الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الإيمان بالبعث والجزاء]
وقوله: (ونؤمن بالبعثِ وجزاءِ الأعمالِ يومَ القيامةِ).
كل هذه المعاني والمسائل مندرجة في الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث مما أجمع عليه أهلُ الملل الثلاث: المسلمون واليهود والنصارى، ومما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وليس فيه اختلاف بين فرق الأمة.
ولا ينكر بعث الأجساد إلا الفلاسفة الملاحدة (1)، ومنهم من دخل في الإسلام وادعى ذلك على الشريعة، كابن سينا (2)، يقول: إن البعث والجزاء روحاني لا جسماني، فأنكر معاد الأجساد، فجعلوا ما جاء في النصوص أمورا روحانية، وهذا إنكار مع تلبيس.
ويوم القيامة اسمه يوم البعث؛ لأن فيه البعث، ويوم الجمع؛ لأن الله يجمع الأولين والآخرين للحساب.
وسبق الكلام على أدلة البعث عند قول الطحاوي: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر)(3).
ومن الأقوال الباطلة المعروفة عن المتكلمين قولهم: إن البعث يكون بجمع تلك الأجزاء، وهذا يرجع إلى مقولة معروفة هي: إن
(1) درء تعارض العقل والنقل 5/ 250، والجواب الصحيح 3/ 281، ومجموع الفتاوى 4/ 283 و 314، والصواعق المرسلة 4/ 1209.
(2)
درء تعارض العقل والنقل1/ 8 و 10/ 59، وسير أعلام النبلاء 17/ 531، والكافية الشافية ص 108.
(3)
ص 240.
الأجسام مركبة من جواهر مفردة، والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ، وهم منازعون في دعوى وجود الجوهر الفرد.
والتحقيق أنه ما من جزء إلا ويتجزأ حتى يبلغ إلى غاية صغيرة فيستحيل أو يعدم، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله (1).
فهؤلاء القائلون بنظرية الجوهر الفرد يقولون: إن البعث يكون بجمع تلك الجزيئات: فإذا مات الميت وتفرقت جزيئاته فيكون البعث بجمع تلك الجزيئات.
وهذا باطل؛ فإن الأجسام تستحيل وتتغير وتتحول من طبيعة إلى طبيعة، ثم يقال: إنه لو كان البعث بجمع تلك الجزيئات على فرض صحة الدعوى؛ للزم أن يكون كل إنسان يبعث على هيئته التي كان عليها، الكبير الهرم على هيئته، والصغير كذلك، وهذا مخالف للنصوص التي بيَّن الله تعالى فيها أنه يعيد ما تفرق واستحال، ثم ينشئها سبحانه وتعالى كما يشاء نشأة أخرى:((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى)) [النجم: 42 - 47]، وقال تعالى:((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الواقعة: 58 - 61] ننشئكم نشأة لا تعلمونها ولا تتخيلونها.
وقد ثبت في النصوص ذكر خلقة من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وأن أجسامهم تكون ليست على هيئة أجسام الناس في هذه الدنيا؛ بل تختلف اختلافا كبيرا (2)، ينشئها الله نشأة أخرى تليق بالحياة الآخرة
(1) مجموع الفتاوى 16/ 270، و 17/ 246، ومنهاج السنة 1/ 212 و 2/ 139 و 210.
(2)
في صحيح البخاري (6551)، ومسلم (2852) عن النبي صلى الله عليه وسلم:«ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع» ، وفي صحيح البخاري (3326)، ومسلم (2841) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا
…
فكل من يدخل الجنة على صورة آدم».
عذابها ونعيمها، وليس البعث إيجادًا من عدم؛ بل البعث إعادة، وهذا هو الذي أنكره الكفار، فإنهم لا ينكرون أن الله يخلق مثلما خلق، فهم يشاهدون أن الله يخلق الأجيال، إنما ينكرون أن يعيد الله ما استحال من أبدانهم وتفرق من أجسادهم أن يعيده:((أَإِذَا كُنَّا تُرَابَاً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [الرعد: 5]، ((وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامَاً وَرُفَاتَاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقَاً جَدِيدَاً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدَاً * أَوْ خَلْقَاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الإسراء: 49 - 51] الآيات، ((بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [ق: 15]، ولهذا أنكر العلماء على جهم بن صفوان ومن وافقه بأن المعاد هو أن يخلق الله الخلق خلقا جديدا ليس بإعادة، يقول ابن القيم ـ في فصل طويل في الشافية الكافية (1) عن جهم ومقالاته ـ:
وَقَضَى بِأنَّ اللهَ يَجعَلُ خَلقَهُ
…
عَدَماً ويقلِبُهُ وُجُوداً ثَاني
العَرشُ والكُرسِيُّ والأرواحُ والـ
…
أملاكُ والأفلاكُ والقَمَرَانِ
والأرضُ والبَحرُ المحيطُ وسائِرُ الـ
…
أكوَانِ مِن عَرَضٍ وَمِن جُثمَانِ
كُلٌّ سَيُفنِيهِ الفنَاءَ المَحضَ لا
…
يَبقَى لَهُ أثَرٌ كَظِلٍّ فَانِ
ويُعِيدُ ذَا المَعدُومَ أيضاً ثانياً
…
مَحضَ الوجودِ إعَادَةً بِزَمَانِ
هذا المعادُ وَذلِكَ المَبدَا لَدَى
…
جَهمٍ وقد نَسَبُوه للقرآنِ
هَذا الذِي قَأدَ ابنَ سينَا والأُلَى
…
قَالُوا مَقَالَتَه إلى الكُفرَانِ
لَم تَقبَلِ الأذهانُ ذَا وتَوهَّمُوا
…
أنَّ الرَّسُولَ عَنَاهُ بِالإِيمانِ
هَذا كِتابُ اللهِ أنَّى قَالَ ذَا؟
…
أو عَبدُهُ المبعُوث بالبُرهَان؟
ولهذا جعل الله من حجته على المكذبين أن الإعادة في نظر الإنسان وبالنسبة لقدرة الإنسان أهون من الابتداء، ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [ق: 15]، ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلَاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ
(1) ص 23.
يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) [يس: 78 - 79] وهذا أحد أدلة البعث التي فيها الرد على المكذبين، وقد تقدم ذكرها. (1)
وقوله: (وجزاء الأعمال يوم القيامة).
مما يجب الإيمان به الجزاء، والجزاء هو الغاية من البعث والنشور، ليجد كل عامل عمله، قال تعالى:((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً)) [آل عمران: 30]، ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)) [النجم: 31]؛ بل هذا من حكمة الله في خلق السماوات والأرض، قال تعالى:((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) [الجاثية: 22]، وذكر الجزاء في القرآن كثير جدا، وجاء بلفظ الدين، قال تعالى:((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) [الفاتحة: 3]، ((يَصلونها مَا يَوْمُ الدِّينِ)) [الانفطار: 16]، ((الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)) [المطففين: 11]، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6].
وهذا الجزاء ذكر الله تعالى تفصيله: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) [الأنعام: 160]، ((فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16]، ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54]، ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47]، ((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتَاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)) [الزلزلة: 6] أي: جزاء أعمالهم ثوابا وعقابا، ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ)) [الزلزلة: 7 - 8].
(1) ص 52، 240.
وهذا الجزاء يتضمن الثواب على الأعمال الصالحة، والعقاب على ضدها من الكفر والفسوق والعصيان، ومن الجزاء الاقتصاص للمظلوم من الظالم، وبهذا تتحقق حكمة الرب وعدله سبحانه وتعالى، فالناس في هذه الدنيا يقع من بعضهم عدوان وظلم على بعض، وكثير من المظلومين يموت وهو لم يستوف حقه، أو يموت الظالم ولم يؤخذ منه الحق، فجعل الله للخلق يوما يجمع فيه الأولين والآخرين.
وجزاء الإيمان والحسنات مبني على الفضل والزيادة والمضاعفة، وجزاء السيئات مبني على العدل، قال تعالى:((مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [القصص: 84]، وفي الآية الأخرى:((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) [الأنعام: 160]، ولا يعذب أحد بذنب غيره يقول تعالى:((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) [الأنعام: 164] والله تعالى ينبه إلى أن دخول أهل الجنةِ الجنةَ بسبب أعمالهم ((جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [السجدة: 17] و (الباء) سببية، فالإيمان والعمل الصالح سبب دخول الجنة، والكفر والمعاصي سبب دخول النار ((جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [التوبة: 95]، وتفصيل هذا في القرآن كثير جدا.