المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الإيمان باللوح والقلم] - شرح العقيدة الطحاوية - البراك

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌[ترجمة الإمام الطحاوي]

- ‌[ترجمة الشيخ عبد الرحمن البراك]

- ‌[المقدمة]

- ‌[قول أهل السنة في التوحيد]

- ‌[أقسام التوحيد]

- ‌[نفي المثل عن الله تعالى]

- ‌[نفي العجر عن الله تعالى]

- ‌[كلمة التوحيد وما تتضمنه]

- ‌[دوام الرب تعالى أزلا وأبدا]

- ‌[إثبات الإرادة لله تعالى]

- ‌[تنزيه الله تعالى عن الإحاطة به]

- ‌[تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه]

- ‌[إثبات الحياة والقيومية لله تعالى]

- ‌[تنزيه الله تعالى عن الحاجة والخوف والمشقة]

- ‌[إثبات الكمال المطلق لله تعالى أزلا وأبدا]

- ‌[صفات الله نوعان: ذاتية وفعلية]

- ‌[وصف الله تعالى بالخالق والبارئ قبل خلقه للخلق]

- ‌[إثبات كمال قدرته وغناه تعالى، وفقر خلقه إليه]

- ‌[إثبات صفاته تعالى، ونفي مماثلته للمخلوقات]

- ‌[إثبات علم الله تعالى، وتقديره الأقدار، وضربه الآجال]

- ‌[وجوب الإيمان بالشرع والقدر]

- ‌[إثبات عموم مشيئة الله تعالى]

- ‌[إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله]

- ‌[تنزيه الله تعالى أن يكون ضد أو ند]

- ‌[نفاذ قضائه وحكمه تعالى]

- ‌[وجوب اعتقاد أن محمدا عبد الله ورسوله، وذكر ما تثبت به النبوة]

- ‌[من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين]

- ‌[إثبات الخلة له صلى الله عليه وسلم كإبراهيم عليه السلام]

- ‌[حكم دعوى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌[عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للجن والأنس]

- ‌[فضل رسالته، وكمال شريعته صلى الله عليه وسلم

- ‌[عقيدة أهل السنة في القرآن، والرد على المخالفين]

- ‌[إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة]

- ‌[وجوب التصديق بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على مراده]

- ‌[وجوب التسليم لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمه على الآراء]

- ‌[سوء عاقبة من لم يسلم لخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌[مذهب أهل السنة في إثبات الصفات وسط بين المعطلة والمشبهة]

- ‌[الواجب في الألفاظ المحدثة في صفاته تعالى]

- ‌[مذهب أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج]

- ‌[إثبات حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌[إثبات شفاعته صلى الله عليه وسلم لأمته، وذكر الشفاعة الخاصة به]

- ‌[إثبات الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم]

- ‌[وجوب الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع]

- ‌[عجز الخلق عن معرفة حِكَمِ وأسرار القدر]

- ‌[البحث في أسرار القدر سبب للضلال]

- ‌[وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وترك الخوض فيما طوي عنا علمه]

- ‌[الإيمان باللوح والقلم]

- ‌[إثبات العرش والكرسي، وغناه تعالى عن كل شيء]

- ‌[إثبات صفة الإحاطة والفوقية لله تعالى]

- ‌[عجز الخلق عن الإحاطة بالله تعالى]

- ‌[إثبات صفة الخلة والتكليم لله تعالى]

- ‌[وجوب الإيمان بالملائكة والأنبياء والكتب]

- ‌[تسمية أهل القبلة بالمسلمين]

- ‌[أهل السنة لا يتكلمون في الله ودينه وكتابه بغير علم]

- ‌[أهل السنة لا يكفرون بكل ذنب]

- ‌[تأثير الذنوب على الإيمان]

- ‌[الرجاء للمحسنين، والخوف على المسيئين]

- ‌[مذهب أهل السنة وسط بين الوعيدية والمرجئة]

- ‌[ما يخرج به المسلم من الإيمان]

- ‌[مذاهب الفِرَقِ في مسمى الإيمان]

- ‌[وجوب الإيمان والعمل بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌[زيادة الإيمان ونقصانه]

- ‌[ولاية الله وبم تكون

- ‌[الإيمان بالأصول الخمسة، وتفصيل الإيمان باليوم الآخر]

- ‌[الإيمان بالقدر خيره وشره]

- ‌[حكم أهل الكبائر في الآخرة]

- ‌[مذهب أهل السنة في الصلاة خلف المسلمين، وعلى موتاهم]

- ‌[لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا بحجة]

- ‌[عصمة دماء المسلمين]

- ‌[وجوب السمع والطاعة بالمعروف لولاة الأمر، وتحريم الخروج عليهم]

- ‌[وجوب إتباع الكتاب والسنة وتجنب الشذوذ والفرقة]

- ‌[حب أهل العدل وبغض أهل الجور]

- ‌[تفويض العلم فيما خفي على العبد إلى الله]

- ‌[من مذهب أهل السنة المسح على الخفين]

- ‌[الحج والجهاد مع الأئمة برهم وفاجرهم]

- ‌[الإيمان بالكرام الكاتبين]

- ‌[الإيمان بملك الموت وأعوانه]

- ‌[الكلام على الروح وبعض متعلقاتها]

- ‌[وجوب الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه]

- ‌[الإيمان بالبعث والجزاء]

- ‌[الإيمان بالعرض والحساب، والصراط والميزان]

- ‌[خلق الجنة والنار وبقاؤهما]

- ‌[الرعد: 35]، وقال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ)) [ص: 54]، وقال تعالى: ((عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)) [هود: 108]، وقال تعالى: ((يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التوبة: 21 - 22]

- ‌[سبق القدر فيمن يصير إلى الجنة، ومن يصير إلى النار]

- ‌[كل شيء بقدر]

- ‌[أنواع الاستطاعة]

- ‌[خلق الله لأفعل العباد]

- ‌[كل ما يجري في الكون بمشيئة الله]

- ‌[انتفاع الأموات بعمل الأحياء]

- ‌[إجابة الله لدعاء عباده]

- ‌[إثبات الغضب والرضا لله تعالى]

- ‌[منهج أهل السنة في الصحابة]

- ‌[الأحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[العشرة المبشرون بالجنة]

- ‌[منهج أهل السنة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته]

- ‌[احترام علماء الأمة من السلف ومن اقتفى أثرهم]

- ‌[مرتبة الولاية دون النبوة]

- ‌[منهج أهل السنة في كرامات الأولياء]

- ‌[أشراط الساعة الكبرى]

- ‌[وجوب الحذر من تصديق الكهان والعرافين ونحوهم من المخالفين]

- ‌[من منهج أهل السنة لزوم الجماعة والحذر من الفرقة]

- ‌[وسطية دين الإسلام]

- ‌[براءة أهل السنة من المذاهب المبتدعة]

الفصل: ‌[الإيمان باللوح والقلم]

[الإيمان باللوح والقلم]

وقوله: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رُقِم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنًا لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمُه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما، ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عَقْد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً)) [الفرقان: 2] وقال تعالى: ((وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَقْدُوْرَاً)) [الأحزاب: 38]، فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما)

كل هذا دائر على موضوع القدر، والمصنف أطنب في الكلام على موضوع القدر وذلك لأهميته، وفرق الكلام فيه كما تقدم؛ لأن قوله هناك (1):(ولا يكون إلا ما يريد)، وقوله أيضا (2):(خلق الخلق بعلمه)، كل هذا مما يتصل بالقدر، والموضوع لا شك أنه جدير بزيادة التقرير

(1) ص 41.

(2)

ص 68.

ص: 179

والتأكيد، وبيان ما يقتضيه الإيمان بالقدر، وتقدم

(1) أنَّ جِماعَ الأمرِ الإيمانُ بالقدر بمراتبه الأربع، والإيمانُ يتضمن التسليم لحكم الله ولقدره، وترك المعارضة، والإمساك عن الخوض فيما طوى الله علمه عن العباد.

ويقول هنا: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رُقِم) من توابع الإيمان بالقدر الإيمان باللوح، واللوح المحفوظ ذكره الله تعالى بهذا اللفظ في سورة البروج، قال تعالى:((فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)) [البروج: 22] واللوح المحفوظ هو: أم الكتاب ((يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد: 39]، وهو الكتاب المبين المذكور في قوله تعالى:((وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام: 59] وهو الكتاب المكنون: ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)) [الواقعة: 77 - 78] فقد ذكر بأسماء متعددة في القرآن: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحج: 70].

فيجب الإيمان باللوح المحفوظ تصديقا لخبر الله تعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كتب الله فيه مقادير كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، (وبالقلم) أي: قلم المقادير الذي ورد فيه حديث عبادة بن الصامت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة)(2) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا القلم هو قلم المقادير الأول، والمقادير أو التقديرات أنواع، وكل قَدر له قلم يناسبه؛ لأن الكتابة تكون بالقلم.

فالقدر الأول هو القدر العام لجميع المخلوقات.

(1) ص 162 وما بعدها.

(2)

رواه أحمد 5/ 317، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155) ـ وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه ـ، وابن جرير في تاريخه 1/ 28، وصححه، والضياء في المختارة في مواضع منها: 8/ 351 - 353.

ص: 180

والتقدير الثاني الذي قدر الله فيه أمور آدم وذريه، وهو الذي أُشير إليه في حديث احتجاج آدم وموسى، وأن آدم عليه السلام قال لموسى عليه السلام:(هل وجدت في التوراة: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملا كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى" (1).

والتقدير الثالث: وهو التقدير المختص بكل إنسان، كما في الحديث المتفق على صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه قال ـ في الجنين عندما يبلغ أربعة أشهرـ: فيأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد

(2).

والتقدير الرابع، وهو التقدير الحولي: وهو ما يكون في ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4]، وسميت ليلة القدر؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة إلى مثلها.

وهذه التقديرات لا تخالف ولا تناقض التقدير الأول العام.

فنؤمن باللوح والقلم ولا نتكلم في كيفية اللوح، وكيفية القلم، وكيفية تلك الكتابة، فالله أعلم كيف كانت تلك الكتابة، كل ذلك غيب يجب أن نمسك عنه، ولا نخوض فيه، ولا نفكر فيه.

وقوله: (وبجميع) أي: ونؤمن بجميع (ما فيه قد رُقم) أي: كُتِب، فنؤمن إيمانا مجملا بأن الله كتب فيه مقادير الخلق، لكن هل نعلم ما رُقِم فيه وما كُتِب فيه؟ لا نعلم؛ إلا ما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لكن نعلم أن كل ما يقع في الوجود فهو

(1) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

تقدم في ص 72.

ص: 181

مكتوب؛ لكن قبل الوقوع لا ندري إلا أن يأتي فيه خبرٌ من معصوم.

وقوله: (لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنًا لم يقدروا عليه] يعني: لو اجتمع الخلق على أن يغيروا ما سبق به علم الله وكتابه لم يقدروا، وهذا معلوم بالضرورة أن الخلق لا يقدرون على تغيير قدر الله، ومن أدلة ذلك ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)(1) فالأمر قد فرغ منه، وهذا يوجب للعبد أن يعلق رجاءه وخوفه بربه لا بالأسباب ولا بالعباد؛ لأن العباد إن نفعوك فالله هو الذي أجرى تلك المنفعةَ على أيديهم، وأقدرهم عليها، وجعلهم يريدونها، وهيأ لهم أسبابها، وإن حصلت لك مضرة على يد أحد؛ فاعلم أن هذا بتقدير الله، فلا تغفلْ عن الله وتعلقْ قلبك بهم فتخافهم ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)) [العنكبوت: 10].

وقوله: (جف القلم بما هو كائن) جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (جف القلم بما أنت لاقٍ)(2) جف القلم: هذه كناية عن الفراغ من الأمر الذي سبق به القدر، فكل ما يجري في الوجود فقد سبق به علم الله وكتابه، لكن نؤكد على أن الله قضى بحكمته وعلمه وكتابه، إن هذه الأقدار متربط بعضها ببعض، ومن

(1) رواه أحمد 1/ 293، والترمذي (2516) ـ وقال: حسن صحيح ـ، والضياء في المختارة 10/ 22 - 25، وحسنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 345.

(2)

رواه البخاري تعليقا (5076) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 182

قدر الله ترتيب المسبَبَات على الأسباب، ما يجيء لك ولد إلا إذا تزوجت، ولا يعقل أن تقول: إنْ كتب الله لي ولدا فسيأتي ولو لم أتزوج! أو تترك طلب الرزق وتقول: إنْ كتب الله لي رزقا سيأتيني وأنا نائم! نعم قد يكون؛ لكن ليس هذا موجب العقل والفطرة والشرع؛ بل موجب العقل والفطرة والشرع: أن تسعى في طلب الرزق، ولو توكلت على الله، فلا بد لك من الأخذ بالأسباب، وأعظم من ذلك أمر السعادة، فلا تكون السعادة إلا بأسبابها وهي الإيمان والعمل الصالح، ولا يمكن أن يكون الإنسان سعيدًا إلا بالأسباب، فمن تحققت له أسباب السعادة فنعلم بذلك أنه قد سبق علم الله وكتابه بسعادته.

وقوله: (وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبَه وما أصابه لم يكن ليخطئه).

هذا تأكيد، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:(واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)(1) فما حصل لك من خير أو شر فقد سبق في علم الله وكتابه أنه يصيبك ويحصل لك، وما أخطأك وما فاتك وما سلمت منه فقد سبق علم الله وكتابه بذلك، ولم يكن في علم الله وكتابه أنه يصيبك ثم يخطئك.

وقوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمُه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه).

هذه الجملة تؤكد ما سبق، وهي أعم من قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة،

(1) رواه أحمد 5/ 182، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وابن حبان (727) من حديث ابن الديلمي عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وحذيفة موقوفا، ورفعه زيد بن ثابت رضي الله عنهم، وقال الذهبي في المهذب في اختصار السنن الكبير 8/ 4213: إسناده صالح، وصححه ابن القيم في شفاء العليل ص 113. وانظر: السلسلة الصحيحة (2439).

ص: 183

فلا يُزاد في ذلك العدد، ولا يُنقص منه) (1) فهذه الجملة بخصوص عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، وقد علم الله ذلك كله؛ لكن هنا المؤلف يؤكد ما يتعلق بالمرتبة الأولى من مراتب القدر، فلا بد أن يعلم العبد أنه قد سبق علم الله بكل ما هو كائن، وسبق قضاؤه وحكمه قضاء مبرما محكما، فلا مُغَيِّر ولا ناقض، ولا زائد ولا ناقص لعلمه وتقديره تعالى، وهذه الجملة شاملة يدخل فيها ـ مثلا ـ الملائكة، فقد سبق علم الله وكتابه وتقديره للملائكة بأعدادهم وصفاتهم ومنازلهم وفضائلهم وأعمالهم وأقوالهم، وقد سبق علمه سبحانه وتعالى وكتابه بعدد الأشجار وأنواعها وأجناسها وثمارها وأوراقها، قال تعالى:((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام: 59]

تأمل ماذا يتساقط من أوراق وحبوب الزروع والأشجار المأكولة وغير المأكولة في القفار وفي الديار؟!

وتأمل قوله (وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ) فإنها تشمل كل شيء من هذه الكائنات.

وقس سائر المخلوقات على هذين المثالين المذكورين.

ولسيد قطب رحمه الله في تفسيره كلام وتصوير بديع لدلالة هذه الآية، وما فيها من الشمولية العظيمة، والدلالة على الإعجاز. (2)

وقوله: (وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة).

العلم بأن الله قد سبق علمه في كل كائن، وقدر ذلك تقديرا محكما هذا من عقد الإيمان، وباختصار نقول: الإيمان بالقدر بكل مراتبه؛ ولكن المؤلف ركَّز هنا على المرتبة الأولى والثانية: مرتبة الإيمان بالعلم السابق الأزلي، ومرتبة الكتاب فركَّز عليها وأكَّد عليها، بقوله: (وذلك

(1) ص 162.

(2)

في ظلال القرآن 2/ 1111.

ص: 184

كله من عقد الإيمان) الذي يجب عقد القلب عليه، والإيمان اعتقاد يعقد الإنسان قلبه عليه.

وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته).

لاحظ أن الإيمان بالقدر هو من توحيد الربوبية؛ لأننا نقول في توحيد الربوبية هو: الإيمان بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، هكذا نفسر توحيد الربوبية، وهذا يتضمن الإيمان بالقدر، وهو أن كل شيء جارٍ بقدر الله وبمشيئة الله على وفق علمه وتقديره السابق، ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما:(الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر فقد تم توحيده، ومن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيده)(1) فالمكذب بالقدر لم يحقق توحيدَ الربوبية؛ فإن كان من الغلاة جحد علم الله وتقديره السابق، ونفى عموم المشيئة وعموم الخلق، وإن كان من مقتصدي النفاة القدرية فهو يُخرج أفعال العباد عن مشيئة الله وعن قدرته وخلقه وملكه.

إذًا؛ الإيمان بالقدر من توحيد الربوبية، فمن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه، وهذا يوضح قول المؤلف:(وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة).

وقوله: (كما قال تعالى في كتابه: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً)) [الفرقان: 2]، وقال تعالى:((وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَقْدُوْرَاً)) [الأحزاب]).

هذان دليلان من الأدلة الدالة على الإيمان بالقدر، وأنه تعالى خلق كل شيء على وفق ما سبق به قدره.

وقوله: (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر

(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 2/ 422، والفريابي في القدر ص 143، والآجري في الشريعة ص 183 و 184، وابن بطة في الإبانة 2/ 159 و 160، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص 742، بمعناه.

ص: 185

فيه قلبا سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سِرًا كتيمًا، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما).

بعدما ذكر أن هذا هو ما عليه الراسخون في العلم أولياء الله الذين نوَّر الله قلوبهم، وذكر أن هذا كله من عقد الإيمان وأصول المعرفة والتوحيد، أشار إلى من خالف ذلك ولم يعترف به، أو آمن بالقدر إيمانا ليس على الوجه المشروع، فقال:(فويل لمن صار) ويل: كلمة للوعيد والتهديد، قال تعالى:((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) [المطففين: 1]، ((وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)) [الهمزة: 1]، ((فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)) [الطور: 11] وهذا الوعيد يشمل كل الطوائف: الجبرية المشركية، والمجوسية نفاة القدر، والإبليسية، كلهم يصدق عليهم هذا؛ ولكن دخول الجبرية والإبليسية أظهر؛ لأن الجبرية يحتجون بالقدر في معارضة الشرع كما قال المشركون:((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) [الأنعام: 148] فهم يعارضون شرعه بقدره، ويحتجون على الشرع بالقدر.

والإبليسية الأمر فيهم أظهر وخصومتهم لله تعالى وطعنهم في حكمته أشهر، كما قال الله عن سلفهم إبليس لما أمره الله بالسجود لآدم فأبى وقال:((أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)) [الأعراف: 12].

وقوله: (وأحضر للنظر) في القدر (قلبا سقيما) فنظر في القدر بقلب سقيم عليل مريض، لم ينظر بقلب حي سليم، والقلوب كما تقدم (1) ثلاثة على سبيل الإجمال:

القلب السليم: وهو الذي سلم من أمراض الشبهات والشهوات، وقلب ميت، وقلب مريض.

فالذي ينظر في القدر وهو عليل القلب لا يستقيم فهمه، وتضطرب الحقائق في نظره.

(1) ص 176.

ص: 186

وقوله: (لقد التمس) هذا الذي نظر في القدر بقلب سقيم يطلب ما لا سبيل إلى معرفته؛ لأنه طلب ما استأثر الله بعلمه كما تقدم أن: (القدر سر الله تعالى في خلقه

والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان

فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه) (1) وهذا الكلام يؤكد ما سبق.

فالذي نظر في القدر على غير هدىً، وعلى غير بصيرة لم يعتصم بالوحي، فالمعتصم في كل المضائق هو دين الله أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من اتبع الرسل اهتدى، ومن أعرض عما جاءوا به ضل وتخبط في الظلمات.

وقوله: (بِوَهْمِه في فحص القدر سرا كتيما، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما) سر كتيم أي: مكتوم، سرٌ استأثر الله بعلمه، ما دام أنه نظر فيه بقلب سقيم، ونظر فيه بوهمه وتكلف فسيعود بأقوالٍ في القدر هي إفك وكذب، فالجبرية، والقدرية النفاة، والإبليسية كلهم يشملهم هذا الكلام، عادوا بالكذب والإثم المبين، فالجبرية أعرضوا عن الشرع أو كذبوا به، والقدرية كذبوا بالقدر، والإبليسية طعنوا في حكمة الرب وضربوا أحكام الله بعضها ببعض.

وهنا انتهى ما يتعلق بالقدر مما ذكره المؤلف وقد أطنب فيه رحمه الله، وقد أحسن في هذه الكلمات الطيبة في التأكيد على وجوب الإيمان بالقدر، وأكد على أصل التسليم وهو أصل عظيم، وحذر من الخوض فيما لا سبيل إلى معرفته من أسرار القدر، وأشار إلى أحوال القلوب، وغير ذلك، فجزاه الله خيرا ورحمه، وسائر أهل العلم والإيمان.

(1) ص 169، 171.

ص: 187