الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وجوب الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه]
وقوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم)
ونؤمن بعذاب القبر وبفتنة القبر ـ أي ـ: سؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من رواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الميت إذا وضع في قبره أتاه ملكان فيقعدانه ويقولانه له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)(1)، والأدلة على فتنة القبر وعذاب القبر متواترة. (2)
وقد أشير إلى فتنة القبر في القرآن قال تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)) [إبراهيم: 27]، (3) وكان النبي صلى الله عليه وسلم (إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل). (4)
(1) حديث البراء تقدم في ص، وجاء نحوه من حديث أنس رضي الله عنه في البخاري (1338)، ومسلم (2870).
(2)
انظر: إثبات عذاب القبر للبيهقي، والروح ص 97، وأهوال القبور لابن رجب ص 43، وقطف الأزهار ص 294.
(3)
روى البخاري (4699)، ومسلم (2871) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها نزلت في عذاب القبر.
(4)
رواه أبو داود (3221)، والبزار (445)، ـ وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من حديث عثمان، ولا نعلم لهذا إسنادًا عن عثمان إلا هذا الأسناد. ـ والحاكم 1/ 370 ـ وصححه ـ من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال النووي في الخلاصة 2/ 1028: إسناده حسن.
ويظهر لي أنه ليس لنا أن نقول: (فإنه الآن يسأل) وإنما نقول: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فقط، أما أن نحكم على الميت بأنه الآن يسأل، فهذا لا علم لنا به على الخصوص.
ومن أدلة عذاب القبر في القرآن قوله تعالى في آل فرعون: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) [غافر: 46]، ومن ذلك قوله تعالى:((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) [الأنعام: 93]، ومن ذلك قوله تعالى:((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [السجدة: 21]، وكذلك قوله تعالى:((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)) [التوبة: 101] وهو عذاب النار.
ومن أدلة عذاب القبر ونعيمة ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)(1) وفي حديث البراء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (إن المؤمن يُفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، وأن الكافر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه)(2) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه أوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال: فيوتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما
(1) البخاري (1379)، ومسلم (2866) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
تقدم في ص 286.
المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، فيقال: نم صالحا قد علمنا إنْ كنت لموقنا به، وأما المنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا؛ فقلته) (1).
ومن أدلة عذاب القبر ما ورد من الاستعاذة بالله منه، كما في الذكر بعد التشهد ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)(2)
وأحاديث كثيرة فيها الاستعاذة بالله من عذاب في النار وعذاب في القبر. (3)
وأكثر الأحاديث فيها: (أنه يأتيه ملكان)(4)، وجاء عند الترمذي تسميتهما:(المنكر والنكير)(5)، وسئل الإمام أحمد عن ذلك فأثبت تسمية هذين الملكين. (6).
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله، والإيمان بفتنة القبر وعذابه
(1) رواه البخاري (86)، ومسلم (905) من حديث أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (1377)، ومسلم (588) ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
كحديث عائشة رضي الله عنها في البخاري (1372)، ومسلم (586)، وحديث أنس رضي الله عنه في البخاري (2823)، ومسلم (2706)، وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في البخاري (6730)، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسلم (2723)، وحديث أم حبيبة رضي الله عنها في مسلم (2663)، وغيرها.
(4)
كحديث البراء رضي الله عنه وقد تقدم في ص 286، وحديث أنس رضي الله عنه وقد تقدم في ص 294.
(5)
تقدم في ص 203.
(6)
في طبقات الحنابلة 1/ 135: قال أحمد بن القاسم: يا أبا عبد الله تقر بمنكر ونكير، وما يروى من عذاب القبر؟ فقال: نعم، سبحان الله! نقر بذلك ونقوله، قلت: هذه اللفظة منكر ونكير تقول هذا، أو تقول ملكين؟ قال: نقول: منكرٌ ونكيرٌ، وهما ملكانِ، وعذابُ القبر.
ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر؛ فإن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه ما يكون بعد الموت.
والإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان بالغيب؛ لأن الله ستر عن الخلق أحوال أهل القبور، وربما كشف لمن شاء بعض ذلك، وقد أطلع الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على حال صاحبي القبرين فقال لما مَرَّ بهما:{إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير} (1). فأطلعه تعالى على حالهما، وسبب عذابهما، ولما سمع صلى الله عليه وسلم ذات يوم صوتا قال:(يهود تعذب في قبورها). (2)
قد يُكشف لبعض العباد شيء من أحوال أهل القبور، وفي هذا أخبار كثيرة، يذكرها المعنيون بهذا من أهل العلم (3)، وفيها تصديق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)(4) لو كشف للناس أحوال أهل القبور لفروا وهاموا على وجوههم، ولما دفنوا موتاهم.
وأنكر عذاب القبر ونعيمه وسؤاله وفتنته الملاحدة الزنادقة (5) ويلزم على قول من يقول: إن الروح عرض وليست شيئا قائما بنفسه؛ أنه ليس هناك عذاب ولا نعيم؛ لأنها معدومة، ولهذا قال ابن القيم في النونية (6) ـ لما ذكر أمر الأرواح وبقاءها ـ:
وَكَذلِكَ الأروَاحُ لَا تَبلَى كَمَا
…
تَبلَى الجُسُومُ وَلَا بِلَى اللُّحمَانِ
(1) رواه البخاري (216)، ومسلم (292) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (1375)، ومسلم (2869) عن أبي أيوب رضي الله عنه.
(3)
انظر: مجموع الفتاوى 4/ 296، و 24/ 376، وشرح حديث النزول ص 399، والروح ص 119، وأهوال القبور ص 61.
(4)
رواه مسلم (2868) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
الروح ص 105، ورَدَّ عليهم في ص 111.
(6)
ص 25.
وَلأجلِ ذَلِكَ لم يُقِرَّ الجَهمُ بالـ
…
أروَاحِ خَارِجَةً عَنِ الأبدَانِ
لَكِنَّهَا مِن بَعضِ أعرَاضٍ بِهَا
…
قَامَت وَذَا في غَايَةِ البُطلَانِ
فالشَّأنُ للأرواحِ بَعدَ فراقِهَا
…
أبدَانَنا وَاللهِ أعظَمُ شَانِ
إمَّا عذَابٌ أو نَعِيمٌ دَائِمٌ
…
قَد نُعِّمت بِالرَّوحِ والرَّيحَانِ
وتصيرُ طيراً سَارِحاً مَع شكلِهَا
…
تجني الثِّمارَ بِجَنَّةِ الحَيَوانِ
وَتَظَلُّ وَاردَةً لأنهَارٍ بِها
…
حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الجُثْمَانِ
لَكِنَّ أرواحَ الذينَ استُشهِدُوا
…
فِي جَوفِ طَيرٍ أخضَرٍ رَيَّانِ
فلهُم بذَاكَ مزيَّةٌ في عَيشِهِم
…
ونَعِيمِهِم لِلرُّوحِ والأبدَانِ
بَذَلُوا الجُسُومَ لربِّهِم فأعَاضَهُم
…
أجسَامَ تلكَ الطَّيرِ بالإحسَانِ
وَلَهَا قَنَادِيلٌ إليهَا تَنتَهِي
…
مَأوَىً لَهَا كَمَسَاكِنِ الإِنسَانِ
فالرُّوحُ بَعدَ الموتِ أكمَلُ حَالَةٍ
…
منهَا بِهَذِي الدَّارِ في جُثمَانِ
وَعذَابُ أشقَاهَا أشدُّ مِنَ الذِي
…
قد عَاينَت أبصَارُنا بِعِيَانِ
والقَائِلُونَ بِأنَّهَا عَرَضٌ أبَوا
…
ذَا كُلَّهُ تَبًّا لِذِي نُكرانِ
وقوله: (لمن كان له أهلا) عذاب القبر ليس لكل واحد، وجاء التصريح بعذاب القبر ونعيمه للمؤمن والكافر، أما العاصي؛ فإن أكثر النصوص لم تتعرض له، كما هو ظاهر في أمر فتنة القبر، إنما ذكر المؤمن الذي ينعم بعد الفتنة، والكافر والمنافق الذي يعذب بعدها، لكن العاصي يُخاف عليه العذاب، فالذي سُكت عنه هذا على خطر، فالمعاصي سبب للعذاب في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، والعاصي تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، وأما المؤمن التقي فهو ناجٍ من العذاب، وهو من أهل النعيم والثواب.
ومسائل القبر هذه، هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله رسالته المعروفة بـ «ثلاثة الأصول» .
وقد بلغ الأمر ببعض من يعظمون الوطن إلى درجة العبادة، أن يقول:
بنو وطني سأذكرهم
…
متى ما عشتُ في الدنيا
وفي قبري أقول له
…
إذا ما جاء يسألني
بنو وطني همُ ديني
…
وديني همْ بنو وطني! (1)
هل سيجيب بهذا الكفر؟!
لن يجيب، بل سيقول: هاه هاه! لا أدري.
نعوذ بالله من فتنة القبر وعذاب القبر.
وقوله: (عن ربه ودينه ونبيه صلى الله عليه وسلم على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم).
هذا هو المعتمد، فإنما إثبتنا هذه الأمور الغيبية لورود الأخبار الصحيحة بها، فنؤمن بذلك تصديقا لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، واتباعا لسلف هذه الأمة.
وقوله: (والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)(2). هذا تكميل للموضوع، وفيه إشارة إلى النعيم؛ لأنه في العبارة السابقة لم يقل: بعذاب القبر ونعيمه، ففي هذه الجملة تنبيه على النعيم، (والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)، هذه أحوال الناس في القبر، منهم: من هو في نعيم وفي سرور، في روضة من رياض الجنة يأتيه من روحها وطيبها، كما يشاء الله سبحانه وتعالى على ما يليق بحال البرزخ؛ لأن الدور ثلاثة:
دار الدنيا، وهي: دار الابتلاء والعمل.
ودار البرزخ، وهي: ما بين الموت إلى البعث، وهي: محل عذاب القبر ونعيمه.
(1) هذه الأبيات للشاعر السوداني عبد الرحمن شوقي، ونشرت في جريدة القصيم، العدد الرابع، في جمادى الأولى عام 1379 هـ، كذا أفادني الشيخ، وهذه الجريدة توقفت منذ زمن بعيد، ولم أجد هذا العدد.
(2)
هذا لفظ حديث رواه الترمذي (2460) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه العراقي في المغني 1/ 468، والسخاوي في المقاصد الحسنة (758).
والدار الآخرة التي بعد البعث، وهي: دار القرار، وليس فيها نقلة ولا رحيل ولا تحول.
أما القبر، فليس هو كما يجري على ألسن الناس إذا دفنوا الميت قالوا: انتقل إلى مثواه الأخير؛ فإن القبر ليس هو المثوى الأخير، بل بعده رحيل وانتقال من دار البرزخ إلى الدار الآخرة: إلى الجنة أو النار، واستنبط بعض أهل العلم هذا المعنى من قوله تعالى:((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حتى زُرْتُمُ)) [التكاثر: 1 - 2] والزائر لا بد له من انصراف؛ لأنه غير مقيم (1)، فأهل القبور ليسوا بمقيمين أبدا في قبورهم؛ بل سينصرفون عندما يدعوهم الداعي:((وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)) [ق: 41 - 42]، ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)) [الزمر: 68].
(1) الجامع لأحكام القرآن 22/ 450، وتفسير ابن كثير 8/ 474.