الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[احترام علماء الأمة من السلف ومن اقتفى أثرهم]
وقوله: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين ـ أهل الخير (1) والأثر، وأهل الفقه والنظر ـ لا يُذْكَرُون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل)
أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة الهدى يجب أن يعرف لهم قدرهم، ويجب أن يعاملوا بما تستوجبه منازلهم من العلم والدين، وذِكرُ الطحاوي حق العلماء في هذه الجملة مناسب جدا؛ فإنه ذكر ما يجب للصحابة رضي الله عنهم، وأهل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أردف ذلك بذكر ما يجب لعلماء هذه الأمة من السلف من الصحابة، ومن جاء بعدهم، ولهذا قال:(ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر). أهل الخير: العمل الصالح، وأهل الآثار: الذين يقتفون آثار النبي صلى الله عليه وسلم ويقتفون آثار من سلف قبلهم من أهل العلم والدين، وأهل الفقه والنظر فهم العلماء الفقهاء العباد الصلحاء.
والله تعالى قد نَوُّه بفضل العلماء في كتابه حيث قال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) [آل عمران: 18] أولوا العلم: أصحاب العلم الشرعي، وهم على مراتب، فيدخل فيهم الأنبياء، كما يدخل فيهم العلماء من أتباعهم، وقال سبحانه وتعالى:((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [المجادلة: 11].
فخص العلماء برفع الدرجات، وقال سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
(1) رأيت في مخطوطة للمتن: «والخبر» وهو محتمل، لكن الشيخ مال إلى ما أثبت.
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28] فخص وحصر خشيته بالعلماء ـ أي: العلماء بالله وشرعه ـ وكل دليل يدل على فضل العلم؛ هو دليل على فضل العلماء، وفي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وغيره وفيه:«وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (1).
فالصحابة فيهم علماء، وفي التابعين وتابعيهم علماء، وهم حملة هذا الدين فإنه (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)(2) فهم المبلغون عن الله دينه، والقائمون بأمره على مراتبهم في العلم والدين.
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل للعلم والعلماء، كما في الصحيحين من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادِب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة
(1) رواه أحمد 5/ 196، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) وابن حبان (88)، وقال الحافظ في الفتح 1/ 160:«أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححًا من حديث أبي الدرداء، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم بالاضطراب في سنده لكن له شواهد يتقوى بها» وانظر: العلل للدارقطني 6/ 216، وتهذيب السنن للمنذري 5/ 243، والتلخيص الحبير 5/ 2300، والمقاصد الحسنة (703).
(2)
روي هذا مرفوعا عند العقيلي في الضعفاء 1/ 9 و 10، و 4/ 256 وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/ 17، والطبراني في مسند الشاميين 1/ 344، وابن عدي في الكامل 2/ 273، و 3/ 457، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 209، والخطيب في شرف أصحاب الحديث ص 28 و 29 من مرسل إبراهيم العذري، ومن حديث عدد من الصحابة رضي الله عنهم. ونقل الخطيب تصحيحه عن الإمام أحمد، ونقل السخاوي في فتح المغيث 2/ 169عن عدد من الأئمة تضعيفه.
أخرى إنما هي قِيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به؛ فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) (1).
قال العلماء في شرح هذا الحديث: إن حملة العلم نوعان:
علماء نقل ورواية، وعلماء فقهاء، وليس المراد بالفقهاء أولئك المعنيون بأقوال من يتبعونه من الأئمة؛ فإن الغالب على هؤلاء التقليد؛ بل المراد الفقهاء الذين جمعوا بين معرفة النصوص والفقه والفهم والاستنباط. فقوله صلى الله عليه وسلم:(فكان منها طائفة طيبة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير) هذا مثل للعلماء الفقهاء.
وقوله: (وكان منها أجادب أمسكت الماء) هذا مثل حفاظ السنة.
ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما خطب بمنى: (فَلْيُبَلِّغْ الشاهدُ الغائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى من سامِع)(2) ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به).
أما من أعرض فمثله في قوله صلى الله عليه وسلم: (طائفة أخرى إنما هي قِيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ) فلم تنتفع بهذا الغيث، ولهذا قال:(ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
فيجب على سائر الأمة أن يعرفوا لهؤلاء العلماء فضلهم؛ لأنهم حملة هذا الدين، والقائمون به، فتجب محبتهم لعلمهم ودينهم وإيمانهم، والحب في الله واجب لجميع المسلمين، لكن يجب إنزال كل أحد منزله، الصحابة لهم منزلة، وحبهم هو من الحب في الله، ولكن يجب لهم من المحبة والتقدير والذكر الجميل ما ليس لغيرهم، وهكذا العلماء يستوجبون من المحبة والإجلال والذكر الجميل والثناء العاطر ما لا يستحقه من دونهم، وأصل الحب في الله تابع لمحبة الله، فمن كان
(1) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).
(2)
رواه البخاري (1741)، ـ واللفظ له ـ ومسلم (1679)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
أقرب إلى الله وأقوم بدين الله، وأتقى لله كان له من المحبة والإكرام ما يليق بمقامه.
وقد انقسم الناس في العلماء ثلاث أقسام:
طرفان ووسط، فطائفة تغلوا في من تعظمه من العلماء؛ لأن لكل طائفة من المقلدين إماما ينتمون إليه، وهذا الغلو يتمثل بالتعصب لأقوالهم، وتقديمها على أقوال غيرهم؛ فالمتعصبون من المتمذهبين لا يعتبرون أقوال الأئمة الآخرين إنما يتمسكون بأقوال إمامهم الذي يقلدونه؛ بل ويَعْرِض نصوص الشرعية على قول إمامه فما وافقها قبله، وما خالفها تأوله، وتلمس له أنواع التفسير والتأويل؛ ليدفع معارضتها لقول الإمام، وهؤلاء مذمومون، ولهم شبه بمن قال الله فيهم:((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [التوبة: 31].
ولهذا عَقَدَ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بابا في كتاب «التوحيد» عنوانه: «باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله» (1).
ويقابل هؤلاء: مَن لا يعرف للعلماء قدرهم، ولا يعتبر أقوالهم، ولا ينظر فيما استنبطوه من نصوص الكتاب والسنة؛ بل يجعل نفسه ندًا لهم؛ بل يتنقصهم فيما يخالف هواه ورأيه، ويطعن عليهم فيما اجتهدوا فيه واستنبطوه من النصوص، وهذا قد حُرِم من الانتفاع بهم؛ لأنه متبع لهواه متعصب لرأيه، وإنما يأخذ من أقوال العلماء ما وافق رأيه.
مثلما يفعل الآخرون في النصوص حين يأخذون منها ما يوافق آراءهم ومذاهبهم، فتجد أحدهم يستدل بالآية أو الحديث حين يوافق المذهب الذي مشى عليه، وما جاء من النصوص معارضا لمذهبه ورأيه دَفَعَه بكل وسيلة؛ إما بالتكذيب أو الرد، وإما بالتحريف الذي يسمونه تأويلا، كما تفعل طوائف المبتدعة، فهذا منهجهم في النصوص، وهو
(1) ص 72.
منهج المتعصبين من أهل المذاهب بالنسبة لما خالف مذهبهم.
فهذان فريقان على طرفي نقيض: المتعصبون للأئمة المقدمون لأقوالهم على كتاب الله وسنة رسوله، والمتنقصون المستخفون بأهل العلم من السلف الصالح ومن سار على منهجهم وطريقتهم، وبين ذلك القول الوسط، وهو الذي عبَّر عنه الإمام الطحاوي وقصد إليه، وهو الاعتراف بفضل العلماء، وإنزال كل منزلته، والانتفاع بعلومهم وفهومهم، فمن كان قاصرا عن فهم الأدلة؛ فليس له إلا أن يقلد من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم.
لكن الشأن في من يقدر على فهم النصوص؛ فهذا عليه أن ينتفع بفهم العلماء، ويرجع إلى أقوالهم، ولا يقصر نفسه على معين يقلده ولا يخرج عن أقواله ولا يلتفت إلى أقوال غيره، لا؛ بل عليه أن يستفيد من كل الأئمة، ويأخذ من أقوالهم ما تشهد له الأدلة من الكتاب والسنة، فأقوال الأئمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة فهذا واجب الإتباع؛ لأنه يستند إلى الأصل الصحيح مهما كان قائله منهم.
والثاني: ما خالف الدليل فيجب تركه، وهذا ما أوصى به الأئمةُ المتْبُوعُون تلاميذهم (1).
والثالث: أقوال لم تظهر مخالفتها للأدلة، ولا موافقتها لها، فهذه يقول فيها المحققون: إنها سائغة الإتباع، لا واجبة الإتباع ولا ممنوعة الإتباع؛ لأنها موضع اجتهاد.
ومما يجب اعتقاده أن هؤلاء العلماء ليسوا معصومين، فلهذا يصيبون تارة ويخطئون أخرى.
ولكن الأئمة المعروفون يجب اعتقاد أنهم لا يتعمدون مخالفة
(1) انظر: آداب الشافعي ومناقبه ص 93، ومختصر المؤمل ص 88، وإعلام الموقعين 2/ 200.
الدليل حاشاهم من ذلك، ومن ظن ذلك فهو متجن عليهم ومسيء للظن بهم، فإذا ثبت عن أحدهم أنه خالف دليلا من كتاب أو سنة، فيجب الاعتذار عنه بما يمكن.
وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة صغيرة اسمها: «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (1)، وذكر أعذار العلماء في مخالفة بعضهم لبعض الأدلة، وأهمها: عدم بلوغ الدليل، فقد يخالف الدليل؛ لأنه لم يبلغه.
أو بلغه من طريق ضعيف، فيعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله.
أو بلغه وصح عنده لكنه لا يعتقد أن المراد به هذا الحكم؛ فيفهمه فهما قد يكون خلاف ما يقتضيه ظاهره، فيكون متأولا للحديث باجتهاد لا عن هوى.
أو يعرض له ما يجعله يظن أنه منسوخ.
فهذه أهم الأعذار التي يعتذر بها عن العلماء إذا خالف أحدهم دليلا من كتاب أو سنة.
ومعروف أن مخالفة الآية لا تكون إلا بتأول؛ لأن القرآن قطعي الثبوت.
وقوله: (ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل)
قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) [النساء: 115].
فهذا وعيد لمن انحرف عن سبيل أهل العلم والدين، وهذه الآية قد استدل بها الشافعي على حجية الإجماع (2)، فمن عدل عن سبيل ما أجمع عليه المؤمنون؛ فإنه متوعد بهذا الوعيد.
(1) مطبوعة مفردة مرارا، وضمن مجموع الفتاوى 20/ 231 - 290.
(2)
تقدم توثيقه في ص 274.
قال الشارح ابن أبي العز (1) في معرض ثنائه على العلماء وأن الله: «جعلهم بمنزلة النجوم يهدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته» .
وهذه المقولة ليست مستقيمة عندي؛ فالأمم الماضية كبني إسرائيل فيهم العلماء المهديون المهتدون، قال تعالى:((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة: 24]، ((وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) [الأعراف: 159]، وكذلك بالعكس فهذه الأمة فيهم العلماء المهديون المهتدون المقتدى بهم الذين يصدق عليهم ما جاء من الثناء على أهل العلم وأنهم ورثة الأنبياء، وفيهم علماء السوء؛ مثل أئمة أهل البدع؛ فإنهم ليس لهم حظ من الثناء الذي جاء في الكتاب والسنة للعلماء، فهذه الأمة فيها فرق ضالة، فلو خص هذا بعلماء أهل السنة فنعم، أما على الإطلاق أن علماء المسلمين هم خيارهم فلا يصح، ولاشك أن العلماء المعنيون الذين اقتفوا آثار نبيهم وآثار أصحابه هم خير هذه الأمة بعد الصحابة رضي الله عنهم.
فينبغي أن نتواصى بتحصيل المزيد من علم الكتاب والسنة، ومهما بلغ الإنسان من التحصيل والعلم؛ فإنه لا يزال يطلب العلم والفائدة ويسأل العلماء، والعلماء يسأل بعضهم بعضا، ويرجع بعضهم لبعض كما كان يفعل الأئمة الكبار في صدر هذه الأمة.
وينبغي للمسلم أن يكون متواضعا لا يأنف عن أن يستفيد ممن فوقه، أو مثله، أو دونه، فقد يجد الفائدة عند من هو دونه في العلم وفي
(1) ص 741، وهو منقول من كلام شيخ الإسلام في أول رسالته "رفع الملام" ص 232، وذكر في الإيمان الكبير ص 284: أن أصل الكلمة للشعبي ثم بَين سبب ذلك.
السن، كما كان الأئمة يفعلون ذلك، فالحق والعلم ضالة المؤمن، فأين وجدها قبلها وأخذها.
ويجب التعويل في تحصيل العلم على الكتب الموثوقة، ككتب السلف الصالح، والعلماء المعروفين الموثوقين، فإن الكتب والمؤلفات كثيرة ومتنوعة، ودخلتها أفكار ومذاهب بدعية، فيجب على طالب العلم أن يكون عنده أصل يميز به بين النافع والضار والحق والباطل، فإن المذاهب البدعية دخلت في كثير من كتب التفسير وشروح الحديث، وفي سائر المصنفات.
فينبغي لطالب العلم أن يجتهد ويتحرى الكتب الموثوقة، كتب الأئمة المشهورين بالعلم والدين والتحقيق والأصالة والسلفية، كما أن عليه أيضا أن يستفيد ويرجع إلى من يثق بعلمه ودينه، وبتحريه للحق، وطريق السلف الصالح.