الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الرجاء للمحسنين، والخوف على المسيئين]
وقوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم، ولا نقنطهم).
نرجو للمحسنين ـ لا أي أحد ـ أن يعفو الله عنهم، ويتجاوز عن ذنوبهم؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأن يدخلهم الجنة برحمته سبحانه وتعالى، ولا نأمن عليهم العقاب على ذنوبهم؛ لأن ذلك مردود إلى مشيئته سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى قال:((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48] وهو سبحانه أعلم وأحكم؛ فيجعل فضله وعفوه وإحسانه ورحمته حسبما تقتضيه حكمته البالغة، ويعاقب من يشاء، كما قال سبحانه وتعالى:((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48]، ((فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)) [البقرة: 284] فالأمر مردود إلى مشيئة الله؛ لكن نعلم بدلالة النصوص أن من المذنبين من يعفو الله عنهم، ومنهم من يعاقبه ويدخله النار ثم يخرجه منها، ولا يصح أن نقول: يجوز أن يتجاوز الله عن جميع المذنبين فلا يدخل أحد منهم النار؛ لأن النصوص دلت على أن من أهل الكبائر من يدخل النار ثم يخرج منها. (1)
وقوله: (ونرجو للمحسنين)
يريد أهل الإحسان الذين حسن إسلامهم واستقاموا عليه، فهؤلاء
(1) انظر ص 156.
أهل الإحسان العظيم يرجى لهم من العفو والرحمة والمغفرة ما لا يرجى لغيرهم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات.
وقوله: (ولا نشهد لهم بالجنة) لا نشهد لأحد من المحسنين الصالحين بالجنة، فضلا عمن دونهم، وهذه مسألة سيأتي النص عليها في كلام الطحاوي (1)؛ لأنه يكرر المعنى الواحد أحيانا في أكثر من موضع، فلا نشهد لأهل القبلة بجنة ولا نار.
والشهادة بالجنة ذكر فيها الشارح ابن أبي العز ثلاثة مذاهب (2):
قيل: لا يشهد إلا للأنبياء.
وقيل: يشهد بالجنة لكل من جاء فيه النص، وهو قول كثير من العلماء وأهل الحديث.
وقيل: يُشهد بالجنة لهؤلاء، ولمن شهد له المؤمنون.
والقول الثاني هو: أصحها فمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم شهدنا له بالجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة (3)، وثابت بن قيس بن شماس (4)، والحسن والحسين، (5) رضوان الله عليهم، ومن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم من الجماعات؛ كأهل بيعة الرضوان نشهد بأن جميعهم في الجنة، قال تعالى:((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) [الفتح: 18]، وقال
(1) ص 264 عند قوله: ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا.
(2)
ص 538، وهو منقول من منهاج السنة 5/ 295.
(3)
رواه أبو داود (4649)، والترمذي (3757) ـ وقال: حسن صحيح ـ، وابن ماجه (133)، وصححه ابن حبان (6993)، والحاكم 3/ 440، والضياء في المختارة 3/ 282 - 290 من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه.
(4)
رواه البخاري (4846) ومسلم (119) عن أنس رضي الله عنه.
(5)
رواه أحمد 3/ 3، والترمذي (3768) وابن حبان (6959) والحاكم 3/ 167ـ وصححوه ـ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
النبي صلى الله عليه وسلم (لا يدخلُ النارَ أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة)(1)
أما من شهد له المؤمنون، فيستدل له بحديث أنس رضي الله عنه قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وجبت» ، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شرا، فقال:«وجبت» ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض» .
…
(2)
لكن هذا خطاب لجماعة من خيار الصحابة رضي الله عنهم، فلا يتأتى اعتبار أي جماعة من الناس أن شهادتهم للشخص توجب الشهادة له بالجنة، إذا شهدوا له بالخير والصلاح؛ لكن شهادة المسلمين والصالحين مما يستبشر به، ومما يبشر بالخير ويبعث على الرجاء، أما أن يشهد له بالجنة بناء على هذا فلا، وهذا المثنى عليه خيرا لم يعلم أنه في الجنة إلا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«وجبت» ، وهذا لا يتأتى لغيره من الناس.
وقوله: (ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم).
نرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر للمسيئين، قال تعالى:((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [محمد: 19] فالله ندب نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ربه لذنبه وللمؤمنين، وهذه سنة الأنبياء فقد ذكر الله عن نوح أنه قال:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنَاً وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) [نوح: 28] وعن إبراهيم أنه قال: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) [إبراهيم: 41] وقد أثنى الله على الذين يستغفرون لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ
(1) رواه أحمد 3/ 350، وأبو داود (4653)، والترمذي (3860) من حديث جابر رضي الله عنه، ونحوه عند مسلم (2496) من روايته عن أم مبشر رضي الله عنهما.
(2)
رواه البخاري (1367)، ومسلم (949).
رَحِيمٌ)) [الحشر: 10]، فينبغي أن يكون هذا دأب المسلم فيستغفر ربه لنفسه ولإخوانه المسلمين.
وقوله: (ونخاف عليهم) في المحسنين قال: (ولا نأمن عليهم) مع إحسانهم، وهنا قال:(ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم) فنخاف على المسيئين من عقاب الله، ولا نؤمنهم كحال المرجئة الذين يقولون:(لا يضر مع الإيمان ذنب)، ولا نقنطهم كحال الخوارج الذين يقولون:(لا يرجى لهم مغفرة ولا رحمة ولا يدخلون الجنة)، وهذا مسلك أهل السنة رضي الله عنهم ورحمهم فهم وسط بين هذه الفرق، وسط في باب الأسماء والصفات، وسط في أفعال العباد، وسط في أسماء الإيمان والدين، وسط في أهل الكبائر، وسط في الصحابة، فكل هذه العبارات تتضمن تقرير التوسط في أمر أهل الذنوب، فلا نكفرهم، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.