الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[إثبات الإرادة لله تعالى]
قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) فإنه تعالى {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [سورة البروج: 16]، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وهو رب كل شيء، وهو الخالق لكل شيء، فما شاء الله كونه لا بد أن يكون ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [النحل: 40]، وما لم يشأ لا يكون أبدًا.
إذًا؛ كل ما يجري في الوجود من: حركات الأفلاك، وجريان النجوم، والشمس والقمر، وتقلب الليل والنهار، وأمواج البحار بمشيئة الله، وكل ما يقع من العباد، فما تلفظ ولا تحرك شفتيك إلا بمشيئة الله، ولا تفتح عينك إلا بمشيئة الله ولو شاء الله ما فتحت عينك.
(ولا يكون إلا ما يريد).
والإرادة هنا هي الإرادة الكونية الشاملة للوجود، ونقول: الإرادة الكونية؛ لأن الإرادة المضافة لله نوعان: إرادة كونية، وإرادة شرعية. (1)
فمن شواهد الإرادة الكونية: قوله تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ))، وقوله:((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)) وقوله: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) وقوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ))، وفي معناه المشيئة ((إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) ((يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي
(1) مجموع الفتاوى 8/ 188، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 266، وشفاء العليل ص 280.
مَنْ يَشَاءُ)) فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة تمامًا.
والإرادة الشرعية من شواهدها: قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) وقوله تعالى: ((تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)) ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)) ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)). فهذه إرادة شرعية.
والفرق بين الإرادتين منوجهين:
الأول: أن الإرادة الكونية: عامة لكل ما يكون لا يخرج عنها شيء، فتشمل ما يحبه الله وما يبغضه الله.
فإيمان المؤمنين وطاعة المطيعين، وكفر الكافرين ومعصية العاصين، كل ذلك بإرادته الكونية.
وأما الإرادة الشرعية: فإنها تختص بما يحبه الله سبحانه وتعالى.
إذًا؛ الإرادة الكونية عامة، وهذه خاصة.
الإرادة الكونية لا تستلزم المحبة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تستلزم المحبة.
والفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا يتخلف مرادها أبدا، وأما الإرادة الشرعية: فإنه لا يلزم منها وقوع المراد.
وتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن، فهو مرادٌ لله كونا، ومرادٌ شرعا، فهو مرادٌ بالإرادتين.
وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي، فهو مرادٌ بالإرادة الكونية لا الشرعية، إذ ليس ذلك بمحبوب بل مسخوط ومبغوض لله سبحانه.
وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر الذي لم يقع؛ لأنا نقول: إنه مرادٌ من أبي جهل أن يؤمن بالإرادة الشرعية، لكنه لم يقع.
لكن الإرادة الشرعية لا تفسر بالمشيئة، فلا نقول: إن الله شاء الإيمان من أبي جهل، لكن نقول: إن الله أراد منه الإيمان، يعني: الإرادة الشرعية، وأمره بالإيمان الأمر الشرعي،
وبهذه المناسبة الصحيح أن المشيئة لا تنقسم، فلا يقال: إن المشيئة نوعان شرعية وكونية.
بل المشيئة كونية فقط، وليس لمن قال:(إن المشيئة نوعان) ما يدل على قوله؛ بل المشيئة كونية فقط، وهي عامة (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن).
وتقسيم الإرادة إلى كونية، وشرعية يجري مثله في معاني متعددة في القرآن، فمما يضاف إلى الله الإذن، وهو: شرعي وقدري ـ والقدري هو الكوني ـ والقضاء، والتحريم، والبعث، والإرسال، وغيرها كلها يجري فيها هذا التقسيم (1).
مثلا: الإذن منه كوني وشرعي، قال الله تعالى في شأن السحرة ((وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) [البقرة: 102] فالسحرة لا يضرون أحدا بسحرهم إلا بإذنه الكوني.
وأما الإذن الشرعي فقوله تعالى ((مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) [الحشر: 5]
والقضاء: قال تعالى: ((وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)) [الإسراء: 4] هذا قضاء كوني، وقال تعالى ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء: 23] هذا القضاء الشرعي.
والتحريم: قال تعالى ((وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ)) هذا تحريم كوني، لكن قوله تعالى ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)) و ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ)) هذا تحريم شرعي.
المقصود: أن قول الطحاوي: (ولا يكون إلا ما يريد) فيه تقرير واثبات للإرادة الكونية، وفي هذا رد على المعتزلة؛ فإنهم ينفون الإرادة الكونية، ومن أصولهم الباطلة ما يسمونه بالعدل، ويدرجون فيه نفي القدر، ومن نفيهم للقدر، نفيهم عموم المشيئة، فعندهم أن مشيئة الله
(1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 265، وشفاء العليل ص 280.
ليست عامة، فكل أفعال العباد عندهم ليست بمشيئة الله، (1) فالإنسان يقوم ويقعد، ويذهب ويجيء، ويقاتل كل ذلك ليس بمشيئة الله! تبًا لهم تبًا لهم، ما أضلهم، فقد أخرجوا عن ملك الله كثيرا مما في الوجود، ونسبوا ربَ العالمين إلى العجز، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
بل أفعال العباد لا خروج لها عن حكم سائر الموجودات، وكل الموجودات محكومة بمشيئة الله وقدرته سبحانه وتعالى.
(1) التدمرية ص 488.