الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة تسع وأربعين وأربعمائة
فيها كما قال في «الشذور» بلغت كارة الخشكار- أي النخالة- عشرة دنانير، ومات من الجوع خلق كثير، وأكلت الكلاب، وورد كتاب من بخارى أنه وقع في تلك الدّيار وباء، حتّى أخرج في يوم ثمانية عشر ألف جنازة، وأحصي من مات إلى تاريخ هذا الكتاب ألف ألف وستمائة وخمسون ألفا، وبقيت الأسواق فارغة والبيوت خالية، ووقع الوباء بأذربيجان وأعمالها، والأهواز وأعمالها، وواسط، والكوفة، وطبق الأرض، حتّى كان يحفر للعشرين والثلاثين زبية [1] فيلقون فيها، وكان سببه الجوع، وباع رجل أرضا له بخمسة أرطال خبز فأكلها ومات في الحال، وتاب الناس كلّهم، وأراقوا الخمور، وكسروا المعازف، وتصدقوا بمعظم أموالهم، ولزموا المساجد، وكان كلّ من اجتمع بامرأة حراما ماتا من ساعتهما، ودخلوا على مريض قد طال نزعه سبعة أيام، فأشار بإصبعه إلى بيت في الدّار، فإذا بجانبه خمر فقلبوها، فمات، وتوفي رجل كان مقيما بمسجد، فخلّف خمسين ألف درهم، فلم يقبلها أحد ورميت في المسجد، فدخل أربعة أنفس ليلا إلى المسجد فماتوا، ودخل رجل على ميت سجي [2] بلحاف فاجتذبه عنه، فمات، وطرفه في يده. انتهى.
[1] جاء في «مختار الصحاح» (زبا) : الزبية: الرّابية لا يعلوها الماء.
[2]
في «ط» : «مسجى» .
وفيها توفي أبو العلاء المعرّي، أحمد بن عبد الله بن سليمان التّنوخي، اللّغوي. الشاعر، صاحب التصانيف المشهورة، والزندقة المأثورة، والذكاء المفرط، والزهد الفلسفي، وله ست وثمانون سنة. جدر [1] وهو ابن ثلاث سنين، فذهب بصره، ولعله مات على الإسلام، وتاب من كفرياته، وزال عنه الشك. قاله في «العبر» [2] .
وقال ابن خلّكان [3] : الشاعر اللغوي، كان متضلعا من فنون الأدب، قرأ النحو واللغة على أبيه بالمعرّة، وعلى محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب، وله التصانيف الكثيرة المشهورة، والرسائل المأثورة، وله من النظم «لزوم ما لا يلزم» وهو كبير، يقع في خمس مجلدات أو ما يقاربها، وله «سقط الزّند» أيضا وشرحه بنفسه، وسمّاه «ضوء السقط» وله كتاب «الهمزة والردف» أكثر من مائة مجلد، وله غير ذلك.
أخذ عنه أبو القاسم بن المحسّن التّنوخي، والخطيب أبو زكريا التّبريزي، وغيرهما.
وكانت ولادته يوم الجمعة عند مغيب الشمس، سابع عشري شهر ربيع الأول، سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بالمعرّة، وعمي من الجدري أول سنة سبع وستين، غشي يمنى عينيه بياض، وذهبت اليسرى جملة.
قال الحافظ السّلفي: أخبرني أبو محمد بن عبد الله بن الوليد بن غريب الإيادي، أنه دخل مع عمّه على أبي العلاء يزوره، فرآه قاعدا على سجّادة لبد، وهو شيخ، قال: فدعا لي ومسح على رأسي، وكان [4] صبيا، قال:
[1] يعني أصيب بمرض الجدري.
[2]
(3/ 220) .
[3]
انظر «وفيات الأعيان» (1/ 113- 116) .
[4]
يعني الإيادي.
وكأني أنظر إليه الآن، وإلى عينيه، إحداهما نادرة والأخرى غائرة جدا، وهو مجدّر الوجه، نحيف الجسم.
وكان يقول: كأنما نظر المتنبي إليّ بلحظ الغيب حيث يقول:
أنا الّذي نظر الأعمى إلى أدبي
…
وأسمعت كلماتي من به صمم [1]
وشرح «ديوان أبي تمام» وسمّاه «ذكرى حبيب» و «ديوان البحتري» وسمّاه «عبث الوليد» و «ديوان المتنبي» وسمّاه «معجز أحمد» وتكلم على غريب أشعارهم ومعانيها ومآخذهم من غيرهم وما أخذ عليهم، وتولى الانتصار لهم والنقد في بعض المواضع عليهم والتوجيه في أماكن لخطئهم.
ودخل بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخلها ثانيا [2] ، سنة تسع وتسعين، وأقام بها سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى المعرّة ولزم منزله، وشرع في التصنيف، وأخذ عنه الناس، وسار إليه الطلبة من الآفاق، وكاتبه العلماء والوزراء، وأهل الأقدار، وسمى نفسه رهن المحبسين [3] ، للزومه منزله ولذهاب عينيه، ومكث مدة خمس وأربعين سنة لا يأكل اللحم تدينا، لأنه كان يرى رأي الحكماء المتقدمين، وهم لا يأكلونه، كيلا يذبحوا [4] الحيوان، ففيه تعذيب له، وهم لا يرون إيلام جميع الحيوانات.
وعمل الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة، ومن شعره في «اللزوم» :
لا تطلبنّ بآلة لك رفعة [5]
…
قلم البليغ بغير جدّ مغزل
سكن السما كان السماء كلاهما
…
هذا له رمح وهذا أعزل
[1] البيت في «ديوان المتنبي» بشرح العكبري (3/ 367) .
[2]
في «وفيات الأعيان» : «ثانية» .
[3]
في «آ» و «ط» : «رهن الحبسين» وهو خطأ والتصحيح من «وفيات الأعيان» وانظر «سير أعلام النبلاء» (18/ 26) .
[4]
في «آ» و «ط» : «كيلا يذبحون» والتصحيح من «وفيات الأعيان» .
[5]
في «وفيات الأعيان» : «رتبة» .
وتوفي ليلة الجمعة ثالث، وقيل: ثاني شهر ربيع الأول، وقيل: ثالث عشرة، وبلغني أنه أوصى أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي عليّ
…
وما جنيت على أحد
وهو أيضا متعلق باعتقاد الحكماء، فإنهم يقولون إيجاد الولد وإخراجه إلى هذا العالم جناية عليه، لأنه يتعرّض للحوادث والآفات.
وكان مرضه ثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير بني عمه، فقال لهم في اليوم الثالث: اكتبوا عنّي، فتناولوا الدّواة [1] والأقلام، فأملى عليهم غير الصواب، فقال القاضي أبو محمد [2] التّنوخي: أحسن الله عزاءكم في الشيخ، فإنه ميت، فمات ثاني يوم.
والمعرّيّ: نسبة إلى معرّة النّعمان، بلدة صغيرة بالشام، بالقرب من حماة، وشيزر، وهي منسوبة إلى النّعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه.
انتهى ما أورده ابن خلّكان ملخصا.
وقال ابن الأهدل: حضر مرة مجلس الشريف المرتضى ببغداد، وكان الشريف يغضّ من المتنبي، والمعرّي يثني عليه، فقال المعرّيّ: لو لم يكن من شعره إلّا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل [3]
لكفاه، فأمر الشريف بإخراجه، وقال: ما أراد القصيدة، فإنها ليست من غرر قصائده، وإنما أراد البيت فيها وهو قوله:
[1] في «وفيات الأعيان» : «الدّويّ» وهي جمع «الدواة» .
[2]
في «آ» : «القاضي محمد» وهو خطأ، وأثبت لفظ «ط» وهو الصواب.
[3]
صدر بيت في «ديوان المتنبي» بشرح العكبري (3/ 249) من قصيدة مدح بها القاضي أحمد بن عبد الله الأنطاكي، وعجزه:
............ أقفرت أنت وهنّ منك أواهل
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأنّي كامل [1]
انتهى.
وقال غيره: قيل: ولد أعمى، وترك أكل البيض، واللّبن، واللّحم، وحرّم إتلاف الحيوان، وكان فاسد العقيدة، يظهر الكفر، ويزعم أن له باطنا وأنه مسلم في الباطن، وأشعاره الدالّة على كفره كثيرة منها:
أتى عيسى فأبطل شرع موسى
…
وجاء محمد بصلاة خمس
وقالوا: لا نبيّ بعد هذا
…
فضلّ القوم بين غد وأمس
ومهما عشت في دنياك هذي
…
فما يخليك من قمر وشمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي
…
وإن قلت الصّحيح أطلت همسي
وقال:
تاه النّصارى والحنيفية ما اهتدت
…
ويهود بطرى والمجوس مضلّلة
قسم الورى قسمين هذا عاقل
…
لا دين فيه وديّن لا عقل له
انتهى.
وفيها أبو مسعود البجلي، أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد العزيز الرّازي الحافظ، وله سبع وثمانون سنة. توفي في المحرم ببخارى، وكان كثير الترحال، طوّف، وجمع، وصنّف الأبواب، وروى عن أبي عمرو بن حمدون، وحسينك التميمي، وطبقتهما. وهو ثقة.
قال ابن ناصر الدّين [2] : كان حافظا صدوقا بين الأصحاب تاجرا تقيا، صنّف على الأبواب.
وفيها أبو عثمان الصّابوني، شيخ الإسلام، إسماعيل بن عبد الرحمن
النيسابوري الشافعي، الواعظ المفسّر المصنّف، أحد الأعلام. روى عن زاهر السّرخسي وطبقته، وتوفي في صفر، وله سبع وسبعون سنة، وأول ما جلس للوعظ وله عشر سنين.
قال ابن ناصر الدّين [1] : كان إماما حافظا، عمدة، مقدّما في الوعظ والأدب وغيرهما من العلوم، وحفظه للحديث وتفسير القرآن معلوم، ومن مصنفاته كتاب «الفصول في الأصول» .
وقال الذهبي [2] : كان شيخ خراسان في زمانه.
وقال ابن قاضي شهبة [3] : [كان أبوه من أئمة الوعظ بنيسابور] فتوفي [4] ولولده هذا تسع سنين، فأجلس مكانه، وحضر أول مجلس أئمة الوقت في بلده، كالشيخ أبي الطيب الصّعلوكي، والأستاذ أبي بكر بن فورك، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، ثم كانوا يلازمون مجلسه، ويتعجبون من فصاحته، وكمال ذكائه، وحسن إيراده.
قال عبد الغافر الفارسي: كان أوحد وقته في طريقته [5] ، وعظ المسلمين سبعين سنة، وخطب، وصلّى في الجامع نحوا من عشرين سنة، وكان حافظا كثير السماع والتصنيف، حريصا على العلم. سمع الكثير، ورحل ورزق العزّة والجاه في الدّين والدّنيا، وكان جمالا في البلد، مقبولا عند الموافق والمخالف، مجمعا على أنه عديم النظير، وكان سيف السنّة،
[1] في «التبيان شرح بديعة البيان» (149/ آ) .
[2]
انظر «العبر» (3/ 221) .
[3]
انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 231) .
[4]
في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة: «فقتل» وما بين حاصرتين زيادة منه لتوضيح الكلام.
[5]
في «آ» و «ط» : «في طريقه» ، وما أثبته من «طبقات ابن قاضي شهبة» .
ودافع [1] أهل البدعة، وقد طوّل عبد الغافر في ترجمته، وأطنب في وصفه.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: شيخ الإسلام صدقا وإمام المسلمين حقا، أبو عثمان الصّابوني. انتهى ملخصا.
وفيها ابن بطّال، مؤلف «شرح البخاري» أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك بن البطّال القرطبي. روى عن أبي المطرّف القنازعي، ويونس بن عبد الله القاضي، وتوفي في صفر.
وفيها أبو عبد الله الخبّازي، محمد بن علي بن محمد النيسابوري المقرئ، عن سبع وسبعين سنة. روى عن أبيه القراءات، وتصدّر وصنّف فيها، وحدّث عن أبي محمد الخلدي وطبقته، وكان كبير الشأن، وافر الحرمة، مجاب الدعوة، آخر من روى عنه الفراوي.
وفيها أبو الفتح الكراجكي- أي الخيمي- رأس الشيعة، وصاحب التصانيف، محمد بن علي، مات بصور في ربيع الآخر، وكان نحويا لغويا، منجما، طبيبا، متكلّما، متفنّنا، من كبار أصحاب الشريف المرتضى، وهو مؤلّف كتاب «تلقين أولاد المؤمنين» .
[1] في «آ» و «ط» : «وأفعى» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات ابن قاضي شهبة» ولفظة «أهل» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» .