الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[انتفاع الأموات بعمل الأحياء]
وقوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات).
أي: أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء لهم بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات وتكفير السيئات، وكذلك ينتفعون بصدقات الأحياء عنهم، فإذا تصدق الولد عن والديه أو عن أحد من أقاربه؛ بل لو تصدق أجنبي عنه انتفع بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لمن يموت من المسلمين سببا في وصول الثواب والأجر لهم؛ لأنهم ينتفعون به في زيادة الأجور ورفع الدرجات وفي النجاة من العذاب، وقد شرع الله الدعاء للأموات وجوبا واستحبابا، فشرع الدعاء للميت وجوبا بالصلاة عليه بعد موته، فالصلاة على الميت فرض كفاية، وكذلك شُرع الدعاء للأموات عند زيارة القبور وعند دفن الميت، هذه كلها مواضع شرع الله فيها الدعاء لأموات المسلمين، والدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات مشروع، للأحياء والأموات، قال تعالى:((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [محمد: 19]، وفي دعاء الأنبياء:((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) [إبراهيم: 41] هذا دعاءُ إبراهيم، ونوح قال:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنَاً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [نوح: 28].
وكذلك الصدقة، فقد ثبت في الصحيح أن سعد بن عبادة رضي الله عنه توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إنْ تصدقت به عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أنَّ حائطي الْمِخْرَافَ صدقةٌ عليها) (1).
(1) رواه البخاري (2762).
واتفق أهل السنة على أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء وبالصدقة عنهم، (1) سواء كان المال المنفَق عنه صدقة على فقير، أو قضاء دين عن معسر، أو الإنفاق على أعمال الخير؛ كتعليم القرآن.
واقتصر الطحاوي على (دعاء الأحياء وصدقاتهم)؛ لأنه مذهب أبي حنيفة، أو أنه قصد ما اتفق عليه أهل السنة اتفاقا تاما.
وكذلك الحج ـ أيضا ـ مما اتفق أهل السنة على وصول ثوابه إلى الميت وانتفاعه به؛ بل والحج عن الحي الْمَعْضُوب (2) فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:«جاءت امرأة من خَثْعَمَ عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم) (3)، وفي الصحيح عنه ـ أيضا ـ رضي الله عنه: (أنَّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنتِ قاضيةً؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» (4).
وعنه ـ أيضا ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: مَن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) (5).
(1) التمهيد 20/ 27، ومجموع الفتاوى 7/ 498 و 24/ 306 و 366، والروح ص 190.
(2)
العاجز عن الحج لكِبِرٍ أو زَمانةٍ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه. الإقناع 1/ 543.
(3)
البخاري (1854)، ومسلم (1335).
(4)
البخاري (1852).
(5)
رواه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وصححه ابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988) والبيهقي في الكبرى 4/ 336، وانظر: تنقيح التحقيق 3/ 392، ونصب الراية 3/ 155، والتلخيص الحبير4/ 1511.
وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: إنما يصل للميت ثواب النفقة، أما ثواب الحج فهو للحاج (1).
وهذا خلاف ظاهر الأدلة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم للخثعمية حين قالت: فهل يقضي عنه أن أحج عنه، قال:«نعم» ، وقوله صلى الله عليه وسلم للجهنية:«حجي عنها» ، وقوله صلى الله عليه وسلم:«حج عن شبرمة» ظاهره الإطلاق، وصحة الحج عنه، وأن الثواب للمحجوج عنه.
ثم بعد ذلك اختلف العلماء في سائر العبادات، كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن والذكر، هل يصل ثوابها إلى الميت، إذا عملها الحي عنه؟
أكثر أهل العلم على أن هذه العبادات يصل ثوابها فينتفع بها الميت؛ بل توسع بعض أهل العلم، وقالوا: إن أي قربة يفعلها الإنسان عن الحي أو الميت؛ فإن ذلك يصل إليه، كما في نص زاد المستقنع:«وأيُّ قربةٍ فعلها وجعل ثوابها لميتٍ مسلم أو حي نفعه ذلك» (2). وهذا توسع كبير.
والذي يعنينا في هذا المقام انتفاع الأموات بسعي الأحياء، فأكثر العلماء على أن الأموات ينتفعون بهذه العبادات، فإذا صام أو صلى عن الميت ولو تطوعا، أو قرأ قرآنا، أو سبَّح وهلَّل وكبَّر، يريد أن يكون ذلك عن الميت؛ فإنه ينفعه ذلك، قياسا لهذه العبادات على ما وردت به النصوص، وهؤلاء لا فرق عندهم بين فرض ونفل أو نذر، فينتفع الميت بها جميعا.
وفي هذا تفصيل؛ فأما الصيام فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)(3).
وهنا اختلف أهل العلم على مذاهب، فمنهم من قال: لا يُصام
(1) بدائع الصنائع 2/ 455.
(2)
ص 72.
(3)
البخاري (1952)، ومسلم (1147) عائشة رضي الله عنها.
عن الميت مطلقا، وإنما يُطعم عنه عملا بما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:(لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدا من حنطة)(1).
وهذه النصوص ربما أجابوا عنها بالنسخ، ولا شك أن هذا الأثر لا يقاوم النصوص الصحيحة الصريحة، والمشهور عن الإمام أحمد: أنه يُصام عن الميت النذر خاصة، أما الفرض؛ كقضاءِ رمضان، والكفاراتِ؛ ككفارة القتل فلا تصام عن الميت، وإنما يُطعم عنه (2) على ما جاء في أثر ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن الحديث لفظه عام:«من مات وعليه صيام صام عنه وليه» .
وإذا كان سبب الحديث هو السؤال عن صوم النذر؛ فـ «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» .
وأما الصلاة وتلاوة القرآن والذكر؛ فلم يرد فيها شيء، إنما عمدة من قال بوصول ثوابها وجواز فعلها عن الميت هو قياسها على ما ورد في النصوص من الحج والصيام.
وأهل السنة في جملة هذه القضية طرفان ووسط؛ فمنهم من يرى جواز إهداء جميع القُرَبِ.
والذي دلت عليه النصوص ليس إهداء الثواب؛ بل هو فعل العبادات عن الغير، وهذا لا بد فيه من نية فعل العبادة عن الغير عند ابتداء العمل؛ كالحج عن المغضوب والميت، كما نبه على ذلك ابن القيم (3)، فليس الوارد أن الإنسان بعدما يحج يقول: اللهم اجعل ثواب
(1) رواه النسائي في الكبرى (2918) وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 1464، وانظر: نصب الراية 2/ 463.
(2)
سنن أبي داود (2400)، والمغني 4/ 398، وإعلام الموقعين 4/ 390 وتهذيب السنن 3/ 279.
(3)
الروح ص 212.
حجتي هذه لفلان، أو بعدما يتصدق يقول: اللهم اجعل ثواب هذه الصدقة لفلان، أو يصوم يوما ثم يقول: اللهم اجعل ثواب صومي هذا لفلان؛ بل من أصل العمل ينوي فعله عمَّن يريد الإحسان إليه.
ثم إن العامل إذا عمل لا يعلم هل كُتِب له ثواب عند الله أو لا، فكيف يقول: اللهم اجعل ثواب هذا العمل لفلان؟!
لكن الفقهاء لعلهم نظروا إلى أن المقصود من فعل العبادة عن الميت هو نفع الميت بما يترتب على ذلك من ثواب.
ومنهم من قصر ذلك على الدعاء والصدقة والحج على خلاف.
وأظهر هذه المذاهب هو الوقوف عند ما ورد، فنقول: ينتفع الميت بدعاء الحي، وهذا محل إجماع، وكذلك الصدقة والحج، ولاسيما الحج الواجب، هذا لا كلام في وصوله، وكذلك الصوم الواجب «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» ، وكذا إذا نذر الإنسان عبادةً ثم أدركه الموت ولم يوصِ بما نذر؛ فإن الأدلة تدل على فعلها عنه كالدين؛ فالنذر دين والتزام من المكلف، وما سوى ذلك؛ فإن إلحاقه بما وردت فيه النصوص محل نظر واجتهاد.
وفي مقابل مذهب أهل السنة والجماعة الذي قصد المؤلف التنبيه عليه، قول المبتدعة: إن الميت لا ينتفع بشيء من سعي الأحياء، حتى قيل عن بعضهم: لا ينتفع بشيء من سعي الأحياء ولا الدعاء.
ولا شك أن هذا باطل ومن شبهاتهم استدلالهم بقوله سبحانه وتعالى: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39]، وقوله سبحانه وتعالى:((وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54] ونظائرها في القرآن كثير: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16] أي: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون، ومن أدلتهم قول صلى الله عليه وسلم:(إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)(1).
(1) رواه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وأجيب عن استدلالات القائلين بعدم انتفاع الأموات بسعي الأحياء، أما الدعاء فمعلوم بالضرورة من دين الإسلام انتفاع الميت بالصلاة عليه، والمقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء له، هذا ركنها الأعظم، وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور (1)، وكذلك انتفاعهم بالصدقة كما تقدم (2)، فقولهم مردود بهذه النصوص.
وأما الآية: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39] فأجيب عنها بأجوبة، قال شارح الطحاوية ابن أبي العز: إن أصحها جوابان:
وأظهر من هذا هو الجواب الثاني: وهو أن المنفي في الآية هو ملك الإنسان لسعي غيره، فالإنسان لا يملك إلا عمله، ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39]، ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) [البقرة: 286] فليس للإنسان إلا عمله، وليس له عمل غيره، ونفي استحقاق الإنسان لعمل غيره لا يستلزم نفي انتفاعه بعمل غيره إذا فعله عنه أو أهدى ثوابه له، كما يقال: ليس للإنسان إلا ماله، أما أموال الناس فليست له، ولا يلزم من نفي ملكه لمال غيره نفي الانتفاع به، فيمكن أن يهديه، أو أن يتصدق عليه، أو ينتفع به بوجه من الوجوه، فالانتفاع أعم من الملك، فلا يلزم من نفي الملك نفي
(1) رواه مسلم (975) من حديث بريدة رضي الله عنه، وتقدم في ص: استغفروا لأخيكم.
(2)
ص 339.
(3)
ص 669، ونقل ابن القيم في الروح ص 205 هذا الجواب عن ابن عقيل.
الانتفاع، وهذا جواب سديد قريب بيَّن (1)، كما دلت على ذلك هذه النصوص، الصدقة عن الميت، والصوم الواجب عن الميت، والحج عن الميت، والدعاء؛ بل وقضاء الدين، كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عندما ضمن الدين عن الميت؛ فبرئت ذمته، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم (2).
وأما قوله تعالى: ((وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54] وأشباهها من القرآن فيقال فيها ما قيل في الآية التي قبلها: إن الإنسان لا يُجزى إلا بعمله، هذا الذي يستحقه بوعد الله، وهو لا ينفي أن ينتفع بعمل غيره إذا أهداه إليه، وتصدق به عليه.
وأولى من هذا الجواب بالنسبة لهذه الآية: أن يقال: هذه الآيات إذا تأملنا القرآن نجد أن كل ما ورد فيه بهذا المعنى يختص بالجزاء على السيئات: ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54]، ((فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16] وهذا المعنى في القرآن كثير، فيكون موافقا لقوله سبحانه:((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) [الأنعام: 164]، فالإنسان لا يعاقب إلا بذنبه، لا يعاقب بذنب غيره.
ومسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء ذكرها ابن القيم في كتابه «الروح» (3) وبسط القول فيها، وذكر أقوال الناس، وما ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية هو ملخص من ذلك الكتاب، وذهب ابن القيم، فيه إلى القول بانتفاع الأموات بسعي الأحياء مطلقا، وعلى هذا فمن أخذ بهذا عن اجتهاد، أو تقليد لمن يذهب إلى ذلك؛ فلا شيء عليه.
(1) ذكر ابن القيم معنى هذا الجواب في الروح ص 206 وقال: وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها، وانظر: مجموع الفتاوى 24/ 312.
(2)
رواه البخاري (2289) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(3)
ص 190 - 226.