الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[براءة أهل السنة من المذاهب المبتدعة]
وقوله: (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا، ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه. ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية، مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم، من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق).
ختم الطحاوي بهذه الكلمات ما أثبته من مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة، وقوله:(فهذا) إشارة إلى كل ما ذكره من المسائل المتعلقة بأصول الإيمان، من مسائل التوحيد والرسالة، والمسائل المتعلقة بالقرآن وبالإيمان وبالصحابة وغير ذلك.
فهذا ديننا واعتقادنا الذي ندين لله به، ونخضع لله به، ونعبد الله به، كما قال في الأول:(نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له) إلخ.
وقوله: (ظاهرا وباطنا)
أي: نقر به بألسنتنا، ونصدقه بأفعالنا، ونعتقده بقلوبنا، وإنما ينفع الإيمان والدين إذا تطابق الظاهر والباطن، فدين الإسلام يتعلق بالباطن: اعتقادا وعملا؛ فالاعتقاد: التصديق واليقين. والعمل: الخوف والرجاء والتوكل والحب والبغض.
ويتعلق بالجوارح؛ باللسانِ إقرارًا، وبالجوارحِ فعلا للمأمورات،
وتركا للمنهيات، مما يُصَدِّق ما يقوله العبد بلسانه، ولهذا قال:(هذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا).
وقوله: (ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه)
أي: ونحن نبرأ إلى الله ونعادي وننابذ ونباعد كل من خالف ما تقدم ذِكره وتقريره؛ لأنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعني: البراءة من طوائف المبتدعين الذين خالفوا الكتاب والسنة، وقد أوضح ذلك ببيان البراءة من المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، فهؤلاء هم الذين يعنيهم بقوله:(ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه) لأنها مذاهب مبتدعة رديئة مفتراة، ومخالفة لما جاء في كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (ونسأل الله أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به)
وهذا ختم للكلام بالدعاء بالثبات على الإسلام، وهو أمر مهم، فنسأل الله أن يثبتنا على الإسلام والإيمان والاعتقاد الحق، والعبد فقير إلى تثبيت ربه وهدايته وعصمته حتى يلقاه، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ومن دعاء الأنبياء والصالحين: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101]{وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] ومن دعائه صلى الله عليه وسلم «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (1). فالدعاء بالثبات على الإسلام حتى الممات من أنفع وأهم وأحوج ما يكون للعبد.
وقوله: (ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية)
الاستقامة على الصراط إنما تكون بعصمة الله وهدايته، ولذا أمرنا أن نقول في كل صلاة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ
(1) تقدم تخريجه في ص 166.
عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7](1). فالعبد فقير إلى أن يعصمه ربه من هذه الضلالات، يقول ابن القيم ـ لما ذكر مذاهب المبتدعين ـ:
لَو شَاءَ رَبُّكَ كُنتَ أيضاً مِثلَهُم
…
فَالقَلبُ بَينَ أصابِعِ الرَّحمَنِ (2)
فمن عافاه الله مما عليه أهل الضلال؛ كالمشركين والرافضة والجهمية والصوفية والقدرية؛ فليعلم أن ذلك بتوفيق من الله لا بحوله ولا بقوته، وعلى المسلم أن يلهج دائما بسؤال العصمة والوقاية من طرائق المضلين من أصحاب الأهواء والمناهج المنحرفة عن هدى الله؛ فإن هذه المذاهب الردية متناقضة مختلفة ومضطربة وأهلها متبعون لأهوائهم ومتفرقون، كل حزب بما لديهم فرحون.
وقوله: (مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم)
هذه أسماء أبرز الطوائف المنحرفة في مسائل الاعتقاد؛ فالجهمية وإمامهم جهم بن صفوان، قد جمعوا بين ثلاث بدع كبرى: التعطيل في باب الأسماء الصفات، والجبر في باب أفعال العباد والقدر، والإرجاء في باب الإيمان (3).
والمعتزلة على النقيض من الجهمية في باب القدر، وباب الإيمان، وهم قريبون منهم في باب الأسماء والصفات؛ فالمعتزلة يثبتون الأسماء وينفون ما تدل عليه من الصفات، ولهم أصول خمسة:
1 -
التوحيد، ويقصدون به: نفي الصفات فعندهم إثبات الصفات تشبيه وتجسيم وشرك، ونفي الصفات هو التوحيد.
(1) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه البخاري (756) ومسلم (394).
(2)
الكافية الشافية ص 31.
(3)
مقالات الإسلاميين ص 279 والملل والنحل 1/ 61.
2 -
العدل، ويدخلون فيه نفي القدر؛ لأن عندهم أن الله تعالى لو شاء أفعال العباد، وكانت ذنوبهم بمشيئته كان تعذيبه لهم ظلما! فلهذا لم يجدوا مخرجا إلا بنفي تعلق مشيئة الله بها، فمذهبهم يتضمن أنه يكون في ملكه تعالى ما لا يشاء، فجميع ما يجري من حركات العباد وأفعالهم وتصرفاتهم وكلامهم كل ذلك بغير مشيئته، فعندهم أن الله تعالى لا يقدر على أن يجعل المؤمن كافرا أو الكافر مؤمنا، أو المطيع عاصيا أو العاصي مؤمنا؛ بل ولا يقدر أن يجعل القائم قاعدا والقاعد قائما، والمتكلم ساكتا والساكت متكلما؛ لأن هذه الأفعال لا تتعلق بها مشيئته ولا قدرته ولا خلقه.
3 -
المنزلة بين المنزلتين، وهي: أن مرتكب الكبيرة في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وهي منزلة الفاسق، فليس بمؤمن ولا كافر، لكنه في الآخرة مع الكافرين.
4 -
إنفاذ الوعيد، ويعنون به: أنه يجب على الله إنفاذ وتحقيق ما توعد به العاصين، فلا يجوز عندهم أن يعفو عن من مات مصرا على شيء من الذنوب.
5 -
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخلون فيه الخروج على الأئمة الظلمة بحجة إنكار المنكر (1).
وقد جاءت الشريعة بالنهي عن ذلك لما يفضي إليه من الفساد العريض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على قاعدة:«ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما»
فإنكار المنكر إذا كان يفضي إلى زيادة المنكر، أو إلى منكر أعظم كان الإنكار منكرا.
(1) مقالات الإسلاميين ص 155 - 278، والتنبيه والرد ص 49، ومجموع الفتاوى 13/ 386.
وقوله: (من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق)
هذه هي الحقيقة، فهؤلاء قد خالفوا جماعة المسلمين، التي هي الفرقة الناجية، (وحالفوا الضلالة) أي: لزموا الضلالة، واتبعوا أهواءهم، فهم أصحاب الأهواء؛ لأنهم حكموا عقولهم وقدموها على المنقول.
فأهل السنة منهم ومن بدعهم يتبرؤن، ويرون أنهم قد ضلوا وحادوا عن الصراط المستقيم بهذه المذاهب الباطلة.
نسأله سبحانه وتعالى أن يعافينا من المحدثات واتباع الأهواء، ونسأله تعالى أن يعصمنا منها، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وقد أوجب الله على عباده هذا الدعاء في كل ركعة من الصلاة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] (1) وإن كان المراد بالمغضوب عليهم والضالين في الأصل اليهود والنصارى، فهذه الفرق منها ما يكون مشابها للمغضوب عليهم، ومنها من هو مشابه للضالين، كما قال بعض السلف:«من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى» (2).
هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
(1) تقدم في ص 420.
(2)
نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير إلى سفيان بن عيينة رحمه الله. مجموع الفتاوى 16/ 567، وتفسير ابن كثير 4/ 138.