الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[زيادة الإيمان ونقصانه]
وقوله: (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتُّقَى، ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى).
الإيمان واحد هو: التصديق بالقلب، ومعناه أنه لا يزيد ولا ينقص، ومسألة الزيادة والنقصان هي من فروع الخلاف بين أهل السنة والمرجئة، فمرجئة الفقهاء عندهم: أن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص، وعند أهل السنة: أنه يزيد وينقص، فالتصديق نفسه يزيد وينقص، يقوى ويضعف، وهذا أمر معقول، فـ «ليس الخبرُ كالمعاينةِ» ، وليس ما يستفاد بالخبر المتواتر كالمستفاد بخبر الآحاد من حيث قوة العلم واليقين، فهل وجوب الصلوات الخمس كوجوب الوتر عند من يقول به؟ أو كوجوب بعض واجبات الصلاة؟ فالتصديق نفسه والعلم نفسه يتفاوت قوة وضعفا، وكذلك أعمال القلوب: الحب والبغض والخوف والرجاء والتوكل هذه الأعمال القلبية تتفاوت قوة وضعفا، فهناك بغض وبغض شديد، وحب وحب شديد، قال تعالى:((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [التوبة: 24]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)(1)، فهو أمر محسوس لا يستطيع المنصف العاقل أن ينكره أو أن يتجاهله.
أما أعمال الجوارح فالزيادة فيها والنقص ظاهر للعيان، والآيات
(1) تقدم ص 102.
الدالة على الزيادة كثيرة؛ كقوله سبحانه: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً)) [آل عمران: 173]، ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً)) [الأنفال: 2]، ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانَاً مَعَ إِيمَانِهِمْ)) [الفتح: 4]، ((وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانَاً)) [المدثر: 31]، ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) [التوبة: 124].
وقوله: (وأهله في أصله سواء) إذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص فلا بد أن يكون أهله فيه سواء؛ لأنه شيء واحد. لكن المؤلف أتى بتعبير فيه عندي عدم وضوح، وهو قوله:(وأهله في أصله) ولم يقل: (وأهله فيه)
والمناسب على مذهبه أن يقول: (وأهله فيه سواء)؛ لأن هذا مقتضى كون الإيمان واحدا، أن يكون الناس فيه سواء، ولا أدري ماذا يريد بقوله:(في أصله)، إن أراد أن المؤمنين كلهم عندهم إيمان فهم مشتركون في الأصل، وبينهم قدر مشترك، فهذا لا يصح أن يقال: إنهم فيه سواء؛ لأن وجود قدر مشترك لا يصح معه أن يقال: إنهم فيه سواء، وحقيقة القول عند المرجئة: أن أهله فيه سواء، لكن الطحاوي رحمه الله كأنه تحاشى أن يقول: وأهله فيه سواء فقال: (وأهله في أصله سواء) ويؤكد هذا أنه قال: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) ولم يقل: يتفاضلون في الإيمان، فعنده أن أعمال القلوب فيها زيادة ونقص؛ لكن الخشية، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى، والتقوى هل هي من الإيمان عند هؤلاء المرجئة؟ لا، ليست من مسمى الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب، وإقرار اللسان.
فعندهم أن أعمال القلوب وأعمال الجوارح كلها ليست من الإيمان، فالتفاضل في أعمال القلوب والجوارح هي ثمرة وأثر ذلك الإيمان وليست منه.
وعلى قولهم: يكون إيمان أفسق الناس الذي معه الإيمان وإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سواء!
وقوله: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأَولى)
أي: الخشية من الله، قال تعالى:((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]، ((فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي)) [البقرة: 150].
و (التقى) التقوى، وهي: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وعقابه وقاية بفعل أمره وترك معصيته.
و (مخالفة الهوى) طاعةً لله ورسوله، قال تعالى:((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)) [النازعات: 40]، ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)) [الفرقان: 43]، ((وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [ص: 26]، ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [القصص: 50].
و (ملازمة الأَولى) المحافظة على ما هو الأولى به، هذا هو مجال التفاضل عندهم، أما الإيمان الذي هو التصديق فليس فيه تفاضل ولا زيادة ولا نقص، وبهذا يعلم أن الخلاف بين أهل السنة والمرجئة ليس خلافا لفظيا؛ لأن الخلاف اللفظي يقال: لا خلاف فيه.
كيف يكون الخلاف لفظيا وتبذل فيه هذه الجهود من المؤلفات، وتقرير الدلائل، ورد الشبهات، ويشتد الإنكار على من اخرج الأعمال عن مسمى الإيمان؟!
لا، ليس الخلاف لفظيا؛ بل هو حقيقي، ترتب عليه: مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، ومسألة الاستثناء في الإيمان.