الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الواجب في الألفاظ المحدثة في صفاته تعالى]
وقوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات).
كلمة (تعالى) تفيد التنزيه، وجاءت في القرآن في مواضع:(سبحانه وتعالى)[الأنعام: 100]، ((تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63]، وهي من جنس ((سُبْحَانَهُ)) و ((تَبَارَكَ)) [الأعراف: 54] فكلها ألفاظ تفيد التنزيه.
(تعالى) تنزه وتقدس، وهذه الألفاظ التي استعملها الإمام الطحاوي ـ عفا الله عنا وعنه ـ لم ترد في كتاب ولا سنة، فليس في شيء من النصوص هذا النوع من النفي، فليته لم يأت بهذه العبارات التي هي من جنس عبارات أهل البدع؛ فإنهم يأتون بألفاظ محدثة ومجملة، والقاعدة في الألفاظ المحدثة المجملة: التوقف عن الحكم على قائلها أو عليها إلا بعد الاستفصال؛ فإن أراد منها حقًا قبلنا ما أراد، وإن أراد باطلا؛ رددنا الباطل، وإن أراد حقا وباطلا؛ وقفنا اللفظ، وقبلنا الحق، ورددنا الباطل. (1)
وهذا الموقف هو موقف العدل والإنصاف، فإن الموافقة على مثل ذلك يؤدي إلى الوقوع في الباطل وموافقة المبطل، والمبادرة بالرد يؤدي
(1) التدمرية ص 204، ومجموع الفتاوى 3/ 347، و 5/ 305، و 12/ 114، ومنهاج السنة 2/ 217 و 554، ودرء تعارض العقل 1/ 76 و 238.
إلى رد الحق؛ لأن المتكلم بذلك قد يريد حقا، فكان التوقف والاستفصال فيه مخرج من التورط برد الحق، أو الموافقة على الباطل، هذه قاعدة مقررة معروفة، وهي منهج من مناهج الجدل والمناظرة.
ونأتي لهذه الكلمات: (تعالى عن الحدود) هذا لفظ مجمل، والحد يطلق ويراد به تحديد الماهية، مثل الحد عند المناطقة، أي: التعريف الذي يتضمن تحديد كنه الشيء وماهيته؛ فإن أريد هذا فهو ممتنع، إذ لا سبيل إلى تحديد الرب تعالى وذكر حقيقته، فتعالى عن أن يحده الحادون، وأن يصلوا إلى معرفة كنهه وحقيقته، قال شيخ الإسلام:«أهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها» (1)، فهذا المعنى حق، تعالى الله عن أن يدرك أحد حقيقة ذاته أو حقيقة صفاته.
ويأتي لفظ (الحد) ويراد به أنه سبحانه وتعالى ليس ساريا في العالم حالا في المخلوقات؛ بل هو فوق سماواته، وهذا المعنى جاء عن الإمام ابن المبارك، لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: «بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد» (2)
وقوله: (والغايات) الغاية تطلق ويراد بها النهاية، وتطلق ويراد بها المقصود من الفعل، أي: الحكمة منه، فإذا أريد أن الله تعالى منزه عن أن تكون له غايات في أفعاله؛ فهذا باطل؛ لأن الله له الحكمة البالغة في خلقه وفي شرعه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في التدمرية (3):«والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته ـ وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة ـ تدل على حكمته البالغة» .
(1) التدمرية ص 179.
(2)
نقض عثمان بن سعيد ص 57 والرد على الجهمية ص 48، والسنة لعبد الله بن أحمد 1/ 174، والإبانة 3/ 158، وانظر: بيان تلبيس الجهمية3/ 42.
(3)
ص 123.
ومن العلل والحكم ما علمناه بالنص عليه في الكتاب أو السنة، ومنها ما يُهتدى إليه بالتدبُّر والتفكر، ومنها ما طوى الله علمه عن عباده؛ فالعباد لا يحيطون بحكمته تعالى. (1)
وكذلك إذا أريد بنفي الغايات: نفي أن يكون الله في السماء فوق العرش؛ وأنه في كل مكان، كقول الجهمية الحلولية.
فنفي الغايات من النفي المحدث لمعان أو ألفاظ مجملة.
وقوله: (والأركان والأعضاء والأدوات) لا حول ولا قوة إلا بالله! عفا الله عن المؤلف وغفر الله لنا وله! ماذا يريد بالأركان والأعضاء والأدوات؟! لقد كان في غنى عن هذا الكلام، أين الآية أو الحديث الذي فيه هذا الألفاظ؟
الأركان: الجوانب، والأعضاء التي في الإنسان والحيوان هي أجزاؤه التي يمكن أن تتبعض والمخلوق يتبعض، فالإنسان يتجزأ، وأجزاؤه يقال لها: أعضاء؛ لأنه يمكن انفصالها.
فنفي الأعضاء بمعنى تعالى أنه منزه عن التجزؤ، حق فالله منزه عن التجزؤ، فهو تعالى أحد صمد؛ لكن هذا التعبير المحدَث يمكن أن يفهم منه المبطل نفي بعض الصفات؛ لأن قوله:(والأعضاء) يحتمل نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه والعينين واليدين، فيقول المبطل: هذه أعضاء، فننفي الأعضاء، وهذا باطل، ونرجو أن المؤلف لم يرد هذا، وإنما أراد نفي ما يحصل ما به مماثلة المخلوق للخالق، لاسيما أنه قال:(موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية) فهو في مقام تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات.
(1) وانظر: ص 80 عند قوله: وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله.
وقوله: (لا تحويه الجهات الست).
الجهات الست: فوق وتحت، وأمام وخلف، ويمين وشمال. والمبدعات: المخلوقات.
وهذه ـ أيضا ـ من الألفاظ المجملة؛ فنفي الجهة عن الله لفظ مجمل مبتدع، ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة صلى الله عليه وسلم؛ أن الله ليس في جهة؛ بل النصوص مصرحة بأنه تعالى فوق:((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام: 18]((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك: 16] فهو سبحانه في العلو، ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه: 5] والعرش فوق المخلوقات، والله فوق العرش.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «لفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقًا، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السماوات. وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم» . (1)
فإذا أُريد بالجهة ما وراء العالم فالنافي للجهة مبطل، إذ ليس وراء العالم شيء مخلوق؛ بل وليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى.
وإذا أريد بالجهة شيء مخلوق، مثل أن يراد بالجهة نفس السماء أو العرش، وأن الرب سبحانه حال في ذلك؛ فالنافي لهذا محق والمثبت له مبطل.
فإذا أريد بكلمة (الجهات) أشياء موجودة مخلوقة؛ فالله منزه من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ بل هو تعالى أعظم وأكبر من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ لأنه تعالى العظيم الذي لا أعظم منه فهو الذي ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) [البقرة: 255]، وهو الذي ((يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا)) [فاطر: 41] {والْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
(1) التدمرية ص 205، وانظر: منهاج السنة 2/ 321 و 558 و 648، وبيان تلبيس الجهمية 3/ 305، ودرء تعارض العقل 5/ 58 و 7/ 15.
وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] لا يحيط به شيء من الجهات؛ لكنه في العلو فوق جميع المخلوقات، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في المخلوقات شيء من ذاته.
وقد وقف الشارح ابن أبي العز رحمه الله في هذا الموضع (1)، وتكلم على هذه الألفاظ، فجزاه الله خيرا على ما فعل، وقد أحسن كثيرا بهذا الشرح، الذي لزم فيه منهج أهل السنة.
(1) ص 260.