الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مذاهب الفِرَقِ في مسمى الإيمان]
وقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان).
هذا هو تعريف الإيمان عند مرجئة الفقهاء، وهو يقتضي أن أعمال الجوارح كلها ليست من الإيمان؛ بل وأعمال القلوب.
وهو خلاف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة: أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، أو هو: قول وعمل، قول القلب وهو: اعتقاده، وقول اللسان: وهو إقراره، وعمل: وهو عمل القلب، وعمل الجوارح، فالإيمان يشمل كل هذه الجوانب، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، قال الله تعالى:((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) [الأنفال: 2]، وقال الله في الصلاة التي صلاها المسلمون إلى بيت المقدس ومات من مات قبل نسخ القبلة:((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)) [البقرة: 143] إي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وعقد البخاري رحمه الله أبوابا عديدة في كتاب الإيمان تَرْجم بها لمختلف الأعمال: باب: الجهاد من الإيمان، (1) باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان،
…
(2) باب: اتباع الجنائز من الإيمان، (3) باب: أداء الخمس من الإيمان (4)، ومن الأحاديث الجامعة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع
(1) 1/ 16.
(2)
1/ 16.
(3)
1/ 18.
(4)
1/ 20.
وستون شعبة) (1). فالصلاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). (2)
ومسألة مسمى الإيمان مسالة كبيرة، وقد خالف أهل السنة والجماعة طوائف المرجئة، فمنهم مرجئة الفقهاء وهم الذين ذكر الطحاوي مذهبهم: أن الإيمان هو: «تصديق القلب وإقرار اللسان» ، وبعضهم يجعل الإيمان هو:«تصديق القلب» ، والإقرار شرط فيه، وليس من مسماه، فلا يصح إيمان القلب إلا بإقرار اللسان.
والقول الآخر قول الجهمية ومن تبعهم: «الإيمان هو مجردُ التصديقِ أو مجرد المعرفةِ» ، والمعرفةُ والتصديقُ في نظري محصلهما متقارب، فعلى تقريرهم: إذا كان المكلف يعرف ربه فهو مؤمن، والكفر هو جحود الخالق، فأما الإقرار بالإنسان، وعمل الجوارح، وعمل القلب؛ فالكل ليس من مسمى الإيمان، وهذا يقتضي أن كل طوائف الكفر مؤمنون؛ لأنهم يعرفون الله، حتى كفار قريش، قال تعالى:((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان: 25]، وأخبر الله عن عادٍ وثمودَ أنهم قالوا:((لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) [فصلت: 14]، وقوم نوح قالوا:((ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) [المؤمنون: 24]، إلى غير ذلك، فهذا أفسد أقوال الناس في مسمى الإيمان.
ومن الأقوال الباطلة قول الكرامية: أن الإيمان هو: «الإقرار باللسان» ، فالمنافق عندهم مؤمن، لكنه إذا مات فهو مخلد في النار، يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعليقا على هذا:«فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم» (3)،
(1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
التدمرية ص 462.
فالمنافق عند المسلمين ليس بمؤمن؛ لأنه يبطن التكذيب والشك والإباء، قال تعالى:((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)) [البقرة: 8] ويقول شيخ الإسلام عن قولهم: (قول منكر لم يسبقهم إليه أحد)(1)
فهذه أربعة مذاهب في مسمى الإيمان، وأهمُ هذه الأقوالِ المخالفةِ قولُ مرجئة الفقهاء: الإيمان هو: «التصديق، وإقرار اللسان» ، وأن الأعمال ليست من الإيمان، ولهم على ذلك شبهات كثيرة، وقد أجاب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في «الإيمان الكبير» و «الإيمان الأوسط» وغيرهما.
والمقصود: أنه قول مخالف لما دل عليه القرآن، والسنة الصحيحة أن الإيمان اسم لكل أمور الدين: الاعتقادية والعملية والقولية، كما في الحديث:(الإيمان بضع وستون شعبة)(2)، وإن كان ما في القلب أصل لأعمال الجوارح كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:(ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلَحت صلَح الجسد كلُه وإذا فسدت فسد الجسد كلُه ألا وهي القلب)
…
(3). فالجوارح تابعة للقلب صلاحا وفسادا، وهو بالنسبة لها بمثابة الملك مع جنوه.
ومن شبهات المرجئة قولهم: إن الإيمان معناه في اللغة العربية: التصديق.
وقد رد ذلك ابن تيمية (4) بوجوه كثيرة، منها:
أنه ليس كذلك في اللغة العربية؛ بل الإيمان أخص من مطلق
(1) الموضع السابق.
(2)
تقدم ص 227.
(3)
رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(4)
الإيمان الكبير 7/ 289.
التصديق، وهو الإيمان بالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبِر، فلا تقول لمن قال لك: طلعت الشمس: آمنتُ لك، بل صدقتُك، لكن من أخبرك بأمر لا تدركه ولا تعرفه بحسك نعم، كما قال إخوة يوسف:((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) [يوسف: 17] فالإيمانُ في اللغة العربية تصديقٌ، لكن ليس كلُ تصديقٍ يكون إيمانا.
وهكذا بالنسبة للاستعمال، فـ (آمن) يتعدى باللام وبالباء تقول: آمنت به، هذا بالنسبة للخبر أو المؤمَن به، وآمنت له بالنسبة للمخبِر، وأما (صَدَّق) فإنه يتعدى بنفسه، فتقول: صَدَّقه، فهو يختلف عن الإيمان من جهة اللفظ والاستعمال، ومن جهة المعنى والمضمون، وسيأتي لهذا مزيد بحث عند قول المؤلف:(والإيمان واحد وأهله في أصله سواء). (1)
(1) ص 234.