الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سوء عاقبة من لم يسلم لخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
-]
وقوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسا تائها، شاكا زائغا).
من (لم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه
…
) فيبقى متذبذبا مترددا كحال المنافق ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ)) [النساء: 143] بين المؤمنين والكفار ((لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ)) [النساء: 143] فبسبب عدم التسليم والانقياد لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يبقى مترددا.
وقوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان) إما أنه يقع في الكفر الأعظم فِعلا فيصير مرتدا ثم يرجع، وهذا يحصل تارة ظاهرا، كما قال الله:((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً)) [النساء: 137].
ويحصل تارة داخل القلب فقط، فلا يتبين أمره، وقد يرجع إلى الإيمان، وقد لا يرجع ـ والعياذ بالله ـ، وقد يتردد ويكون عنده حالة من الحرج والضيق فيما جاء وحكم به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال سبحانه:((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ)) [النساء: 65].
وقوله: (والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار) هذه الكلمات متقاربة، فالكفر يكون بالتكذيب والإنكار، والإيمان يكون بالتصديق والإقرار، فهذا تنويع في التعبير، وإن كانت الألفاظ مختلفة المعاني لكنها متلازمة.
وقوله: (موسوسا تائها)
فيبقى متذبذبا بين هذه الأضداد (موسوسا تائها) فالوساوس التي يلقيها الوسواس الخناس تجعله في حيرة، فما يخطر بالبال من شبهات وأفكار تعارض الحق كلها من إلقاء الشيطان، فهو مسلط على الإنسان، والإنسان مبتلى بالشيطان، هو عدو خفي، والله سبحانه وتعالى أقدره على أن يوسوس للإنسان، والقلب بين حالتين:
بين لَمَّةِ الملك، ولَمَّةِ الشيطان؛ فلمة الملك لقلب المؤمن المسلم، أما الكافر فقد أحاط الشيطان به، وليس للملك فيه لمة، «فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق» ، (1) فالشيطان يوسوس، فيبقى هذا المتكلف الذي لم يوفق للتسليم متذبذبا موسوسا، فقلبه في هذه الوساوس فتجعله في تردد، كما قال سبحانه في المنافقين:((فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) [التوبة: 45] فهو يتقلب، فتارة يكون مؤمنا، وتارة كافرا، وتارة حائرا.
وقوله: (شاكا زائغا) أي: مترددا تائها، زائغا منحرفا، قال تعالى:((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) [الصف: 5]((وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)) [التوبة: 127] فهذه آثار عدم التسليم، وعكس ذلك من كان مُسَلِّما لله عز وجل، ولرسوله صلى الله عليه وسلم قد قام دينه على التسليم، فأصبح ثابت القلب ليس عنده تردد ولا تذبذب ولا حيرة ولا قلق، بل هو يسير على صراط واضح مستقيم، يمشي بنور من الله، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
(1) رواه الترمذي (2988)، والبزار (2027)، والنسائي في الكبرى (11051)، وابن حبان (997) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ورجح الأئمة وقفه، انظر: علل الترمذي الكبير (654)، والعلل لابن أبي حاتم (2224)، ومصادر التخريج.
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورَاً تَمْشُونَ بِهِ)) [الحديد: 28] فالمؤمن الصحيح التوحيد يمشي في هذه الحياة بنور الحق، فيعرف مواقع أقدامه، والطريق الذي يسير عليه ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَاً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)) [الأنعام: 153] لكن هذا المتذبذب لا يدري أين طريق النجاة، فهو متذبذب متردد بين التصديق والتكذيب والإقرار والإنكار فهو في حيرة دائمة؛ لأن الشك والحيرة عذاب، أما المؤمن فقلبه في نعيم، وكلامنا هذا في إنسان ينتمي للإسلام، أما الكافر فهو غارق في بحر الضلال والكفر، فليس عنده تفكير، وتردد بين حق وباطل وإقرار وإنكار وإيمان وكفر؛ بل عنده كفر خالص وإنكار دائم تام؛ لكن هذا الذي ينتمي للدين، ويدعي الإيمان، ولكنه لم يكن مستقيما مسلما مستسلما، فهذا الذي يحصل له ما يحصل من الاضطراب والقلق، فإما أن يعصمه الله ويثبته ويوفقه؛ فيثبت على الإيمان وينجو من هذه الوساوس والشكوك، وإما أن يقوى في قلبه سلطان الباطل؛ فيصير إلى الكفر دائما ولا يكون عنده تردد.
وقوله: (لا مؤمنا مصدقا ولا جاحدا مكذبا، ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين).
هذا كأنه كلام معترض من قوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه
…
) واسترسل في هذه الكلمات في التأكيد والحث على التسليم والاستسلام والتحذير من ضد ذلك، وبيان الآثار المترتبة على عدم التسليم والاستسلام، فكل هذا الكلام معترض في ثنايا كلامه في تقرير رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وبَيَّن أن من أثبت الرؤية على خلاف ظاهر النصوص، أو تخيل كيفيتها بوهم، أو تأولها بفهم، كما صنع المعطلة نفاة الرؤية، فلا يصح إيمانه برؤية المؤمنين لربهم.
وقوله: (إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين).
فالصراط المستقيم والمنهج القويم: بترك التأويل الذي معناه: صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره، أو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى احتمال مرجوح.
فتأويل الرؤية يعني: تفسيرها، وتفسير كل معنى يضاف إلى الرب من صفاته سبحانه وتعالى بترك التفسير، ومثل هذه العبارة توهم ـ أيضا ـ التفويض، كقول السلف:«أمروها كما جاءت بلا كيف» ، فتفسيرها بترك تفسيرها، وهذا لا يقصده السلف، فإنه قد علم أن أهل السنة يثبتون حقيقة الرؤية، وأنها رؤية بصرية، ويصرحون بذلك، ويثبتون لله الصفات بالمعاني المعقولة المفهومة من النصوص، فإذا جاءت مثل هذه العبارات فلا بد أن نفهمها على وجهها الصحيح، أمروها كما جاءت: أجروها على ظاهرها، مثبتين لما دلت على ثبوته، بلا بحث عن الكيفية، ولا تحديد لِكُنْهِ تلك الصفات، وليس المقصود: أمروها ألفاظا من غير فهم للمعنى! هذا باطل؛ لأن معناه أننا ما أثبتنا شيئا.
فتفسيرها أن نجريها على ظاهرها بترك صرفها عن ظاهرها، بترك التأويل في اصطلاح المتأخرين، ونجد في كلام بعض الأئمة مثل نحو هذه الكلمة: الواجب في هذه النصوص عدم تأويلها، أو إجراؤها على ظاهرها بترك التأويل.
وتركُ التأويل ليس تركَ التفسير مطلقا، فيكون كلاما لا يفهم معناه؛ لأن الكلام الذي لا يفهم معناه لا فائدة منه، تعالى الله عما يقول الجاهلون والظالمون علوا كبيرا.
المقصود: أن عبارة الطحاوي من جنس عبارات بعض السلف التي توهم أنه يقرر التفويض وليس كذلك، إذ كيف يقول:(الرؤية حق لأهل الجنة) إذا كانت الرؤية لا تفسر ولا تفهم، فلا معنى لقوله:(حق).
فمن يقول: إن الله خاطب عباده بما لا يفهم منه شيء لا يجوز أن
يتكلم في النصوص بأنها تدل على كذا، أو لا تدل على كذا، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر القاعدة الخامسة من الرسالة التدمرية، يقول:(وهؤلاء) يعني: أهل التفويض (قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء، وهذا مع أنه باطل فهو متناقض) إلى آخره. (1)
(1) التدمرية ص 329.