الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وترك الخوض فيما طوي عنا علمه]
وقوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوَّر قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود).
قد يكون مراده من هذه الإشارة من أول ما يتعلق بالتوحيد والرسالة والقرآن وما بعد ذلك، أو يريد القريب وهو ما يتعلق بالأصل السادس وهو الإيمان بالقدر، وكأن الأرجح رجوع الضمير إلى كل ما تقدم، (فهذا جملة ما يحتاج إليه) أي: ما لا بد منه (لمن هو منوَّر القلب) ولا يكون منوَّر القلب إلا بذلك، فنستطيع أن نقول: فهذا جملة اعتقاد من قلبه نَيِّر، والإيمان في القلب نور؛ لأن النور نوعان:
نور حسي: يرى بالأبصار.
ونور معنوي: قال الله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [النور: 35]، الشاهد:((مَثَلُ نُورِهِ)) [النور: 35] أي: مثل نور الله في قلب عبده المؤمن.
فالإيمان نور في القلب، والله تعالى سمى الوحي المنزل نورًا: ((فَآمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا)) [التغابن: 8] والإيمان والعلم في القلوب نور: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً)) [الأنعام: 122] أي: في قلبه.
وهذه معان عظيمة تُنَبِّه إليها هذه النصوص؛ ولكن ما حظك من هذا الأمر العظيم؟ وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا)(1) المؤمن الكامل الإيمان في قلبه نور، وفي سمعه، وفي بصره، والنور محيط به؛ والنور المعنوي هو: نور العلم والإيمان قال تعالى: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ)) [الأنعام: 122] وقال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [البقرة: 257] يخرجهم من ظلمات الكفر والغفلة والمعصية والجهل، إلى نور الإيمان والعلم والبصيرة.
والقلوب لها أحوال كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادّا كالكوز مُجَخِّيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه)(2)
وقد دلت النصوص على أن القلوب ثلاثة أقسام (3):
قلب حي سليم، وهو قلب المؤمن.
وقلب ميت، وهو قلب الكافر.
وقلب مريض، فيه مادة حياة، ومادة موت، أي: فيه صحة ومرض، وهو لما غلب عليه منهما.
(1) رواه البخاري (6316)، ومسلم (763) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (144) من حديث حديفة رضي الله عنه.
(3)
إغاثة اللهفان 1/ 7.
واقرأ ما ذكر ابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» في مثل النور في قلب المؤمن (1) واقرؤوا كلامه على قوله تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ)) [النور: 35] في «الوابل الصيب» (2) فقد أجاد في الكلام عليها وأحسن.
وقوله: (من هو منوَّر القلب من أولياء الله) فكل ولي لله فهو منوَّر القلب، وكل منوَّر للقلب فهو ولي لله، وولاية الله تقوم على الإيمان والتقوى، والإيمان والتقوى لا يكونان إلا بالعلم.
إذًا؛ فولي الله هو الذي نور الله قلبه بالعلم والإيمان، وظهر أثر ذلك على جوارحه بالتقوى وبالأعمال الصالحة، ولذا قال المؤلف:(وهي درجة الراسخين في العلم) الراسخون في العلم ذكرهم الله في قوله: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) [آل عمران: 7]، فالراسخون في العلم هم المتمكنون في العلم، ليسوا على حَرف في العلم أو في الإيمان أو في العبادة، لا؛ بل هم ثابتون راسخون، وهم يؤمنون بكل ما جاء عن الله، ولا يعارضون ما أخبر الله به، وما أخبرت به رسله:((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) [آل عمران: 7] بخلاف الذين في قلوبهم زيغ فإنهم يتبعون المتشابه ((ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)) [آل عمران: 7] وابتغاء إضلال الناس، ولبس الحق بالباطل.
وقوله: (لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود)
العلم الموجود: مسائل الاعتقاد والشرائع، فهذا العلم الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو موجود في القرآن والسنة ففيهما من الأخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ما يعلمه من تدبرهما.
(وعلم في الخلق مفقود) وهو علم الغيب الذي طواه الله، مثلما تقدم في القدر: (أن الله
(1) ص 39.
(2)
ص 119.
تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه) (1) فسر القدر هو من العلم المفقود، وكيفية صفات الرب من العلم المفقود، وحقائق الآخرة من العلم المفقود، ولا سبيل إلى معرفة ما استأثر الله بعلمه.
والمؤلف رتب على هذا قوله: (فإنكار العلم الموجود كفر) جحد شيء مما علم بالضرورة من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الشرائع التي جاء بها كفرٌ.
(وادعاء العلم المفقود كفر)؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، فتكييف صفات الرب كفر؛ لأنه قول على الله بلا علم؛ لكن الذي يسأل عن الكيف، كمن يقول: كيف استوى؟ فهذا مبتدع يجب الإنكار عليه، كما أنكر الأئمة عليه كمالك رحمه الله حين رد بتلك الجمل التي صارت قاعدة:(الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج). (2)
وقوله: (ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود).
لا يثبت الإيمان ولا يستقر ولا يسلم (إلا بقبول العلم الموجود) وهو الإيمان بما بعث الله به رسوله (وترك طلب العلم المفقود)، قال تعالى:((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً)) [الإسراء: 36]، والله تعالى علم نبيه صلى الله عليه وسلم فقال:((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)) [الأنعام: 50] وفي الآية الأخرى: ((وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)) [الأعراف: 188].
(1) ص 171.
(2)
صح هذا الأثر عن الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والإمام مالك رحمهما الله. انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 440 - 442، وعقيدة السلف أصحاب الحديث ص 37، وذم التأويل ص 25، والأثر المشهور عن الإمام مالك رحمه الله في صفة الاستواء ص 84 و 123.