الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سنة ست وسبعين وأربعمائة
فيها عزم أهل حرّان، وقاضيهم ابن جلبة الحنبلي على تسليم حرّان إلى جنق [1] أمير التّركمان، لكونه سنّيّا، وعصوا على [2] مسلم بن قريش، صاحب الموصل، لكونه رافضيا، ولكونه مشغولا بمحاصرة دمشق مع المصريين. كانوا يحاصرون بها تاج الدولة تتش [3] فأسرع إلى حرّان، ورماها بالمجانيق، وأخذها، وذبح القاضي وولديه رحمهم الله تعالى. قاله في «العبر» [4] .
وفيها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآباذي الشافعي، جمال الدّين. أحد الأعلام، وله ثلاث وثمانون سنة.
تفقه بشيراز، وقدم بغداد، وله اثنتان وعشرون سنة، فاستوطنها ولزم القاضي أبا الطيب إلى أن صار معيده في حلقته، وكان أنظر أهل زمانه، وأفصحهم وأورعهم، وأكثرهم تواضعا وبشرا، وانتهت إليه رئاسة المذهب في الدّنيا.
روى عن أبي علي بن شاذان، والبرقاني، ورحل إليه الفقهاء من الأقطار،
[1] كذا في «آ» و «ط» و «العبر» ، وفي «الكامل في التاريخ» لابن الأثير (10/ 130) :«جبق» وأثبت في الباء نقطة تحت السكون إشارة إلى شك الناشر في وجه الصواب في الاسم.
[2]
لفظة «على» سقطت من «آ» وأثبتها من «ط» و «العبر» .
[3]
تصحف في «آ» و «ط» إلى «تنش» والتصحيح من «العبر» .
[4]
(3/ 285) .
وتخرّج به أئمة كبار، ولم يحجّ ولا وجب عليه، لأنه كان فقيرا متعفّفا، قانعا باليسير. ودرّس بالنظامية، وله شعر حسن. توفي في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة. قاله في «العبر» [1] .
وقال ابن قاضي شهبة [2] : قال الشيخ أبو إسحاق: كنت أعيد كل قياس ألف مرة، فإذا فرغت أخذت قياسا آخر على هذا، وكنت أعيد كل درس مائة مرة، وإذا كان في المسألة بيت يستشهد به، حفظت القصيدة التي فيها البيت.
وكانت الطلبة ترحل من الشرق والغرب إليه، والفتاوى تحمل من البرّ والبحر إلى بين يديه.
قال رحمه الله: لما خرجت في رسالة الخليفة إلى خراسان، لم أدخل بلدا ولا قرية إلّا وجدت قاضيها، أو خطيبها، أو مفتيها، من تلامذتي.
وبنيت له النظامية ودرّس بها إلى حين وفاته، ومع هذا فكان لا يملك شيئا من الدنيا، بلغ به الفقر حتّى كان لا يجد في بعض الأوقات قوتا ولا لباسا، وكان طلق الوجه، دائم البشر، كثير البسط، حسن المجالسة، يحفظ كثيرا من الحكايات الحسنة والأشعار، وله شعر حسن.
قال أبو بكر الشّاشي: الشيخ أبو إسحاق حجّة الله تعالى على أئمة العصر.
وقال ابن السمعاني: إن الشيخ أبا إسحاق قال: كنت نائما ببغداد، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر، فقلت [3] : يا رسول الله، بلغني
[1](3/ 285- 286) .
[2]
انظر «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/ 252- 253) .
[3]
تحرّفت في «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة إلى «فقال» فتصحح.
عنك أحاديث كثيرة عن ناقلي الأخبار، وأريد أن أسمع منك خبرا أتشرف به في الدّنيا، وأجعله ذخيرة للآخرة. فقال لي:«يا شيخ» وسمّاني شيخا، وخاطبني به،- وكان يفرح بهذا- ثم قال:«قل عنّي، من أراد السّلامة فليطلبها في سلامة غيره» .
وقد أخذ هذا المعنى بعضهم فنظمه في أبيات هي كالشرح لهذا الخبر، فقال:
إذا [1] شئت أن تحيا ودينك سالم
…
وحظّك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
…
فعندك عورات وللنّاس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايبا
…
لقوم فقل: يا عين للنّاس أعين
وصاحب بمعروف وجانب من اعتدى
…
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
وقال ابن الأهدل: لما قدم الشيخ نيسابور رسولا من جهة المقتدر، تلقاه النّاس، وحمل إمام الحرمين الغاشية بين يديه وناظره، فغلبه الشيخ بقوة الجدل قيل:[قال] له: ما غلبتني إلّا بصلاحك.
ولما شافهه المقتدر بالرسالة، قال له: وما يدريني أنك الخليفة ولم أرك قبلها، فتبسم، وطلب من عرّفه به، وتراكب الناس عليه في بلاد العجم، حتّى تمسحوا بأطراف ثيابه وتراب نعليه.
ومن شعره رضي الله عنه:
سألت النّاس عن خلّ وفي
…
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسّك إن ظفرت بودّ حرّ
…
فإنّ الحرّ في الدّنيا قليل
وذكر النووي في «تهذيبه» [2] أن الشيخ أبا إسحاق كان طارحا للتكلف.
وروي أنه جيء بسؤال وهو عند دكان خباز أو بقّال، فأخذ قلمه ودواته وأجاب على السؤال، ثم مسح بالقلم ثوبه.
وعلى الجملة فإنه ممّن أطبق الناس على فضله وسعة علمه، وحسن سمته وصلاحه، مع القبول التام من الخاص والعام، وقد أثنى عليه علماء وقته بما يطول شرحه.
وقال فيه عاصم بن الحسين:
تراه من الذّكاء نحيف جسم
…
عليه من توقّده [1] دليل
إذا كان الفتى ضخم المعاني
…
فليس يضره [2] الجسم النّحيل
وله مؤلفات كثيرة شهيرة نافعة، رحمه الله تعالى.
وفيها أبو الوفاء، طاهر بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن القوّاس البغدادي، الفقيه الحنبلي، الزاهد الورع.
ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وقرأ القرآن [3] على أبي الحسن الحمّامي، وسمع الحديث من هلال الحفّار، وأبي الحسين بن بشران، وغيرهما [4] .
وتفقه أولا على القاضي [أبي الطيب الطبري الشافعي، ثم تركه، وتفقّه على القاضي][5] أبي يعلى، ولازمه حتّى برع في الفقه، وأفتى ودرّس، وكانت له حلقة بجامع المنصور للفتوى والمناظرة، وكان يلقي المختصرات من تصانيف
[1] في «آ» و «ط» : «توجده» والتصحيح من «وفيات الأعيان» (1/ 30) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 463) .
[2]
في «سير أعلام النبلاء» : «يضيره» وكلاهما بمعنى.
[3]
كذا في «ط» و «طبقات الحنابلة» (2/ 244) و «المنتظم» (9/ 8)، وفي «آ» :«وقرأ القراءات» .
[4]
في «ط» : «وغيرهم» .
[5]
ما بين حاصرتين سقط من «آ» وأثبته من «ط» .
شيخه القاضي أبي يعلى، ويلقي مسائل الخلاف درسا، وكان إليه المنتهى في العبادة، والزهد، والورع.
وذكره ابن السمعاني في «تاريخه» فقال: من أعيان فقهاء الحنابلة وزهّادهم، كان قد أجهد نفسه في الطاعة والعبادة، واعتكف في بيت الله خمسين سنة، وكان يواصل الطاعة ليله بنهاره، وكان قارئا للقرآن [1] ، فقيها، ورعا، خشن العيش. انتهى.
وكانت له كرامات ظاهرة، ذكر ابن شافع في ترجمة صاحبه أبي الفضل بن العالمة الإسكاف المقرئ، أنّه كان يحكي من كرامات الشيخ أبي الوفاء أشياء عجيبة، منها أنه قال: كنت أحمل معي رغيفين كل يوم فأعبر- يعني في السفينة- برغيف، وأمشي إلى مسجد الشيخ فأقرأ، ثم أعود ماشيا إلى ذلك الموضع، فأنزل بالرغيف الآخر، فلما كان يوم من الأيام أعطيت الملاح الرغيف، فرمى به واستقله، فألقيت إليه الرغيف الآخر، وتشوش قلبي لما جرى، وجئت إلى الشيخ، فقرأت عليه عادتي، وقمت على العادة، فقال لي: قف، ولم تجر عادته قطّ بذلك، ثم أخرج من تحت وطائه قرصا فقال:
أعبر بهذا.
وفيها عبد الوهاب [2] بن أحمد بن عبد الوهاب بن جلبة البغدادي ثم الحرّاني، الخزّاز أبو الفتح، قاضي حرّان. اشتغل ببغداد، وتفقه بها على القاضي أبي يعلى، وسمع الحديث من البرقاني، وأبي طالب العشاري، وأبي على بن شاذان، وغيرهم. ثم استوطن حرّان، وصحب بها الشريف أبا القاسم الزيدي، وأخذ عنه، وتولى بها القضاء.
[1] في «آ» : «للقراءات» .
[2]
في «آ» و «ط» : «عبد الله» وهو خطأ، والتصحيح من «طبقات الحنابلة» (2/ 245) و «العبر» (3/ 286) و «عبد الوهاب» الثانية لم ترد فيه، و «المنهج الأحمد» (2/ 173) بعناية الأستاذ عادل نويهض.
قال عنه ابن السمعاني: كان فقيها، واعظا، فصيحا.
وقال ابن أبي يعلى [1] : كان يلي قضاء حرّان من قبل الوالد، كتب له عهدا بولاية القضاء بحرّان. وكان ناشرا للمذهب، داعيا إليه، وكان مفتي حرّان، وواعظها، وخطيبها، ومدرّسها.
وقال ابن رجب [2] : له تصانيف كثيرة. وسمع منه جماعة، منهم: هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي، ومكّي الرّميلي وغيرهما. وفي زمانه كانت حرّان لمسلم بن قريش صاحب الموصل، وكان رافضيا، فعزم القاضي أبو الفتح على تسليم حرّان إلى جبق [3] أمير التّركمان لكونه سنيا، فأسرع ابن قريش إلى حرّان، وحصرها، ورماها بالمجانيق، وهدم سورها، وأخذها، ثم قتل القاضي أبا الفتح، وولديه، وجماعة من أصحابه، وصلبهم على السور، وقبورهم بحرّان تزار، رحمة الله عليهم.
وذكر ابن تيمية في «شرح العمدة» أن أبا الفتح بن جلبة كان يختار استحباب مسح الأذنين بماء جديد، بعد مسحهما بماء الرأس، وهو غريب جدا.
وفيها أبو محمد عبد الله بن عطاء بن عبد الله بن أبي منصور بن الحسن بن إبراهيم الإبراهيمي الهروي، المحدّث الحافظ، أحد الحفّاظ المشهورين الرّحالين. سمع بهراة من عبد الواحد المليحي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وببوشنج من أبي الحسن الدّاوودي، وبنيسابور من أبي القاسم القشيري وجماعة، وببغداد من ابن النّقور وطبقته، وبأصبهان من عبد الوهاب، وعبد الرحمن ابني مندة، وجماعة. وكتب بخطه الكثير، وخرّج
[1] في «طبقات الحنابلة» (2/ 245) .
[2]
انظر «ذيل طبقات الحنابلة» (1/ 43) .
[3]
في «آ» و «ط» : «جنق» بالنون وهو تصحيف، والتصحيح من «ذيل طبقات الحنابلة» وانظر «الكامل في التاريخ» (10/ 130) .
التاريخ للشيوخ، وحدّث، وروى عنه أبو محمد سبط الخيّاط، وابن الزعفراني، وآخر من روى عنه أبو المعالي بن النّحاس، ووثّقه طائفة، منهم:
المؤتمن السّاجي.
وقال شهردار الدّيلمي عنه: كان صدوقا، حافظا، متقنا، واعظا، حسن التذكير [1] ، وقد تكلم فيه هبة الله السقطي- والسقطيّ مجروح لا يقبل قوله- وقد ردّ قوله ابن السمعاني، وابن الجوزي، وغيرهما، وتوفي في طريق مكّة بعد عوده منها، على يومين من البصرة.
وفيها أبو الخطّاب، علي بن أحمد بن عبد الله المقرئ الصّوفي المؤدب البغدادي.
ولد سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وقرأ على أبي الحسن الحمّامي وغيره بالسبع، وقرأ عليه خلق كثير، منهم أبو الفضل بن المهتدي، وروى عنه الحديث أبو بكر بن عبد الباقي وغيره، وله مصنف في السبعة [2] ، وقصيدة في السنّة، وقصيدة في عدد الآي، وكان من شيوخ الإقراء ببغداد المشهورين، ومن حنابلتها المجتهدين، وكان سابقا شافعيا، ثم رأى الإمام أحمد، وسأله عن أشياء، وأصبح وقد تحنبل، وصنّف في معتقدهم.
وفيها أبو حكيم [3] الخبري- نسبة إلى خبر بنواحي شيراز- كان فقيها صالحا، وكان يكتب في مصحف، فألقى القلم من يده واستند، وقال: والله إن هذا هو موت هنيّ طيب ثم مات، رحمه الله تعالى. قاله ابن الأهدل.
وفيها البكري، أبو بكر، المغربي [4] الواعظ، من دعاة الأشعرية،
[1] في «آ» : «التذكرة» .
[2]
يعني في القراءات السبعة.
[3]
في «آ» و «ط» : «أبو حليم» وما أثبته من «الأنساب» (5/ 39) .
[4]
لفظة «المغربي» سقطت من «آ» وتحرّفت في «ط» إلى «المقرئ» والتصحيح من «العبر» و «سير أعلام النبلاء» (18/ 561) .
وفد على نظام الملك بخراسان، فنفق عليه، وكتب له سجلا أن يجلس بجوامع بغداد، فقدم وجلس ووعظ، ونال من الحنابلة سبّا وتكفيرا، ونالوا منه، ولم تطل مدته. قاله في «العبر» [1] .
وفيها أبو طاهر، محمد بن أحمد بن محمد أبي الصّقر اللّخمي الأنباري الخطيب، في جمادى الآخرة، وله ثمانون سنة. سمع بالحجاز، والشام، ومصر، وأكبر مشايخه ابن أبي نصر التميمي.
وفيها مقرئ الأندلس في زمانه، أبو عبد الله محمد بن شريح [2] الرّعيني الإشبيلي المقرئ، مصنف كتاب «الكافي» وكتاب «التذكير» توفي في شوال، وله أربع وثمانون سنة، وقد حجّ وسمع من أبي ذرّ الهروي، وجماعة [3] .
[1](3/ 286) .
[2]
في «آ» و «ط» : «ابن سريج» وهو خطأ والتصحيح من «العبر» - وقد ضبطه محققه بفتح الشين وهو خطأ- و «سير أعلام النبلاء» (18/ 554) .
[3]
قلت: وفيها على الصواب إمام العربية، أبو الحجّاج، يوسف بن سليمان بن عيسى الشنتمري الأندلسي. انظر «الصلة» لابن بشكوال (2/ 681) و «وفيات الأعيان» (7/ 81) و «سير أعلام النبلاء» (18/ 555- 557) والتعليق عليه. وقد وهم المؤلّف ابن العماد- رحمه الله فأورده في وفيات سنة (495) فليحرر.