الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وجوب اعتقاد أن محمدا عبد الله ورسوله، وذكر ما تثبت به النبوة]
وقوله: (وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى).
قرر المؤلف في الكلام المتقدم التوحيد بأنواعه الثلاثة، ثم ذكر بعض الأسماء، ثم ذكر أشياء مما هو من توحيده سبحانه وتعالى، ثم ذكر ما يتعلق بالقدر، فما تقدم كله يتضمن تقرير توحيده بأنواعه الثلاثة، وأنواع التوحيد الثلاثة كلها تندرج في شهادة أن لا إله إلا الله.
فكأن مجمل قوله: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله إن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه لا إله غيره، وأنه سبحانه وتعالى الموصوف بصفات الكمال المنزّه عن كل نقصٍ وعيب، وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وبهذا تتضح المناسبة في قوله: وإن محمدًا عبده المصطفى، ـ يعني ـ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له، ونقول في شأن محمد صلى الله عليه وسلم معتقدين بتوفيق الله: إن محمدا عبده المصطفى بكسر همزة (إنَّ)؛ لأنها مقولُ القول.
وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ومحمد هو أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم، وإلا فله أسماء فإنه قال: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر
الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي. (1)
وأسماؤه صلى الله عليه وسلم أعلام وصفات، فاسمه محمد علم وصفة يدل على كثرة محامده، وكثرة حامديه؛ لأنه اسم مفعول من حُمِّد، وهو أبلغ من حُمِد. (2)
وقوله: (وإن محمدا عبده المصطفى)
مما تجب الشهادة به للنبي صلى الله عليه وسلم أنه عبد الله ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) [الجن: 19]((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء: 1]((وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)) [البقرة: 23]((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)) [الفرقان: 1] في هذه الآيات وصفٌ له، وثناء عليه بالعبودية، وهي العبودية الخاصة، وفيها إضافته صلى الله عليه وسلم إلى ربه فالله أضافه في هذه المواضع إلى نفسه إضافة تشريف، فهو أكمل الناس وأقومهم بالعبودية لله، فلا بد في الشهادة من شهادة أنه عبد الله ورسوله خلافا لمن يغلوا فيه ويجعل له بعض خصائص الإلهية.
وقوله: (المصطفى) المختار، والاصطفاء، والاختيار: طلب خير الشيئين.
وقوله: (ونبيه المجتبى) هو صلى الله عليه وسلم عبدٌ نبيٌ منبأٌ بالوحي الذي أنزله الله إليه، قال تعالى:((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) [النساء: 163].
والاجتباء: قريب من معنى الاصطفاء.
وقوله: (ورسوله المرتضى) فهو نبي رسول صلى الله عليه وسلم، والمرتضى: الذي ارتضاه الله، قال سبحانه وتعالى:((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) [الجن: 27].
(1) رواه البخاري (4896)، ومسلم (2354) ـ واللفظ له ـ من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.
(2)
انظر: جلاء الأفهام ص 183.
ونلاحظ هنا إن المصنف قد أحسن في تناسب هذه الكلمات حيث ربط الاصطفاء بالعبودية، فقال (عبده المصطفى)، والاجتباء بالنبوة (ونبيه المجتبى)، والارتضاء بالرسالة (ورسوله المرتضى)؛ فإن هذا موافق لما جاء في القرآن، فقد قال سبحانه وتعالى:((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)) [النمل: 59] وفي سورة الأنعام لما ذكر الله إبراهيم، ومن هدى الله من ذريته:((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)) [الأنعام: 84] قال بعد ذلك: ((وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ)) [الأنعام: 87] فوصف هؤلاء الصفوة من الأنبياء بالاجتباء.
وأما الارتضاء ففي قوله تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) [الجن: 27]، فكأنه استوحى هذا من الآيات.
والنبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم نبيٌ ورسول، والله خاطبه بـ (يا أيها النبي) في آيات (1)، وبـ (يا أيها الرسول) في آيتين (2) فخاطبه بالصفتين: النبوة، والرسالة.
نبي؛ لأنه منبأ، فقد أنزل الله عليه النبأ العظيم ـ القرآن ـ.
وهو رسول مرسلٌ إلى الناس كافة: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)) [الأعراف: 158]((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)) [سبأ: 28]((وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء: 79].
وأكثر ما يُذكر صلى الله عليه وسلم بصفة الرسالة؛ لأنها هي المتعلقة بالمكلفين، والمقتضية للبلاغ.
لكن ما الفرق بين النبي والرسول؟
فإن الله سبحانه وتعالى قال: ((ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وأتينا داود زبوراً)) وقال سبحانه وتعالى: ((تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)) فنجد آيات فيها ذكر الأنبياء وآيات فيها ذكر الرسل.
والفرق المشهور بين النبي والرسول: أن النبي من أوحي إليه بشرعٍ ولم يؤمر بتبليغه.
والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه.
فلفظة نبي لا تشعر بالتبليغ، وكأن هذا التعريف مستمد من لفظة (نبي)، ولفظة (رسول) ليس إلا، وهذا تعريف غير مستقيم؛ لأن قولهم: إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.
فيه ملاحظتان:
الأولى: أنه أوحي إليه بشرع يدل على أنه يكون على شريعة يستقل بها.
وثانيا: أنه لا يؤمر بالتبليغ؛ بل إنما هو مكلف بنفسه؛ فكأن الشريعة التي أوحي بها إليه مختصةٌ به فيتدين بدين يخصّه، هذا ما يفيده هذا التعريف، ومعناه أنه لا يؤمر، ولا يدعو، ولا ينهى! وهذا خلاف ما وصف الله به الأنبياء؛ كأنبياء بني إسرائيل، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} [(44) سورة المائدة] فكان أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة، وكانوا يسوسون الناس كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي). (1)
والصواب: أن كل نبي رسولٌ مأمور بالتبليغ، لكن الإرسال على نوعين:
الإرسال إلى قوم مؤمنين بتعليمِهِم، وفتواهُم، والحكمِ بينهم.
والإرسال إلى قوم كفار مكذبين لدعوتهم إلى الله.
وبهذا يحصل الفرق بين النبي، والرسول.
(1) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842).
وهذا هو التعريف الذي اعتمده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب «النبوات» (1).
إذًا؛ فالإرسال الشرعي فيه هذا التفصيل قال الله تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي)) فأثبت الإرسال للنبي أيضا، فإذا ورد ذكر الأنبياء بإطلاق فإنه يشمل الرسل، وإذا ذكر الرسل بإجمال فإنه يشملهم كلهم.
فإذا جاء ذكر نبي ورسول فلا بد من هذا التفصيل، كما قال الله تعالى:((تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)) وهذا يشمل نوحا ومن بعده، وكذلك قول الله تعالى:((ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض)) يشمل نوحا ومن بعده.
ولذا سمّى الله تعالى أنبياء بني إسرائيل رسلا: ((ولقد أتينا موسى بالكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جائكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم))
فإذا أردنا أن نصنف في ضوء التعريف المختار؛ فنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، وعيسى؛ هؤلاء رسل قص الله علينا أخبارهم مع أممهم.
وزكريا، ويحيى، وداود، سليمان وأيوب أنبياء.
وذهبت المعتزلة أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزات، مثل: عصى موسى، ويده، وغيرهما من الآيات، ومثل: انشقاق القمر لمحمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا باطل؛ فإن من الأنبياء من لم يذكر الله لهم آيات، لكن قال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثلُه آمن عليه البشر)(2) فالنبوة تثبت بغير المعجزات، بأدلة من حال المُدّعي للنبوة، ومن حال ما جاء به، وما يدعوا إليه.
(1) 2/ 714.
(2)
رواه البخاري (4981)، ومسلم (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ففي الصحيحين أن خديجة رضي الله عنها لما جاءها النبي صلى الله عليه وسلم يرجف ويقول: «إني خشيت على نفسي» قالت له: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» . (1)
فاستدلّت على صدقه، وحفظ الله له، ووقايته من شر الشيطان بما هو عليه من الفضائل العظيمة.
وكذلك مما احتُجّ به على النبوة في القرآن أنه صلى الله عليه وسلم عاش بين أهله ولم يُجرب عليه كذب، قال تعالى:((وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقائنا إئت بقرآن غير هذا أو بدِّله قل ما يكون لي أن أبدِّلهُ من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يومٍ عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون))
فإنه نُبِّأ على رأسٍ أربعين سنة من عمره صلى الله عليه وسلم. (2)
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن هرقل استدل على نبوته صلى الله عليه وسلم بما تضمنه جواب المسائل العشر التي سأل عنها أبا سفيان بن حرب. (3)
وعقلاء الناس يفرقون بين النبي الصادق، والمتنبي الكاذب، وإن كان المتنبي يمكن أن يأتي بخوارقَ وشعوذاتٍ، لكن من له عقل حسن لا يلتبس عليه المتنبي الكذّاب بالنبي الصّادق؛ بل يعرف ذلك من ملامحه، (4) ومن سيرته، ومن أقواله، ومن أفعاله، قال تعالى:
(1) رواه البخاري (4953)، ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
رواه البخاري (3547)، ومسلم (2347) من حديث أنس رضي الله عنه.
(3)
البخاري (7)، ومسلم (1773).
(4)
قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
لَو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيَّنَةٌ
…
كانَت بَديهَتُهُ تُنبيكَ بِالخَبَرِ. الإصابة 4/ 75.
((هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفّاكٍ أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون)).
فالصواب: أن النبوة تثبت بأدلةٍ كثيرة، ولا يتوقف إثبات النبوة على مجرد المعجزات.
وتأمل قولَه سبحانه وتعالى: ((وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)) فمن أدلة صدقه صلى الله عليه وسلم إنه جاء بهذا الكتاب العظيم، وهو صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ بل يكتبُ ويقرأ له أصحابُه رضي الله عنهم.
فكونه بهذه المثابة من الصدق، والأمانة، والطهر، والشرف، والفضائل، ولا يقرأ، ولا يكتب، ولا اتصل بأحد يمكن أن يتلقى عنه، ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على صدقه، قال تعالى:((وقالوا لولا أنزل عليه آياتٌ من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذيرٌ مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون)).