيحة» ، وفي المطبوع:«بإنسانية قبيحة» ، وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3]
في «مروج الذهب» : «قندا» .
[4]
في الأصل، والمطبوع:«بما» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[5]
ما بين حاصرتين زيادة من «مروج الذهب» .
[6]
زيادة من «مروج الذهب» .
[7]
في «مروج الذهب» : «ما أنت عنه» .
[8]
في «مروج الذهب» : «خرط القناد» وهو تصحيف. وانظر «لسان العرب» (قتد) .
من تكبّر وضع، ومن تواضع رفع، ومن ظلم خذل، وإن وصل الأمر إليّ وصلت من قطعت، وبررت من حرمت، وصيّرت أولادك أعلى من أولادي، وزوّجتهم بناتي، وقضيت بذلك حقّ الإمام المهديّ، فانجلى عن موسى الغضب، وبان السّرور في وجهه، وقال: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، أدن منّي، فقام هارون فقبّل يده، ثم ذهب ليعود إلى مجلسه، فقال له موسى:
والشيخ الجليل، والملك النبيل، لا جلست إلّا معي في صدر المجلس، ثم قال يا خزائني! احمل إليه [1] الساعة ألف ألف دينار، فإذا فتح الخراج فاحمل إليه نصفه [2] فلما أراد هارون الرّشيد الانصراف، قدّمت دابته إلى البساط.
قال عمرو الرّوميّ: فسألت الرّشيد عن الرؤيا، فقال: قال المهديّ:
رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيبا، وإلى هارون قضيبا، فأما قضيب موسى فأورق أعلاه قليلا، وأما قضيب هارون فأورق من أوله إلى آخره، فقصّ الرؤيا على الحكيم [3] ابن إسحاق الصّيمريّ [4] فكان يعبرها، فقال له: يملكان جميعا، فأما موسى فتقلّ أيامه، وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن الأيام، ودهره أحسن الدهور.
وقال عمرو الرّوميّ: فلما أفضت الخلافة إلى هارون زوّج ابنته حمدونة من جعفر بن موسى، وفاطمة من إسماعيل بن موسى، ووفى له بكل ما وعده.
وفيها بويع الرّشيد، ومن الاتفاق العجيب أنّ الرّشيد سلّم عليه بالخلافة
[1] في «مروج الذهب» : «يا خزّاني! احمل إلى أخي» .
[2]
في الأصل والمطبوع: «نصفها» وأثبت ما في «مروج الذهب» .
[3]
في الأصل، والمطبوع:«الحكم» والتصحيح من «مروج الذهب» .
[4]
لم أقف على ذكر له فيما بين يدي من كتب الرجال.
عمّه سليمان بن المنصور، وعمّ أبيه المهدي- وهو العبّاس بن محمد- وعمّ جدّه المنصور- وهو عبد الصمد بن علي- ذكره ابن الجوزي في «الشذور» .
وفيها توفي الرّبيع بن يونس أبو الفضل حاجب المنصور، والمهدي، وله مع المنصور أمور، منها أن المنصور قال له يوما: سلني حاجتك، قال: أن تحبّ ابني. قال: [ويحك!][1] إن المحبة تقع بأسباب، وقال: قد أمكنك الله من إيقاع [2] سببها، قال: كيف؟ قال: تفضل عليه فيحبك. قال: والله قد أحببته [وقد حبّبته إليّ][3] قبل إيقاع السبب، ولكن كيف اخترت له المحبّة دون كل شيء؟ قال: لتكون ذنوبه عندك كذنوب الصبيان، وشفاعته كشفاعة العريان، وأشار إلى قول الفرزدق [4] :
ليس الشّفيع الّذي يأتيك متّزرا
…
مثل الشّفيع الّذي يأتيك عريانا [5]
وقال له [المنصور] يوما: [ويحك][6] يا ربيع! ما أطيب الحياة [7] لولا الموت، فقال ما طيّبها إلّا الموت [8] ، يعني بموت من قبلك وصلت إليك الخلافة.
[1] زيادة من «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 294) ، و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 374) .
[2]
في الأصل، والمطبوع:«من أنواع» والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[3]
زيادة من «مرآة الجنان» .
[4]
في الأصل، والمطبوع:«وأشار إلى قول الورد» وهو خطأ، والتصحيح من «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» .
[5]
البيت في «ديوانه» (2/ 873) بعناية الصاوي، و «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/ 294) و «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 374) وقد ساق كلاهما قصة البيت فليرجع إليهما من شاء وفي «ديوانه» :«مؤتزرا» بدل «متزرا» .
[6]
زيادة من «وفيات الأعيان» (2/ 295) ، و «مرآة الجنان» (1/ 375) .
[7]
في «وفيات الأعيان» و «مرآة الجنان» : «ما أطيب الدّنيا» .
[8]
في «وفيات الأعيان» ، و «مرآة الجنان» :«ما طابت إلا بالموت» .
وفيها يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلّب بن أبي صفرة الأزديّ، وكان أرسله المنصور لحرب الخوارج، واستمر واليا على إفريقية خمس عشرة سنة، وكان من الممدّحين الأجواد.
وكذلك أخوه روح بن حاتم، وكان روح متواليا على السّند، وتولى لخمسة من الخلفاء: السّفّاح، والمنصور، والمهدي، والهادي، والرّشيد، ولم يتفق مثل هذا إلّا لأبي موسى الأشعري، عمل للنّبيّ- صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة بعده.
وكان يتعجب النّاس من بعد ما بين ابني حاتم يزيد، وروح، فاتفق أنّ الرّشيد عزل روحا عن السّند، فلحق بأخيه بإفريقية فدفنا في قبر واحد بإفريقية.
وفي يزيد بن حاتم يقول الشاعر:
وإذا تباع كريمة أو تشترى
…
فسواك بائعها وأنت المشتري
وإذا تخيّل من سحابك لامع
…
صدقت مخيلته لدى المستمطر
وإذا الفوارس عدّدت أبطالها
…
عدوّك في أبطالهم بالخنصر
ووفد عليه أشعب صاحب النوادر في الطمع، فمدحه ببيتين، فأجزل عطيته.
وفيها مات إمام اللغة، والعروض، والنحو، الخليل بن أحمد الفراهيديّ الأزديّ [1] وقيل: سنة خمس وسبعين ومائة، وهو الذي استنبط علم العروض، وحصر أقسامه في خمس دوائر، واستخرج منها خمسة عشر بحرا، وزاد فيها الأخفش بحرا سمّاه الخبب.
قيل: إن الخليل دعا بمكّة أن يرزقه الله علما لم يسبق إليه، وهو في
[1] انظر الخبر بطوله في «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 377- 381) .
اختراعه بديهة كاختراع أرسطاطاليس [1] علم المنطق، ومن تأسيس بناء «كتاب العين» الذي يحصر لغة أمة من الأمم، وهو أول من جمع حروف المعجم في بيت واحد فقال:
صف خلق خود كمثل الشّمس إذ بزغت
…
يحظى الضّجيع بها نجلاء معطار
وقال تلميذه النّضر بن شميل: جاءه رجل من أصحاب يونس يسأله عن مسألة، فأطرق الخليل يفكّر، وأطال حتّى انصرف الرّجل فعاتبناه، فقال:
ما كنتم قائلين فيها؟ قلنا: كذا وكذا. قال: فإن قال: كذا وكذا. قلنا: نقول:
كذا وكذا. فلم يزل يغوص حتّى انقطعنا وجلسنا نفكّر، فقال: إن المجيب يفكّر قبل الجواب، وقبيح أن يفكّر بعده. وقال: ما أجيب بجواب حتّى أعرف ما عليّ فيه من الاعتراضات والمؤاخذات. وكان مع ذلك صالحا قانعا.
قال النضر: أقام في خصّ [2] بالبصرة لا يقدر على فلس، وعلمه قد انتشر، وكسب به أصحابه الأموال.
قال: وسمعته يقول: إني لأغلق عليّ بابي مما يجاوزه همّي.
وقيل للخليل- وقد اجتمع مع ابن المقفّع-: كيف رأيته؟ فقال: علمه أكثر من عقله.
وقيل لابن المقفّع: كيف رأيت الخليل؟ قال: عقله أكثر من علمه.
[1] كذا في الأصل، والمطبوع، و «مرآة الجنان» :«أرسطاطاليس» ، وفي «الفهرست» لابن النديم ص (307) طبعة طهران:«أرسطاليس» ، وفي «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» ص (21) :
«أرسطوطاليس» ، وفي «المنجد في الأعلام» ص (34) :«أرسطو، أو أرسطاطاليس» ، وفيه أنه مات سنة (322) ق. م. ومن أراد المزيد من المعلومات عنه فليرجع إلى المراجع التي ذكرتها.
[2]
في الأصل: «حصن» وهو تحريف، وأثبت ما في المطبوع وهو الصواب. والخص: البيت من القصب. انظر «مختار الصحاح» ص (177) .
وقرأ عليه رجل في العروض فلم يفهم، فقال له الخليل: قطّع هذا البيت:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
…
وجاوزه إلى ما تستطيع
قال الخليل: فشرع الرجل في تقطيعه على مبلغ علمه، ثم قام فلم يرجع إليّ، فعجبت من فطنته لما قصدته في [هذا][1] البيت مع بعد فهمه.
ويقال: إن أباه أول من سمّي أحمد بعد النّبيّ- صلى الله عليه وسلم وكان شاعرا مفلقا مطبوعا، ومن شعره:
وما هي إلّا ليلة ثمّ يومها [2]
…
وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقرّبن الجديد إلى البلى
…
ويدنين أشلاء الكرام إلى القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره
…
ويقسمن ما يحوي الشّحيح من الوفر
وكان من الزّهد في طبقة لا تدرك، حتّى قيل: إن بعض الملوك طلبه ليؤدّب له أولاده، فأتاه الرّسول وبين يديه كسر يابسة يأكلها، فقال له: قل لمرسلك ما دام يلقى مثل هذه لا حاجة به إليك، ولم يأت الملك.
وسأله الأخفش: لم سمّيت بحر الطويل طويلا؟ قال: لأنه تمّت أجزاؤه.
والبسيط؟ لأنه انبسط على حدّ الطويل. والمديد؟ لتمدّد سباعيه حول خماسيه.
والكامل؟ لكمال أجزائه السباعية ليس فيه غيرها. والوافر؟ لوفور أجزائه، لأن فيه ثلاثين حركة لا تجتمع في غيره. والرجز؟ لاضطرابه كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. والرمل؟ لأنه يشبه رمل الحصير يضمّ بعضه إلى بعض. والهزج؟ لأنه يتصرف شبه هزج الصوت. والسريع؟ لسرعته على اللسان. والمنسرح؟
لانسراحه وسهولته. والخفيف؟ لأنه أخفّ السباعيات. والمقتضب؟ لأنه القتضب
[1] زيادة من «مرآة الجنان» لليافعي (1/ 380) .
[2]
في «مرآة الجنان» : «بعد نومها» .
من الشعر لقلّته. والمضارع؟ لأنه ضارع المقتضب. والمجتثّ؟ لأنه اجتثّ- أي قطع- من طول دائرته. والمتقارب؟ لتقارب أجزائه، وأنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضا. انتهى.
قيل: لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء، جلس إليه ولم يتكلم بشيء، فسئل عن ذلك، فقال: هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد.
وقال الواحديّ في «تفسيره» : الإجماع منعقد على أنه لم يكن أحد أعلم بالنحو من الخليل. قاله ابن الأهدل.
وقال في «العبر» [1] : الخليل بن أحمد الأزديّ البصريّ أبو عبد الرّحمن صاحب العربية والعروض، روى عن أيوب السّختيانيّ وطائفة، وكان إماما كبير القدر، خيّرا متواضعا، فيه زهد وتعفّف [2] ، صنّف «كتاب العين» في اللغة. انتهى.
وفيها مجنون ليلى قيس بن الملوّح بن مزاحم، اشتهر بعشق ليلي في الدّنيا، وهو أحد بني كعب بن عامر بن صعصعة، وقد أنكر قوم وجوده قائلين: هو كالعنقاء، وهذا غلط، فإنّ اشتهار عشقه لليلى أشهر من أن يخفى، وأثبته علماء السّير، وأما ليلى فإنها بنت مهدي، وقيل: بنت ورد من بني ربيعة، كانت من أجمل النساء شكلا وأدبا.
وابتداء أمرهما أنهما كانا صغيرين يرعيان أغنما لقومهما، فعلق كل منهما بصاحبه، ولم يزالا على ذلك حتّى كبرا واشتهر أمرهما، فحجبت ليلى عنه، فزال عقله، وقال:
تعلّقت ليلى وهي ذات ذؤابة
…
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا
…
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم [1]
ثم كان يأتي الحيّ على غفلة من أهله، فلما كثر ذلك، خرج أبو ليلى ومعه نفر من قومه إلى مروان بن الحكم فشكوا إليه ما أصابهم من قيس بن الملوّح، وسألوه الكتاب إلى عامله يمنعه من كلام ليلى، وإن وجده أهلى ليلى عندها يكون دمه هدرا، فلما بلغ قيسا ذلك قال:
ألا حجبت ليلى وآلى أميرها
…
عليّ يمينا جاهدا لا أزورها
وواعدني [2] فيها رجال أبوهم
…
أبي وأبوها خشّنت [3] لي صدورها
على غير شيء [4] غير أنّي أحبّها
…
وأنّ فؤادي عند ليلى أسيرها [5]
فلما يئس منها، ذهب عقله بالكلية، ولعب بالتراب والحصى، وضنيت ليلى أيضا من فراقه، ثم تزوجت ليلى، فصار المجنون يدور في الفلوات عريانا ينشد الأشعار ويأنس بالوحوش، ثم وجد بعد حين ملقى بين الأحجار ميتا، فاحتملوه إلى الحيّ، وغسلوه، ودفنوه، وبكوا عليه، وكان أبو ليلى أشدّ القوم جزعا وبكاء، وقال: ما علمت أن الأمر يبلغ إلى هذا، ولكني كنت امرأة عربيا أخاف العار، ولو علمت أن الأمر يفضي إلى هذا ما أخرجتها عن يده، ويقال: إنها أيضا ضنيت عليه وماتت أسفا، ودفنت قريبا منه، وأمرهما أشهر من أن يذكر، والله أعلم.
وفيها توفي عبد الله بن جعفر المخرميّ [6] المدنيّ. روى عن عمّة أبيه أمّ بكر بنت المسور بن مخرمة، وجماعة من التابعين، وخرّج له مسلم،
[1] البيتان في «الأغاني» (2/ 11) .
[2]
في «الأغاني» : «وأوعدني» .
[3]
في الأصل، والمطبوع:«وأبوهم حشيت» وأثبت ما في «الأغاني» .
[4]
في «الأغاني» : «على غير جرم» .
[5]
في «الأغاني» : «وأن فؤادي رهنها وأسيرها» ، والأبيات فيه (2/ 68) .
[6]
في «العبر» للذهبي (1/ 258) : «المخزومي» وهو خطأ فيصحّح فيه.
والأربعة، وكان قصيرا ذميما.
قال الواقديّ: كان عالما بالمغازي، والفتوى.
وقال الذّهبيّ في «المغني» [1] : عبد الله بن جعفر المخروميّ المدنيّ، ثقة، وهاه ابن حبّان فقط. انتهى.
وفيها محمّد بن مهاجر الحمصيّ. روى عن نافع وطبقته، وآخر من حدّث عنه أبو توبة [2] الحلبيّ.
وأبو معشر السّنديّ- واسمه نجيح بن عبد الرّحمن المدنيّ- صاحب المغازي، والأخبار. مشهور عن أصحاب أبي هريرة، ليس بالعمدة.
قال ابن معين: كان أميّا يتّقى من حديثه المسند.
وقال صاحب «العبر» [3] : روى عن محمد بن كعب القرظيّ والكبار، واستصحبه المهديّ معه لما حجّ إلى بغداد. وقال: يكون بحضرتنا ويفقّه من حولنا، ووصله [4] بألف دينار، وكان أبيض، أزرق، سمينا. وقيل له: السّنديّ من قبيل اللقب بالضد. انتهى.
وفيها الوزير أبو عبد الله معاوية بن عبيد الله بن يسار الأشعريّ، مولاهم، كاتب المهدي ووزيره. وكان من خيار الوزراء، صاحب علم، وفضل، ورواية [5] وعبادة [6] وصدقات. روى عن منصور بن المعتمر.
[1](1/ 334) .
[2]
في الأصل، والمطبوع:«أبو ثوبة» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي (1/ 258) .
قلت: وأبو توبة هو الربيع بن نافع الحلبي. انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 251) ، و «تقريب التهذيب» (1/ 246) .
[3]
(1/ 258) .
[4]
في المطبوع، و «العبر» :«وصله» .
[5]
قوله: «وفضل ورواية» لم يرد في «العبر» للذهبي.
[6]
لفظة «وعبادة» تحرّفت في «العبر» إلى «وعبارة» فتصحّح فيه.
وفيها، أو في حدودها، محمّد بن جعفر بن أبي كثير المدنيّ مولى الأنصار [1] . أخذ عن زيد بن أسلم وطبقته. وكان ثقة كثير العلم.
وأسباط بن نصر الهمدانيّ [2] الكوفيّ المفسّر، صاحب إسماعيل السّدّيّ، والله أعلم.
قال في «المغني» [3] : وثّقه ابن معين، وضعفه أبو نعيم.
[و] قال النّسائيّ: ليس بالقويّ، توقف فيه أحمد. انتهى.
وقد خرّج له البخاريّ في «التاريخ» ومسلم، والأربعة.
[1] في الأصل، والمطبوع:«مولى الأنصاري» وأثبت ما في «العبر» للذهبي.
[2]
في الأصل، والمطبوع:«الهمذاني» وهو تصحيف، والتصحيح من «العبر» للذهبي.
[3]
(1/ 66) .