المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[انتفاع الأموات بعمل الأحياء] - شرح العقيدة الطحاوية - البراك

[عبد الرحمن بن ناصر البراك]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌[ترجمة الإمام الطحاوي]

- ‌[ترجمة الشيخ عبد الرحمن البراك]

- ‌[المقدمة]

- ‌[قول أهل السنة في التوحيد]

- ‌[أقسام التوحيد]

- ‌[نفي المثل عن الله تعالى]

- ‌[نفي العجر عن الله تعالى]

- ‌[كلمة التوحيد وما تتضمنه]

- ‌[دوام الرب تعالى أزلا وأبدا]

- ‌[إثبات الإرادة لله تعالى]

- ‌[تنزيه الله تعالى عن الإحاطة به]

- ‌[تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه]

- ‌[إثبات الحياة والقيومية لله تعالى]

- ‌[تنزيه الله تعالى عن الحاجة والخوف والمشقة]

- ‌[إثبات الكمال المطلق لله تعالى أزلا وأبدا]

- ‌[صفات الله نوعان: ذاتية وفعلية]

- ‌[وصف الله تعالى بالخالق والبارئ قبل خلقه للخلق]

- ‌[إثبات كمال قدرته وغناه تعالى، وفقر خلقه إليه]

- ‌[إثبات صفاته تعالى، ونفي مماثلته للمخلوقات]

- ‌[إثبات علم الله تعالى، وتقديره الأقدار، وضربه الآجال]

- ‌[وجوب الإيمان بالشرع والقدر]

- ‌[إثبات عموم مشيئة الله تعالى]

- ‌[إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله]

- ‌[تنزيه الله تعالى أن يكون ضد أو ند]

- ‌[نفاذ قضائه وحكمه تعالى]

- ‌[وجوب اعتقاد أن محمدا عبد الله ورسوله، وذكر ما تثبت به النبوة]

- ‌[من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين]

- ‌[إثبات الخلة له صلى الله عليه وسلم كإبراهيم عليه السلام]

- ‌[حكم دعوى النبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌[عموم بعثته صلى الله عليه وسلم للجن والأنس]

- ‌[فضل رسالته، وكمال شريعته صلى الله عليه وسلم

- ‌[عقيدة أهل السنة في القرآن، والرد على المخالفين]

- ‌[إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة]

- ‌[وجوب التصديق بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم وحمله على مراده]

- ‌[وجوب التسليم لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمه على الآراء]

- ‌[سوء عاقبة من لم يسلم لخبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم

- ‌[مذهب أهل السنة في إثبات الصفات وسط بين المعطلة والمشبهة]

- ‌[الواجب في الألفاظ المحدثة في صفاته تعالى]

- ‌[مذهب أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج]

- ‌[إثبات حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌[إثبات شفاعته صلى الله عليه وسلم لأمته، وذكر الشفاعة الخاصة به]

- ‌[إثبات الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم]

- ‌[وجوب الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع]

- ‌[عجز الخلق عن معرفة حِكَمِ وأسرار القدر]

- ‌[البحث في أسرار القدر سبب للضلال]

- ‌[وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وترك الخوض فيما طوي عنا علمه]

- ‌[الإيمان باللوح والقلم]

- ‌[إثبات العرش والكرسي، وغناه تعالى عن كل شيء]

- ‌[إثبات صفة الإحاطة والفوقية لله تعالى]

- ‌[عجز الخلق عن الإحاطة بالله تعالى]

- ‌[إثبات صفة الخلة والتكليم لله تعالى]

- ‌[وجوب الإيمان بالملائكة والأنبياء والكتب]

- ‌[تسمية أهل القبلة بالمسلمين]

- ‌[أهل السنة لا يتكلمون في الله ودينه وكتابه بغير علم]

- ‌[أهل السنة لا يكفرون بكل ذنب]

- ‌[تأثير الذنوب على الإيمان]

- ‌[الرجاء للمحسنين، والخوف على المسيئين]

- ‌[مذهب أهل السنة وسط بين الوعيدية والمرجئة]

- ‌[ما يخرج به المسلم من الإيمان]

- ‌[مذاهب الفِرَقِ في مسمى الإيمان]

- ‌[وجوب الإيمان والعمل بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌[زيادة الإيمان ونقصانه]

- ‌[ولاية الله وبم تكون

- ‌[الإيمان بالأصول الخمسة، وتفصيل الإيمان باليوم الآخر]

- ‌[الإيمان بالقدر خيره وشره]

- ‌[حكم أهل الكبائر في الآخرة]

- ‌[مذهب أهل السنة في الصلاة خلف المسلمين، وعلى موتاهم]

- ‌[لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا بحجة]

- ‌[عصمة دماء المسلمين]

- ‌[وجوب السمع والطاعة بالمعروف لولاة الأمر، وتحريم الخروج عليهم]

- ‌[وجوب إتباع الكتاب والسنة وتجنب الشذوذ والفرقة]

- ‌[حب أهل العدل وبغض أهل الجور]

- ‌[تفويض العلم فيما خفي على العبد إلى الله]

- ‌[من مذهب أهل السنة المسح على الخفين]

- ‌[الحج والجهاد مع الأئمة برهم وفاجرهم]

- ‌[الإيمان بالكرام الكاتبين]

- ‌[الإيمان بملك الموت وأعوانه]

- ‌[الكلام على الروح وبعض متعلقاتها]

- ‌[وجوب الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه]

- ‌[الإيمان بالبعث والجزاء]

- ‌[الإيمان بالعرض والحساب، والصراط والميزان]

- ‌[خلق الجنة والنار وبقاؤهما]

- ‌[الرعد: 35]، وقال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ)) [ص: 54]، وقال تعالى: ((عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)) [هود: 108]، وقال تعالى: ((يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التوبة: 21 - 22]

- ‌[سبق القدر فيمن يصير إلى الجنة، ومن يصير إلى النار]

- ‌[كل شيء بقدر]

- ‌[أنواع الاستطاعة]

- ‌[خلق الله لأفعل العباد]

- ‌[كل ما يجري في الكون بمشيئة الله]

- ‌[انتفاع الأموات بعمل الأحياء]

- ‌[إجابة الله لدعاء عباده]

- ‌[إثبات الغضب والرضا لله تعالى]

- ‌[منهج أهل السنة في الصحابة]

- ‌[الأحق بالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌[العشرة المبشرون بالجنة]

- ‌[منهج أهل السنة في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته]

- ‌[احترام علماء الأمة من السلف ومن اقتفى أثرهم]

- ‌[مرتبة الولاية دون النبوة]

- ‌[منهج أهل السنة في كرامات الأولياء]

- ‌[أشراط الساعة الكبرى]

- ‌[وجوب الحذر من تصديق الكهان والعرافين ونحوهم من المخالفين]

- ‌[من منهج أهل السنة لزوم الجماعة والحذر من الفرقة]

- ‌[وسطية دين الإسلام]

- ‌[براءة أهل السنة من المذاهب المبتدعة]

الفصل: ‌[انتفاع الأموات بعمل الأحياء]

[انتفاع الأموات بعمل الأحياء]

وقوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات).

أي: أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء لهم بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات وتكفير السيئات، وكذلك ينتفعون بصدقات الأحياء عنهم، فإذا تصدق الولد عن والديه أو عن أحد من أقاربه؛ بل لو تصدق أجنبي عنه انتفع بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لمن يموت من المسلمين سببا في وصول الثواب والأجر لهم؛ لأنهم ينتفعون به في زيادة الأجور ورفع الدرجات وفي النجاة من العذاب، وقد شرع الله الدعاء للأموات وجوبا واستحبابا، فشرع الدعاء للميت وجوبا بالصلاة عليه بعد موته، فالصلاة على الميت فرض كفاية، وكذلك شُرع الدعاء للأموات عند زيارة القبور وعند دفن الميت، هذه كلها مواضع شرع الله فيها الدعاء لأموات المسلمين، والدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات مشروع، للأحياء والأموات، قال تعالى:((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [محمد: 19]، وفي دعاء الأنبياء:((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) [إبراهيم: 41] هذا دعاءُ إبراهيم، ونوح قال:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنَاً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [نوح: 28].

وكذلك الصدقة، فقد ثبت في الصحيح أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إنْ تصدقت به عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أنَّ حائطي الْمِخْرَافَ صدقةٌ عليها) (1).

(1) رواه البخاري (2762).

ص: 339

واتفق أهل السنة على أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء وبالصدقة عنهم، (1) سواء كان المال المنفَق عنه صدقة على فقير، أو قضاء دين عن معسر، أو الإنفاق على أعمال الخير؛ كتعليم القرآن.

واقتصر الطحاوي على (دعاء الأحياء وصدقاتهم)؛ لأنه مذهب أبي حنيفة، أو أنه قصد ما اتفق عليه أهل السنة اتفاقا تاما.

وكذلك الحج ـ أيضا ـ مما اتفق أهل السنة على وصول ثوابه إلى الميت وانتفاعه به؛ بل والحج عن الحي الْمَعْضُوب (2) فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«جاءت امرأة من خَثْعَمَ عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم) (3)، وفي الصحيح عنه ـ أيضا ـ رضي الله عنه: (أنَّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنتِ قاضيةً؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» (4).

وعنه ـ أيضا ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: مَن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) (5).

(1) التمهيد 20/ 27، ومجموع الفتاوى 7/ 498 و 24/ 306 و 366، والروح ص 190.

(2)

العاجز عن الحج لكِبِرٍ أو زَمانةٍ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه. الإقناع 1/ 543.

(3)

البخاري (1854)، ومسلم (1335).

(4)

البخاري (1852).

(5)

رواه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وصححه ابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988) والبيهقي في الكبرى 4/ 336، وانظر: تنقيح التحقيق 3/ 392، ونصب الراية 3/ 155، والتلخيص الحبير4/ 1511.

ص: 340

وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: إنما يصل للميت ثواب النفقة، أما ثواب الحج فهو للحاج (1).

وهذا خلاف ظاهر الأدلة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم للخثعمية حين قالت: فهل يقضي عنه أن أحج عنه، قال:«نعم» ، وقوله صلى الله عليه وسلم للجهنية:«حجي عنها» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«حج عن شبرمة» ظاهره الإطلاق، وصحة الحج عنه، وأن الثواب للمحجوج عنه.

ثم بعد ذلك اختلف العلماء في سائر العبادات، كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن والذكر، هل يصل ثوابها إلى الميت، إذا عملها الحي عنه؟

أكثر أهل العلم على أن هذه العبادات يصل ثوابها فينتفع بها الميت؛ بل توسع بعض أهل العلم، وقالوا: إن أي قربة يفعلها الإنسان عن الحي أو الميت؛ فإن ذلك يصل إليه، كما في نص زاد المستقنع:«وأيُّ قربةٍ فعلها وجعل ثوابها لميتٍ مسلم أو حي نفعه ذلك» (2). وهذا توسع كبير.

والذي يعنينا في هذا المقام انتفاع الأموات بسعي الأحياء، فأكثر العلماء على أن الأموات ينتفعون بهذه العبادات، فإذا صام أو صلى عن الميت ولو تطوعا، أو قرأ قرآنا، أو سبَّح وهلَّل وكبَّر، يريد أن يكون ذلك عن الميت؛ فإنه ينفعه ذلك، قياسا لهذه العبادات على ما وردت به النصوص، وهؤلاء لا فرق عندهم بين فرض ونفل أو نذر، فينتفع الميت بها جميعا.

وفي هذا تفصيل؛ فأما الصيام فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)(3).

وهنا اختلف أهل العلم على مذاهب، فمنهم من قال: لا يُصام

(1) بدائع الصنائع 2/ 455.

(2)

ص 72.

(3)

البخاري (1952)، ومسلم (1147) عائشة رضي الله عنها.

ص: 341

عن الميت مطلقا، وإنما يُطعم عنه عملا بما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدا من حنطة)(1).

وهذه النصوص ربما أجابوا عنها بالنسخ، ولا شك أن هذا الأثر لا يقاوم النصوص الصحيحة الصريحة، والمشهور عن الإمام أحمد: أنه يُصام عن الميت النذر خاصة، أما الفرض؛ كقضاءِ رمضان، والكفاراتِ؛ ككفارة القتل فلا تصام عن الميت، وإنما يُطعم عنه (2) على ما جاء في أثر ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن الحديث لفظه عام:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه» .

وإذا كان سبب الحديث هو السؤال عن صوم النذر؛ فـ «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .

وأما الصلاة وتلاوة القرآن والذكر؛ فلم يرد فيها شيء، إنما عمدة من قال بوصول ثوابها وجواز فعلها عن الميت هو قياسها على ما ورد في النصوص من الحج والصيام.

وأهل السنة في جملة هذه القضية طرفان ووسط؛ فمنهم من يرى جواز إهداء جميع القُرَبِ.

والذي دلت عليه النصوص ليس إهداء الثواب؛ بل هو فعل العبادات عن الغير، وهذا لا بد فيه من نية فعل العبادة عن الغير عند ابتداء العمل؛ كالحج عن المغضوب والميت، كما نبه على ذلك ابن القيم (3)، فليس الوارد أن الإنسان بعدما يحج يقول: اللهم اجعل ثواب

(1) رواه النسائي في الكبرى (2918) وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 1464، وانظر: نصب الراية 2/ 463.

(2)

سنن أبي داود (2400)، والمغني 4/ 398، وإعلام الموقعين 4/ 390 وتهذيب السنن 3/ 279.

(3)

الروح ص 212.

ص: 342

حجتي هذه لفلان، أو بعدما يتصدق يقول: اللهم اجعل ثواب هذه الصدقة لفلان، أو يصوم يوما ثم يقول: اللهم اجعل ثواب صومي هذا لفلان؛ بل من أصل العمل ينوي فعله عمَّن يريد الإحسان إليه.

ثم إن العامل إذا عمل لا يعلم هل كُتِب له ثواب عند الله أو لا، فكيف يقول: اللهم اجعل ثواب هذا العمل لفلان؟!

لكن الفقهاء لعلهم نظروا إلى أن المقصود من فعل العبادة عن الميت هو نفع الميت بما يترتب على ذلك من ثواب.

ومنهم من قصر ذلك على الدعاء والصدقة والحج على خلاف.

وأظهر هذه المذاهب هو الوقوف عند ما ورد، فنقول: ينتفع الميت بدعاء الحي، وهذا محل إجماع، وكذلك الصدقة والحج، ولاسيما الحج الواجب، هذا لا كلام في وصوله، وكذلك الصوم الواجب «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وكذا إذا نذر الإنسان عبادةً ثم أدركه الموت ولم يوصِ بما نذر؛ فإن الأدلة تدل على فعلها عنه كالدين؛ فالنذر دين والتزام من المكلف، وما سوى ذلك؛ فإن إلحاقه بما وردت فيه النصوص محل نظر واجتهاد.

وفي مقابل مذهب أهل السنة والجماعة الذي قصد المؤلف التنبيه عليه، قول المبتدعة: إن الميت لا ينتفع بشيء من سعي الأحياء، حتى قيل عن بعضهم: لا ينتفع بشيء من سعي الأحياء ولا الدعاء.

ولا شك أن هذا باطل ومن شبهاتهم استدلالهم بقوله سبحانه وتعالى: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39]، وقوله سبحانه وتعالى:((وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54] ونظائرها في القرآن كثير: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16] أي: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون، ومن أدلتهم قول صلى الله عليه وسلم:(إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(1).

(1) رواه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 343

وأجيب عن استدلالات القائلين بعدم انتفاع الأموات بسعي الأحياء، أما الدعاء فمعلوم بالضرورة من دين الإسلام انتفاع الميت بالصلاة عليه، والمقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء له، هذا ركنها الأعظم، وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور (1)، وكذلك انتفاعهم بالصدقة كما تقدم (2)، فقولهم مردود بهذه النصوص.

وأما الآية: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39] فأجيب عنها بأجوبة، قال شارح الطحاوية ابن أبي العز: إن أصحها جوابان:

الأول: «أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير وتودد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه، في حياته وبعد مماته» (3).

وأظهر من هذا هو الجواب الثاني: وهو أن المنفي في الآية هو ملك الإنسان لسعي غيره، فالإنسان لا يملك إلا عمله، ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39]، ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) [البقرة: 286] فليس للإنسان إلا عمله، وليس له عمل غيره، ونفي استحقاق الإنسان لعمل غيره لا يستلزم نفي انتفاعه بعمل غيره إذا فعله عنه أو أهدى ثوابه له، كما يقال: ليس للإنسان إلا ماله، أما أموال الناس فليست له، ولا يلزم من نفي ملكه لمال غيره نفي الانتفاع به، فيمكن أن يهديه، أو أن يتصدق عليه، أو ينتفع به بوجه من الوجوه، فالانتفاع أعم من الملك، فلا يلزم من نفي الملك نفي

(1) رواه مسلم (975) من حديث بريدة رضي الله عنه، وتقدم في ص: استغفروا لأخيكم.

(2)

ص 339.

(3)

ص 669، ونقل ابن القيم في الروح ص 205 هذا الجواب عن ابن عقيل.

ص: 344

الانتفاع، وهذا جواب سديد قريب بيَّن (1)، كما دلت على ذلك هذه النصوص، الصدقة عن الميت، والصوم الواجب عن الميت، والحج عن الميت، والدعاء؛ بل وقضاء الدين، كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عندما ضمن الدين عن الميت؛ فبرئت ذمته، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم (2).

وأما قوله تعالى: ((وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54] وأشباهها من القرآن فيقال فيها ما قيل في الآية التي قبلها: إن الإنسان لا يُجزى إلا بعمله، هذا الذي يستحقه بوعد الله، وهو لا ينفي أن ينتفع بعمل غيره إذا أهداه إليه، وتصدق به عليه.

وأولى من هذا الجواب بالنسبة لهذه الآية: أن يقال: هذه الآيات إذا تأملنا القرآن نجد أن كل ما ورد فيه بهذا المعنى يختص بالجزاء على السيئات: ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54]، ((فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16] وهذا المعنى في القرآن كثير، فيكون موافقا لقوله سبحانه:((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) [الأنعام: 164]، فالإنسان لا يعاقب إلا بذنبه، لا يعاقب بذنب غيره.

ومسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء ذكرها ابن القيم في كتابه «الروح» (3) وبسط القول فيها، وذكر أقوال الناس، وما ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية هو ملخص من ذلك الكتاب، وذهب ابن القيم، فيه إلى القول بانتفاع الأموات بسعي الأحياء مطلقا، وعلى هذا فمن أخذ بهذا عن اجتهاد، أو تقليد لمن يذهب إلى ذلك؛ فلا شيء عليه.

(1) ذكر ابن القيم معنى هذا الجواب في الروح ص 206 وقال: وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها، وانظر: مجموع الفتاوى 24/ 312.

(2)

رواه البخاري (2289) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.

(3)

ص 190 - 226.

ص: 345