الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[خلق الله لأفعل العباد]
وقوله: (وأفعال العباد خَلْقُ الله، وكَسْبٌ من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله)، نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد، ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله)
هذا الكلام كله تفصيل لمعانٍ مردها كلها إلى الإيمان بالقدر.
وقوله: (وأفعال العباد خَلْقُ الله وكَسْبٌ من العباد) اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية حسب اختلافهم في القدر، فأهل السنة والجماعة يقولون: أفعال العباد هي أفعالهم حقيقة، وهم الموصوفون بها، فالعبد هو المصلي والصائم، والقائم والقاعد، وهو الصادق والكاذب، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، هي أفعاله، والله تعالى خالقُ العبادِ وخالقُ أفعالِهم وقدرتهم وإرادتهم؛ لأنه خالق الأسباب والمسبَبَات.
فهي مفعولة لله، و ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر: 62] فلا خروج لشيء عن خلقه وقدرته ومشيئته.
وقالت القدرية نفاة القدر: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، فأفعال العباد مخلوقة لهم، وليست بمشيئة الله ولا بقدرته ولا بخلقه. وقالت الجبرية: إن أفعال العباد مخلوقة لله، والعبد لا فعل له؛ بل أفعاله مجبور عليها كحركة المرتعش، وكالريشة في مهب الريح، وحركة الأشجار.
فأثبتوا القدر وعموم خلق الله، لكنهم سلبوا العبد قدرته واختياره وأفعاله، وقالوا: إن نسبة الأفعال إلى العباد مجاز، ومعناه: أنه ليس هو الراكع والساجد؛ لأنه ما فعل هذا بقدرته؛ إذ لا مشيئة له ولا قدرة.
فهذان قولان على طرفي نقيض.
وقد دل على إبطال المذهبين: مذهبِ القدرية والجبرية قولُ الله تعالى: ((لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)) [التكوير: 28]، فأثبت المشيئة للعباد، ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير: 29] فجعل مشيئة العبد موقوفة على مشيئة رب العالمين سبحانه وتعالى.
وجاءت الأشاعرة فلفقوا كعادتهم وقالوا: أفعال العباد خلْقٌ لله، وكسب من العباد، لكن مفهوم الكسب عندهم هو: الفعل المقارن للقدرة المحدثة، وهذا بنوه على مذهبهم في نفي الأسباب.
فيرون أن العلاقة بين الأسباب والمسبَبَات، وبين قدرة العبد وأفعاله مجرد الاقتران، فيقولون: إن الله يفعل عند الأسباب لا بها، فليس عندهم باء سببية؛ بل يرونها للمصاحبة.
فهم يَقْرُبُون في هذا من قول الجبرية؛ لأن قولهم يتضمن: أنه لا أثر لقدرتهم في وجود أفعالهم، كما تقدم في ذكر ذلك في الأسباب (1) وقولهم: إن الماء لا أثر له في حصول الرِّي، ولا أثر للطعام في حصول الشِّبع، ولا أثر لقدرة العبد في حصول فعله. هذا قول الأشاعرة، وقد ذُكر كسبُ الأشعري من الأشياء التي لا حقيقة لها. (2)
والله أعلم بمراد الطحاوي؛ لأن كلمة الكسب في اللغة والشرع تطلق على الفعل ((بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأنعام: 129]، ((بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام: 108]
(1) ص 325.
(2)
قالوا: عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري. مجموع الفتاوى 8/ 128، ومنهاج السنة 1/ 459 و 2/ 297، وشفاء العليل ص 50 و 122.
وقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) أي: ما يستطيعون، قال الله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وقال سبحانه وتعالى في الدعاء الذي علمه لعباده ـ: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال الله تعالى: «قد فعلت» (1).
وهذا من رحمة الله بعباده، وحكمته في شرعه، وهو من اليسر الذي أراده الله بعباده:{يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 135]، وبهذا اليسر رفع الحرج عن عباده، قال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فله الحمد على ذلك كثيرا.
وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم)
هذه العبارة فيها نظر، فالعباد يطيقون أكثر مما كلفهم الله؛ إذ لو كانوا لا يطيقون إلا ما كلفهم؛ فمعناه: أنه كلفهم غاية طاقتهم، فلا يقدرون على شيء بعدها؛ بل ما كلفهم الله هو أقل مما يستطيعونه، ولله الحمد، فقد كلفهم صيام شهر في السنة، أليسوا يطيقون أن يصوموا شهرين؟ بل يطيقون أن يصوموا ثلاثة لو كلفهم بذلك.
وقوله: (وهو تفسير «لا حول ولا قوة إلا بالله»)
تفسير «لا حول ولا قوة إلا بالله» : لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على أي أمر إلا بالله.
والإقرار بذلك واستحضاره وذكره يتضمن التوكل على الله والاستعانة به، ولهذا شُرع لمن يجيب المؤذن أن يقول عند قول المؤذن:«حي على الصلاة، حي على الفلاح» : «لا حول ولا قوة إلا بالله» (2)، استعانة بالله على الإجابة إلى ما دعي إليه.
(1) رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (385) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذه الجملة «لا حول ولا قوة إلا بالله» من أنواع الذكر التي دلت السنة على عظم شأنها، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«ألا أدلك على كَنْزٍ من كُنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله» . (1) وذلك لأنها متضمنة لتوحيد الربوبية، ومتضمنة فقر العباد إلى الله فلا مشيئة لهم ولا قدرة لهم إلا أن يشاء الله، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وقد فسر الطحاوي رحمه الله هذه الجملة العظيمة بعبارة حسنة، وذلك في قوله:(نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد، ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله).
(1) رواه البخاري (6409)، ومسلم (2704)، وتقدم ذكر أوله:«إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا» .