الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الإيمان بالعرض والحساب، والصراط والميزان]
وقوله: (والعرضِ والحسابِ، وقراءةِ الكتابِ، والثوابِ والعقابِ، والصراطِ، والميزانِ).
من أحوال يوم القيامة عرض العباد على ربهم، وعرض أعمالهم عليهم، قال تعالى:((وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَاً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الكهف: 47 - 48] وكذلك عرض الأعمال على العاملين، قال تعالى:((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)) [آل عمران: 30]، وفي حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه:(ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه؛ فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه؛ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه؛ فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:(ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب). (2)
وكذلك الحساب، والحساب في اللغة: العد، ويطلق بمعنى
(1) رواه البخاري (7512)، ومسلم (1016).
(2)
رواه البخاري (6537) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2876).
المحاسبة، ومن أسماء يوم القيامة: يوم الحساب، قال تعالى:((بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) [ص: 26]، وهو اليوم الذي يحاسب الله فيه الخلائق، قال تعالى:((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47] ومن المحاسبة السؤال عن الأعمال، قال تعالى:((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الحجر: 92 - 93]، وقال تعالى:((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)) [الصافات: 24]، وقال تعالى:((اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً)) [الإسراء: 14]، وقال تعالى:((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيرَاً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورَاً * وَيَصْلَى سَعِيرَاً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورَاً)) [الانشقاق: 7 - 13].
ومن الحساب ما فيه مناقشة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عُذِّب)(1).
ومن المحاسبة ما جاء في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (يدنو أحدُكم من ربِّه حتى يضع كنَفَه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم)(2)، حساب يسير وعرض للأعمال، ليس فيه مناقشة.
هذا كله يدخل في إطار الحساب، وهناك سؤال يمكن أن يدخل في الحساب، قال تعالى:((حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [النمل: 84]، ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)) [القصص: 65].
(1) تقدم في ص 306.
(2)
رواه البخاري (6070) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2768) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
فأحوال القيامة وأهوالها عظيمة، فيا له من يوم ما أعظمه! ((أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)) [المطففين: 4 - 5] وثقيل، قال تعالى:((إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] وعسير؛ لكن على الكافرين، أما على أهل الإيمان والتقى فهو عليهم يسير، ولهذا يقول تعالى: ((عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)) [المدثر: 10]، وفي الآية الأخرى:((وَكَانَ يَوْمَاً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرَاً)) [الفرقان: 26].
وقوله: (وقراءة الكتاب).
قراءة كتاب الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله ومن وراء ظهره، كما في الآيات من سورة الانشقاق، وسورة الحاقة، قال تعالى:((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)) [الحاقة: 19]، ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)) [الحاقة: 25 - 28]، وقوله تعالى:((وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً)) [الإسراء: 13 - 14]، ((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلَاً)) [الإسراء: 71] وغيرها من الآيات.
وكل هذا مما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، ويجب الإيمان به.
وقوله: (والثواب والعقاب)
تفصيل وبيان لنوعي الجزاء على الأعمال؛ فإذا كانت الأعمال حسنات وسيئات؛ فالحسنات جزاؤها الثواب، وهو: كل خير ونعيم وسرور، وجماع ذلك وأعظمه رحمة الله وكرامته ورضاه وجنته، {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 21 - 22]
وقوله: (والصراط)
الصراط جسر وطريق ومعبر ينصب على متن جهنم، فيعبر عليه
الناس بحسب أعمالهم، وجاء بيان ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن منهم من يمر (كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مُسَلَّم، ومخدوش مرسل، ومَكْدُوس في نار جهنم)(1).
وهذا الصراط والسير عليه حسي، وهو في مقابل الصراط الذي في الدنيا، ففي الدنيا صراط معنوي، وهو دين الله الذي بعث به رسله، فالسير على ذاك الصراط بحسب السير على هذا الصراط، فمن كان على هذا الصراط ثابتا ومسرعا وقويا كان على ذاك كذلك، ومن كان بطيء السير في هذا الصراط كان سيره على ذاك ((جَزَاءً وِفَاقَاً)) [النبأ: 26]، و (الجزاء من جنس العمل).
وقوله: (والميزان)
أي: ميزان الأعمال، والآيات في هذا ظاهرة وكثيرة، قال تعالى:((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ليوم القيامة)) [الأنبياء: 47]، وقال تعالى:((فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) [الأعراف: 8 - 9]، إلى غير ذلك من الآيات.
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالميزان، وأنه ميزان حقيقي حسي، توزن به الأعمال، كما جاء في الأحاديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)(2) وفي الحديث الآخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)(3).
فدل الكتاب والسنة على وزن الأعمالِ، والأعمالُ وإن كانت أعراضا، والأعراض في حِسنا ومداركنا لا تقبل الوزن؛ لكنا نسلم
(1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
(2)
رواه البخاري (6682)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
ونؤمن بما أخبر الله به من وزن الأعمال، والله تعالى على كل شيء قدير، وفي حديث صاحب البطاقة الذي يأتي يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سِجِّلا، كل سِجِّل مد البصر، وكلها سيئات، فيُبهت فتُخرج له بطاقة فيها الشهادتان، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، قال:(فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). (1) دليل على أن صحائف الأعمال توزن، ويستدل به على فضل التوحيد الخالص، فهذا لمِا اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية؛ إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة؛ فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما، لأجل ذلك كفّرت سيئاته، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يرجح قولهم على سيئاتهم كصاحب البطاقة. هذا ما وجَّه به شيخ الإسلام ابن تيمية، هذا الحديث (2) وأمثاله (3).
وقد دلت النصوص على أن الأعمال توزن، وصحف الأعمال توزن؛ بل والعامل يوزن كما في الحديث (أنَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يجتني سواكا من الأراك ـ وكان دقيق الساقين ـ فجعلت الريح تَكْفَؤُهُ، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل
(1) رواه أحمد 2/ 213، والترمذي (2639) ـ وقال: حسن غريب ـ، وصححه ابن حبان (225)، والحاكم 1/ 6 و 529 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(2)
مجموع الفتاوى 7/ 488 و 10/ 735، ومنهاج السنة 6/ 219.
(3)
كحديث: أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري (652)، ومسلم (1914)، وحديثه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(بينما كلب يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَهَا فسقته فغفر لها به). رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245).
في الميزان من أحد). (1)
وأنكر بعضُ أهلِ البدعِ الميزانَ (2) وقالوا: ليس المراد ميزانا حسيا توزن به الأعمال، إنما هو كناية عن عدل الرب سبحانه وتعالى، لكن النصوص ظاهرة بأنه ميزان حسي ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ)) [الأنبياء: 47].
وقيل: إن الميزان واحد، توزن به أعمال العباد، (والله على كل شيء قدير) وقيل: إنها موازين، وهو ظاهر القرآن، ومن قال: إنه ميزان واحد، قال: الموازين المراد بها الموزونات، فالتعدد في الموزونات والميزان واحد، والله أعلم.
المهم الإيمان بوزن الأعمال. (3)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في باب (فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) من مسائل حديث أبي سعيد رضي الله عنه: (لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة)(4): معرفة أن الميزان له كفتان. (5)
لأن الميزان يتضمن المعادلة بين السيئات والحسنات، فمن رجحت حسناته على سيئاته نجا، ومن رجحت سيئاته على حسناته فقد يعذب، والكلام في المسلم الذي له حسنات، أما الكفار فليس لهم
(1) رواه أبو داود الطيالسي (354)، وأحمد 1/ 420 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ونحوه عند ابن أبي شيبة 17/ 194، وأحمد 1/ 114، والبخاري في الأدب المفرد (237).
(2)
كالمعتزلة، انظر: مقالات الإسلاميين ص 472، ودرء تعارض العقل 5/ 348 ـ وذكر أنه قول البغداديين من المعتزلة دون البصريين ـ، وفتح الباري 13/ 538.
(3)
التذكرة 2/ 734.
(4)
رواه النسائي في الكبرى (10670 و 10980)، وابن حبان (6218) والحاكم 1/ 528، وصححه ابن حجر في الفتح 11/ 208.
(5)
كتاب التوحيد 6/ 9.
حسنات، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية:(وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويجزون بها). (1)
(1) ص 216.