الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الإيمان بالقدر خيره وشره]
وقوله: (والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى)
هذا الأصل السادس من أصول الإيمان: وهو الإيمان بالقدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(وتؤمن بالقدر خيره وشره)(1) والطحاوي هنا رحمه الله قال: (والقدر خيره) ولم يقل: وبالقدر؛ بل عَطَف، والجملة كأنها مستأنَفة، وتكون:(والقدرُ خيرُه وشرُّه وحلوُه ومرُّه من الله تعالى).
ولفظ القدر يطلق بمعنى التقدير، كما إذا قلنا: القدر السابق، والقدر العام، والقدر الخاص، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم:(كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات، والأرض بخمسين ألف سنة)(2) أي: تقدير الله لمقادير الأشياء.
ويطلق القَدَر على الشيء المقدَّر، وهذا كثير في اللغة العربية؛ فالمصدر تارةً يطلَق ويراد به الفعل، ويطلَق ويراد به المفعول، مثل كلمة الخَلْقِ: فالخلقُ يطلق ويراد به فعل الرب تعالى، فإن الله تعالى من صفته ومن فعله الخلق، فهو يخلق، وهو الخلاق، وهو الخالق.
ويطلَق على نفس المفعول، فتقول: هذا خلق الله، كما قال تعالى:((هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) [لقمان: 11] أي: هذا هو المخلوق لله.
(1) تقدم في ص 201.
(2)
تقدم في ص 71.
كذلك القدر يطلق ويراد به المقدر، فإذا حدث الآن حادث للإنسان يقول: هذا قدر، أي: هذا مُقَدَّرٌ قد قَدَّره الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم:(وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل). (1)
ومثلُ القدرِ القضاءُ؛ فإنه يطلق ويراد به الحكم، وهو فعل الرب تعالى، ويطلق ويراد به المقضي، وهو ما قضاه الله وشاءه من المخلوقات، ولهذا يقول المسلمون فيما يحدث: هذا قضاء وقدر، أي: هذا أمر مقضي مقدر، أي: هذا أمر حكم الله به، وقدره سبحانه وتعالى.
وقوله: (والقدر خيره وشره)
لاشك أن المقدرات المخلوقات فيها خير وشر وحلو ومر، فيها النعم والمصائب، فيها طيب وخبيث، وحسن وقبيح، هذه المخلوقات فيها هذا التنويع.
فإذا أريد بالقدر: المقدر فهذا أمر ظاهر، نؤمن بأن كل الأشياء مُقدرة مخلوقة لله، واقعة بقدرة الله ومشيئته، لا يخرج شيء منها عن ملك الله، فكل ما يجري في الوجود من خير وشر؛ فهو بمشيئة الله وخلق لله، ومقدر بتقدير الله، وهو مقضي بحكم الله وقضائه.
وقوله: (وحلوُه ومرُّه) كأن هذا التعبير من تنويع الكلام؛ لأن الأمور المقدرة منها ما هو حلو في حس وذوق الناس؛ كالنعم والأشياء المستطابة، والمر الأشياء الكريهة كالمصائب؛ لأن لها مرارة في النفوس.
ويفسر الخير باللذات وأسبابها، والشر بالآلام وأسبابها، لكن هناك لذات في نفسها لكنها أسباب لآلام طويلة، فتكون في ذاتها خيرا، لكنها شر باعتبار ما تفضي إليه، فالمعاصي شر وإن استلذتها النفوس؛ لأنها تفضي إلى أعظم الآلام.
(1) رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والطاعات خير في ذاتها ومآلها، وإن اشتملت على بعض المشاق والكُلَف، لكنها خير؛ لأنها نفسها مصالح ومنافع عظيمة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:«حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (1)، والله تعالى اقتضت حكمته تنويعَ الخلْقِ، وخلْقَ الأضداد في هذا الوجود، فخلَقَ الخير والشر، والنافع والضار، والحسن والقبيح في الذوات والصفات والأفعال، فخلق النور والظلمات، وخلق الملائكة والشياطين، وخلق الصحة والمرض والحياة والموت:((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً)) [الملك: 2].
إذاً؛ الأشياء المخلوقة فيها خير وشر والله خالق الخير والشر، أما فعل الرب سبحانه: حكمه وقضاؤه وتقديره؛ فكله خير، ليس فيه شر، والشر لا يضاف إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلا، فالشر لا يكون في أسمائه فكلها حسنى، ولا في صفاته فكلها صفات كمال وحمد، ولا في أفعاله فكلها أفعال عدل وحكمة، وإنما يكون في مفعولاته، أي: مخلوقاته.
وهذا ما فُسر به قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)(2)
أنه تعالى لا يخلق شرا محضا؛ بل كل الشر الذي في المخلوقات شر نسبي ليس شرًا محضًا، وهذا يرجع إلى الإيمان بحكمته سبحانه وتعالى، وأنه حكيم، ما خلق شيئا عبثا، لم يخلق شيئا إلا لمصالحَ وحكمٍ يعلمها سبحانه، وليس من شرط ذلك أن تكون عائدة للعبد، بل قد يكون فيها شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق؛ فالله تعالى منزه عنه.
وكل ما خلقه الله إما أن يكون خيرا محضا، أو أن وجوده خير من
(1) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2823) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
عدمه باعتبار الحكمة العامة، فالله خلق هذه الأضداد لحكم بالغة، ومن حِكمه تعالى في خلقه: الابتلاء، قال تعالى:((خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ)) [الملك: 2] وقال تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً)) [الكهف: 7]، (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7].
والشر الذي في المخلوقات لا يضاف إلى الله مفردا أبدا؛ بل إما يدخل في عموم المخلوقات كقوله تعالى: ((قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [النساء: 78]، وكقوله:((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الرعد: 16]، يعني: الخير والشر.
وإما بصيغة البناء للمفعول، كقوله تعالى عن الجن:((وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ)) [الجن: 10]، وإما أن يضاف إلى خلقه سبحانه، كقوله تعالى:((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) [الفلق: 2]. (1)
هذه الوجوه التي يعبر بها في إضافة الشر المخلوق.
وعلى هذا فلا ينبغي أن تقول: الله خالق الشر، لكن قل: الله خالق كل شيء، وهذا معنى التعبير بالعموم، وقل: فلان أريد به السوء، ولا تقل: أراد الله به.
وكذلك إذا أردت أن تخبر عن خلق الله للمخلوقات، قل: الله خالق كل شيء، الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن، ولا تقل: الله خالق الحشرات وخالق الكلاب، أو: الله رب الكلاب، هذا منكر؛ بل قل: رب السماوات والأرض، رب كل شيء، هذا الذي فيه التعظيم، كما تَمَدَّح سبحانه وتعالى بذلك ((رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) [المؤمنون: 86].
(1) منهاج السنة 5/ 410، ومجموع الفتاوى 14/ 266، وبدائع الفوائد 2/ 724.
وهكذا في النفع والضر فلا تقل: الله هو الضار؛ بل قل: الله هو النافع الضار، وهذا من جنس الأول في التعبير بالعموم.
ومن هذا ما ذكر الله من قول إبراهيم عليه السلام: ((فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) [الشعراء: 77 - 80] ولم يقل: وإذا أمرضني شفاني، وهذا من الأدب في الإخبار عن الله سبحانه وتعالى.
ومما يتعلق بهذا الجمعُ بين آيتي سورة النساء، وهي قوله سبحانه وتعالى:((وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [النساء: 78] وقوله تعالى في الآية التي تليها: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء: 79] فظاهر الآية الأولى أن الحسنة والسيئة كلها من عند الله، ومعنى أن الحسنة والسيئة من عند الله أنهما بمشيئته وتقديره وتدبيره، وليس في تقديره شر سبحانه وتعالى؛ بل حكمة وعدل.
وأما قوله تعالى: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء: 79] فالمعنى: بسبب نفسك، والحسنة والسيئة تطلق في القرآن إطلاقين:
1 -
حسناتُ وسيئات الجزاء، وهي: النعم والمصائب، ومنه قوله تعالى:((وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)) [الأعراف: 168].
2 -
حسناتُ وسيئات الأعمال، ومنه قوله تعالى:((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود: 114].
وأما الحسنة والسيئة في الآيتين:
ففي الآية الأولى: النعمة والمصيبة.
وفي الثانية: كذلك على الصحيح، وفسرت الحسنة بالنصر والخصب، والسيئة بالهزيمة أو بالمصيبة وبالجدب وما أشبه ذلك، فتكون الآية:((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء: 79] من جنس ((أَوَ لَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) [آل عمران: 165] وقوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)) [الشورى: 30].
وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية (1) وابن القيم (2) هذا المعنى تقريرا حسنا، ونقل بعضه الشارح ابن العز في شرحه (3) فجزاهم الله خيرا.
وقوله: (من الله تعالى) أي: كله بخلق الله، وبقدرة الله، وبمشيئة الله، لا خروج لشيء عن ذلك.
وقوله: (ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به).
أي: بكل ما تقدم من مسائل الاعتقاد التي ذكرها مما يتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر.
(لا نفرق بين أحد من رسله) بل نؤمن بهم جميعا، كما وصف الله المؤمنين بذلك:((كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة: 285]، فالكفار هم الذين فرقوا بينهم، وكفرهم الله بذلك:((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلَاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقَّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابَاً مُهِينَاً)) [النساء: 150 - 151].
(ونصدقهم بكل ما جاءوا به) فكما نؤمن بجميع الرسل، نؤمن بكل ما جاءوا به، فمن آمن ببعض
(1) منهاج السنة 5/ 410، ومجموع الفتاوى 14/ 266.
(2)
بدائع الفوائد 2/ 710، وشفاء العليل ص 159.
(3)
ص 515.
الرسل وكفر ببعض؛ فهو كافر لا ينفعه إيمانه، ومن كذَّب رسولا واحدا؛ فهو كالمكذِّبِ لجميعهم، وكذلك من آمن بالرسول الواحد ولكنه كفر ببعض ما جاء به؛ فهو كافر لا ينفعه إيمانه، فلو آمن أحد بكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلا مسألة واحدة مع ثبوتها وقطعيتها، ولا يحمله على ذلك التوقف في ثبوتها؛ فإنه كافر، فلو قال: أنا أؤمن بالقرآن كله إلا هذه الآية؛ فهو كافر، أنا أؤمن بكل أحكام الإسلام إلا تحريم الخمر؛ فإنه كافر.