الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مذهب أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج]
وقوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعُرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)[النجم: 11]، فـ صلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى).
الإمام الطحاوي رحمه الله في هذا المؤلَف المختصر في مسائل الاعتقاد لم يلتزم بالتنسيق بين المسائل، وضم كل نوع إلى ما يناسبه؛ بل نوَّع؛ فتارة يذكر المسائل المتعلقة بالتوحيد وبأسماء الله وصفاته، والمسائل التي تخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسائل أخرى كثيرة تتصل بالقدر، والملائكة
…
، فتجده يتنقل؛ فمثلا: قال هنا: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم) فالإسراء والمعراج مما يتصل بخصائص نبينا صلى الله عليه وسلم، فَصَلَه المؤلف عما تقدم من كلامه (1) في رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكره من بعض خصائصه.
وأصل كلمة (مِعْرَاج) في اللغة: آلة العروج (2)، والعروج: الصعود، فتقول: عرج إلى السطح وإلى الجبل وإلى السماء، أي: صعد، قال تعالى:((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ)) [المعارج: 4] وفي الحديث: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم)(3) وليس المراد هو إثبات الآلة أو الوسيلة التي
(1) ص 84.
(2)
في القاموس ص 253: المِعْراجُ: السُلَّم والمَصْعَد.
(3)
رواه البخاري (555)، ومسلم (632) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
عرج بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل إثبات عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وإلى حيث شاء الله من العلا، فكأن المصنف يقول: وعروج نبينا صلى الله عليه وسلم إلى ما شاء الله حق؛ لكن صار لفظ (الِمعراج) عَلَم على هذا الأمر.
وقد أشار الله إلى العروج بالنبي صلى الله عليه وسلم في القرآن في سورة النجم: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)) [النجم11 - 14] وقد ثبت في الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته التي خُلِق عليها له ستمائة جناح، مرتين)(1)
والمراد بالإسراء هو: الذهاب بالنبي صلى الله عليه وسلم ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، قال الله تعالى:((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [الإسراء: 1]
وقد جاء ذِكرُ صفات المِعْراج في أحاديث؛ لكن الغالب أنها ليست من الأحاديث المعتمدة، لكن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، والعروج به إلى السماوات هذا أمر معلوم، ومجمع عليه بين أهل السنة، ودلت عليه الأحاديث الصحاح المتواترة (2).
وقد اختلف الناس في حقيقة الإسراء والمعراج ـ مع الاتفاق على ثبوتهما ـ على أي وجه وقع؟
والحق أنه قد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم بروحه وبدنه، وعرج به إلى حيث شاء الله من العلا يقظة لا مناما، ولهذا نص المؤلف على ذلك بقوله:(وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم، وعُرج بشخصه في اليقظة) وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر الأدلة، قال تعالى:((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء: 1] والعبد اسم للروح والبدن.
(1) البخاري (4855)، ومسلم (177).
(2)
نظم المتناثر ص 219، وانظر: تفسير ابن كثير 5/ 6 فقد ساق روايات كثيرة جدا.
وتصدير هذه الآية بالتسبيح دال على عظم الأمر، والإسراء كان بروحه وبدنه يقظة لا مناما؛ فإن الذهاب والانتقال في النوم أمر ليس بمستغرب ولا مستنكر، فهو يحدث لسائر الناس.
ومما يؤكد هذه الحقيقة ما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبر قريشا استعظموا ذلك وكذبوه، وسألوه عن أشياء من بيت المقدس، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ» (1) فهذا كله يؤكد أن الإسراء كان بروحه وبدنه يقظة لا مناما.
وكذلك العروج به إلى ما شاء الله من العلا كان بشخصه صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، فهذا هو الأمر الخارق العظيم أن يقطع هذه المسافات ويعود في ليلة.
وفي حديث الإسراء والمعراج أمور كثيرة، فيها أن جبريل عليه السلام صعد به واستفتح له السماء، ثم فتح له، فلقي الأنبياء: آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وعند كل سماء يستفتح، فكل سماء لها أبواب وحراس من ملائكة الله، وكل ذلك من الغيب، لا نتصوره ولا ندرك حقائقه، فيستفتح جبريل عليه السلام، فيقول له الملك الموكل بباب السماء: من؟ فيقول: جبريل. فيقول: ومن معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم. فيقول: وهل أرسل إليه؟ فيقول: نعم، فيقول: مرحبا ولنِعم المجيء جاء، عند كل سماء يتجاوزها حتى بلغ سدرة المنتهى، وفرض الله عليه الصلوات الخمس. (2)
وقال بعضهم: إنه كان مناما! واحتجوا برواية شريك بن عبد الله ابن أبي نمر: «واستيقظ وهو في المسجد الحرام» (3) ورد ذلك
(1) رواه مسلم (172).
(2)
حديث الإسراء روي في الصحيحين في مواضع من رواية عدد من الصحابة منها: البخاري (3207) ومسلم (164) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.
(3)
البخاري (7517) من روايته عن أنس رضي الله عنه.
المحققون وقالوا: إن هذا وهم من شريك، وقد وهم في هذا الحديث في مواضع عدة. (1)
وهذا قول باطل ليس بشيء، فلو قال الرسول صلى الله عليه وسلم لقريش: إني رأيت في المنام، لم يكذبوه؛ لأنه أمر عادي يحصل لآحاد الناس.
ونُسب إلى عائشة ومعاوية رضي الله عنهما (2) أن الإسراء والمعراج كان بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده. وهو رأي عندي غير مقبول، ويَرِدُ عليه ما يرد على القول بأنه كان مناما، فإذا كان جسده باقيا عندهم فلا يكون بينه وبين رؤيا المنام كبير فرق، وما معنى أن جبريل يأتيه بالبراق، ويحمله عليه ويسير به، ويصلي بالأنبياء؟
فهذا القول فيه نظر، وهو خلاف ظاهر الأدلة.
ومن اختار هذه الأقوال من العلماء أراد أن يوفق بين الروايات فيقول: إن الإسراء كان مرة يقظة ومرة مناما، ومرة في مكة ومرة في المدينة!
وهذا وهنه العلامة ابن القيم، وقال:«هذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع! والصواب الذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، ثم يقول: «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا». (3)
(1) انظر: صحيح مسلم (162)، وزاد المعاد 3/ 42، وتفسير ابن كثير 5/ 7، وفتح الباري 13/ 485.
(2)
ذكره الطبري في تفسيره 14/ 445 ونقضه، وانظر: زاد المعاد 3/ 40.
(3)
زاد المعاد3/ 42.
فالصواب: أن الإسراء والمعراج حدث مرة واحدة والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وقد اتفق أهل العلم: أن الصلوات الخمس قد فرضت عليه وهو في مكة قبل الهجرة، والمشهور أن ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل: بأقل، وقيل: بأكثر. (1)
وفي قصة الإسراء والمعراج الدلالة على عظم شأن الصلاة حيث فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم بلا واسطة وفرضت عليه وهو في أعلى المقامات فوق السماوات.
وفي قصة الإسراء والمعراج دلالة على علو الله تعالى على خلقه، فإنه عرج به إلى ربه، كما قال تعالى:((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ)) [المعارج: 4] الملائكة والأرواح تعرج إلى الله؛ لأنه في العلو.
وفيها إثبات صفة الكلام والتكليم لله تعالى، وتكليمه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلا واسطة.
وفي ذلك فضيلة لنبينا صلى الله عليه وسلم حيث أكرمه الله ورفعه على سائر النبيين والمرسلين، حتى تجاوز كل الأنبياء، حتى إبراهيم عليه السلام لقيه في السماء السابعة وتجاوز إلى مكان فوق ذلك يسمع فيه صريف الأقلام. (2)
سبحان الله مع هذه الأبعاد العظيمة يتم هذا في ليلة، هذا أمر خارق، ولا تقل: كيف؟
الآن أتَى الله للناس بشيء ما كان يخطر ببالهم، هذا الصوت الآن في أقصى الدنيا، يقول لك: السلام عليكم، فتقول: وعليكم السلام، فتسمعه وترد عليه، والذين يصعدون في المراكب الفضائية أيضًا مع البعد العظيم الذي تنتهي إليه تلك المراكب، يتكلمون مع من يكلمهم
(1) التمهيد 8/ 48.
(2)
رواه البخاري (349)، ومسلم (163) من حديث ابن عباس وأبي حَبَّة الأنصاري رضي الله عنهما.
في الأرض، ويصل الصوت في نفس الوقت، فهذا مثال أصغر للحدث العظيم حدث الإسراء والمعراج، سبحان الله! هذه أمثلة وآيات لعلها تدخل في عموم:((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت: 53].
وأي أمر تستعظمه مما أخبرت به الرسل فرده إلى كمال القدرة يسهل عليك جدًا، ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة: 20] ومتى استبعد الإنسانُ شيئًا من ذلك، فذلك لنقص إيمانه بكمال قدرة الرب تعالى وتقدس، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمَاً قَدِيرَاً)) [فاطر: 44]