الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ الطَّرِيقُ الَّذِي تَثْبُتُ الْعَدَالَةُ بِهِ]
ِ] وَإِذَا عَرَفْت أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ، فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقِهَا. فَنَقُولُ: تَثْبُتُ عَدَالَةُ الرَّاوِي بِالِاخْتِبَارِ أَوْ التَّزْكِيَةِ. أَمَّا الِاخْتِبَارُ فَهُوَ الْأَصْلُ، إذْ التَّزْكِيَةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ أَحْوَالِهِ، وَاخْتِبَارِ سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ بِطُولِ الصُّحْبَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ سَفَرًا وَحَضَرًا وَالْمُعَامَلَةِ مَعَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ مُوَافَقَةِ الصَّغِيرَةِ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يُعْثَرْ مِنْهُ عَلَى كَبِيرَةٍ تُهَوِّنُ عَلَى مُرْتَكِبِهَا الْأَكَاذِيبَ وَافْتِعَالَ الْأَحَادِيثِ وَلَا تُسْقِطُ الثِّقَةَ. وَأَمَّا التَّزْكِيَةُ فَبِأُمُورٍ: مِنْهَا تَنْصِيصُ عَدْلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ كَالشَّهَادَةِ، وَأَعْلَاهُ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ مَعَهُ، وَهُوَ تَعْدِيلٌ بِاتِّفَاقٍ. وَدُونَهُ أَنْ لَا يَذْكُرَهُ، وَإِنَّمَا انْحَطَّ عَمَّا قَبْلَهُ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ عَلَى قَوْلٍ، وَيَكْفِي أَنْ يَقُولَ: هُوَ عَدْلٌ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ لِي، وَعَلَيَّ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَهَذَا تَأْكِيدٌ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: عِنْدَنَا لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ: عَدْلٌ مَرْضِيٌّ، وَلَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِمَا، وَهَلْ تَثْبُتُ بِوَاحِدٍ؟ فِيهِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: لَا، لِاسْتِوَاءِ الشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: هُوَ قِيَاسُ مَذْهَبِ مَالِكٍ.
وَالثَّانِي: الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي لِأَنَّهَا نِهَايَةُ الْخَبَرِ. قَالَ الْقَاضِي: وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْقِيَاسُ وُجُوبُ قَبُولِ تَزْكِيَةِ كُلِّ عَدْلٍ مَرْضِيٍّ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ لِشَاهِدٍ وَمُخْبِرٍ. وَالثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ فِيهَا اثْنَانِ، وَالرِّوَايَةُ يُكْتَفَى فِيهَا
بِوَاحِدٍ، كَمَا يُكْتَفَى بِهِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَا يَزِيدُ عَلَى الْأَصْلِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَنَقَلَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي اخْتَارَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِ الْخَبَرِ، فَلَا تُشْتَرَطُ فِي جَرْحِ رِوَايَتِهِمْ وَتَعْدِيلِهِمْ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَحَاصِلُ الْخِلَافِ كَمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ أَنَّ تَعْدِيلَ الرَّاوِي: هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ أَوْ مَجْرَى الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى غَائِبٍ؟ قَالَا: وَفِي جَوَازِ كَوْنِ الْمُحَدِّثِ أَحَدَهُمَا وَجْهَانِ، كَمَا لَوْ عُدِلَ بِشُهُودِ الْأَصْلِ، وَجَعَلَا الْخِلَافَ السَّابِقَ فِي التَّعْدِيلِ، وَجَزَمَا فِي الْجَرْحِ بِالتَّعَدُّدِ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى بَاطِنٍ مَغِيبٍ، وَأَجْرَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ الْخِلَافَ فِيهِ كَالتَّعْدِيلِ بِوَاحِدٍ.
[تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ] وَحَيْثُ اكْتَفَيْنَا بِتَعْدِيلِ الْوَاحِدِ، فَأُطْلِقَ فِي الْمَحْصُولِ قَبُولُ تَزْكِيَةِ الْمَرْأَةِ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ النِّسَاءُ فِي التَّعْدِيلِ، لَا فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الرِّوَايَةِ، ثُمَّ اخْتَارَ قَبُولَ قَوْلِهَا فِيهِمَا، كَمَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهَا، وَشَهَادَتُهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ. وَأَمَّا تَزْكِيَةُ الْعَبْدِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ قَبُولُهَا فِي الْخَبَرِ دُونَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ خَبَرَهُ مَقْبُولٌ، وَشَهَادَتَهُ مَرْدُودَةٌ. وَبِهِ جَزَمَ صَاحِبُ الْمَحْصُولِ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَالْأَصْلُ فِي هَذَا سُؤَالُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ عَنْ حَالِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَجَوَابُهَا لَهُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَحْكُمَ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ. قَالَهُ الْقَاضِي وَالْإِمَامُ وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ تَزْكِيَتِهِ بِاللَّفْظِ، وَحَكَى الْهِنْدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِشَهَادَتِهِ إلَّا وَهُوَ عَدْلٌ عِنْدَهُ. قَالَ: وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَهُ، وَقَيَّدَهُ الْآمِدِيُّ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَرَى قَبُولَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يَكْذِبُ. وَهُوَ قَيْدٌ صَحِيحٌ يَأْتِي فِي الْعَمَلِ بِخَبَرِهِ، وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهَذَا قَوِيٌّ إذَا مَنَعْنَا حُكْمَ الْحَاكِمِ بِعِلْمِهِ، أَمَّا إذَا أَجَزْنَا، فَعِلْمُهُ بِالشَّهَادَةِ ظَاهِرًا يَقُومُ مَعَهُ احْتِمَالٌ أَنَّهُ حُكْمٌ بِعِلْمِهِ بَاطِنًا. قُلْت: وَحِينَئِذٍ يُتَّجَهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّهُ حُكْمٌ بِشَهَادَتِهِ، فَتَعْدِيلٌ، وَأَنْ لَا يَعْلَمَهُ فَلَا، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَبْدَرِيُّ، شَارِحُ الْمُسْتَصْفَى ".
وَمِنْهَا: الِاسْتِفَاضَةُ، فَمَنْ اُشْتُهِرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ اُسْتُغْنِيَ بِذَلِكَ عَنْ تَعْدِيلِهِ قَضَاءً. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَهُ مِنْ الْمُحَدِّثِينَ: الْخَطِيبُ، وَنَقَلَهُ مَالِكٌ وَشُعْبَةَ وَالسُّفْيَانَانِ، وَأَحْمَدُ، وَابْنُ مَعِينٍ، وَابْنُ الْمَدِينِيِّ وَغَيْرُهُمْ. فَلَا يُسْأَلُ عَنْهُمْ، وَقَدْ سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ: مِثْلُ إِسْحَاقَ يُسْأَلُ عَنْهُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الشَّاهِدُ وَالْمُخْبِرُ يَحْتَاجَانِ إلَى التَّزْكِيَةِ مَتَى لَمْ يَكُونَا مَشْهُورَيْنِ بِالْعَدَالَةِ وَالرِّضَا، وَكَانَ أَمْرُهُمَا مُشْكِلًا مُلْتَبِسًا وَيَجُوزُ فِيهِ. الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ مِنْ الِاسْتِفَاضَةِ أَقْوَى مِنْ تَعْدِيلِ وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْكَذِبُ وَالْمُحَابَاةُ فِي تَعْدِيلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كُلُّ حَامِلِ عِلْمٍ مَعْرُوفٌ بِالْعِنَايَةِ بِهِ فَهُوَ عَدْلٌ مَحْمُولٌ فِي أَمْرِهِ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ جَرْحُهُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلْفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ» ، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمَغَارِبَةِ، وَهَذَا أَوْرَدَهُ الْعُقَيْلِيُّ فِي ضُعَفَائِهِ " مِنْ جِهَةِ مُعَافَى بْنِ رِفَاعَةَ السُّلَامِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعُذُرِيِّ، وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهِ وَهُوَ مُرْسَلٌ أَوْ مُعْضَلٌ، ضَعِيفٌ وَإِبْرَاهِيمُ الَّذِي أَرْسَلَهُ قَالَ فِيهِ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا نَعْرِفُهُ أَلْبَتَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِلْمِ غَيْرَ هَذَا، لَكِنْ فِي كِتَابِ " الْعِلَلِ " لِلْخَلَّالِ، سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقِيلَ لَهُ: كَمَا تَرَى إنَّهُ مَوْضُوعٌ. فَقَالَ: لَا، هُوَ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَفِيمَا قَالَهُ اتِّسَاعٌ غَيْرُ مَرْضِيٍّ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُعْمَلَ بِخَبَرِهِ إذَا تَحَقَّقَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ ذَلِكَ الْخَبَرُ، وَلَمْ يَكُنْ عَمَلُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ، فَهُوَ تَعْدِيلٌ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ فِيهِ الِاتِّفَاقَ، وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ، فَقَدْ حَكَى الْخِلَافَ فِيهِ الْقَاضِي
فِي " التَّقْرِيبِ "، وَالْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ". وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ: فِيهِ أَقْوَالٌ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَعْدِيلٌ لَهُ. وَالثَّانِي: لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. وَالثَّالِثُ: قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ إنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَوَافَقَ عَمَلَهُ مِنْ حَيْثُ الْخَبَرُ الَّذِي رَوَاهُ، فَعَمَلُهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ، وَإِنْ بَانَ بِقَوْلِهِ أَوْ بِقَرِينَةٍ إنَّمَا عُمِلَ بِالْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ وَلَمْ يُعْمَلْ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَسَائِلِ الِاحْتِيَاطِ فَهُوَ تَعْدِيلٌ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا: عَمَلٌ بِالْخَبَرِ، وَبَيْنَ قَوْلِنَا: عَمَلٌ بِمُوجِبِ الْخَبَرِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسْتَنَدُهُ. وَالثَّانِيَ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ لِدَلِيلٍ غَيْرِهِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ حَمْلُ عَمَلِهِ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَهُوَ كَالتَّعْدِيلِ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ الثِّقَةَ.
وَكَذَا قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: إنْ كَانَ الَّذِي عُمِلَ بِهِ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ الَّتِي يَخْرُجُ الْمُتَحَلِّي بِهَا عَنْ سِمَةِ الْعَدَالَةِ لَمْ يَكُنْ تَعْدِيلًا، وَإِلَّا كَانَ تَعْدِيلًا عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ. قَالَ: هَذَا كُلُّهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ مَا عُمِلَ بِهِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَقَدْ يَنْقَدِحُ فِي خَاطِرِ الْفَقِيهِ، أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُتَوَصَّلْ إلَيْهِ بِقِيَاسٍ أَوْ ظَاهِرٍ أَمْكَنَ أَنَّهُ عَمَلٌ بِرِوَايَةِ غَيْرِهِ لِهَذَا الْحَدِيثِ لَا مِنْ رِوَايَتِهِ، وَيُتَّجَهُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَنْهُ رِوَايَةٌ فَلَا مَحْمَلَ لَهُ إلَّا رِوَايَتُهُ قَالَ: وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا قَبُولُ الْمُرْسَلِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: شَرَطَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْعَمَلُ مِمَّا
لَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ، حَتَّى يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي احْتَاطَ لِلْعَمَلِ، بِأَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ. قَالَ: وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ لِقَوْلِنَا أَوَّلًا، إذَا عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا عُدِلَ عَنْ الْحَدِيثِ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ ضَرْبٌ مِنْهُ، وَفَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ أَنْ يُعْمَلَ بِذَلِكَ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، فَلَا يُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ يُتَسَامَحُ فِيهِ بِالضَّعْفِ، أَوْ غَيْرِهِمَا فَيَكُونُ تَعْدِيلًا، وَهُوَ حَسَنٌ. وَأَمَّا تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا رَوَاهُ، فَهَلْ يَكُونُ جَرْحًا؟ قَالَ الْقَاضِي: إنْ تَحَقَّقَ تَرْكُهُ لِلْعَمَلِ بِالْخَبَرِ مَعَ ارْتِفَاعِ الدَّوَافِعِ وَالْمَوَانِعِ، وَتَقَرَّرَ عِنْدَنَا تَرْكُهُ مُوجَبَ الْخَبَرِ مَعَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَلَزِمَ الْعَمَلُ بِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جَرْحًا. وَإِنْ كَانَ مَضْمُونُ الْخَبَرِ مِمَّا يَسُوغُ تَرْكُهُ، وَلَمْ يُتَبَيَّنْ قَصْدُهُ إلَى مُخَالَفَةِ الْخَبَرِ، فَلَا يَكُونُ جَرْحًا، كَمَا لَوْ عَمِلَ بِالْخَبَرِ وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِخَبَرٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ.
وَمِنْهَا أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ مَنْ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ الْعَدْلِ، كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانِ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ تَعْدِيلًا، عَلَى الْمُخْتَارِ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ، وَالْغَزَالِيِّ، وَالْآمِدِيِّ، وَالْهِنْدِيِّ، وَالْبَاجِيِّ وَغَيْرِهِمْ لِشَهَادَةِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْحُذَّاقِ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: لَا حَاجَةَ لِبَيَانِ سَبَبِ التَّعْدِيلِ، فَإِنْ رَوَى عَنْهُ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الرِّوَايَةَ عَنْ الْعَدْلِ، فَلَيْسَ بِتَعْدِيلٍ. لِأَنَّا رَأَيْنَاهُمْ يَرْوُونَ عَنْ أَقْوَامٍ، وَيَجْرَحُونَهُمْ لَوْ سُئِلُوا عَنْهُمْ.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: نَعَمْ، هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ النَّظَرُ فِي الطَّرِيقِ الَّتِي مِنْهَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِتَصْرِيحِهِ فَهُوَ أَقْصَى الدَّرَجَاتِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِنَا بِحَالِهِ فِي الرِّوَايَةِ، وَنَظَرْنَا إلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ مَنْ عَرَفْنَاهُ إلَّا عَنْ عَدْلٍ، فَهَذَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْأُولَى. وَهَلْ يُكْتَفَى بِذَلِكَ فِي قَبُولِ رِوَايَتِهِ عَمَّنْ لَا نَعْرِفُهُ؟ فِيهِ وَقْفَةٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ قَارَبَ زَمَانُنَا زَمَانَهُ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ. اهـ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يُعْرَفُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِهِ صَرِيحًا، أَوْ عَرَفْنَاهُ بِالْقَرَائِنِ الْكَاشِفَةِ عَنْ سِيرَتِهِ. قَالَ: وَجَرَتْ عَادَةُ الْمُحَدِّثِينَ فِي التَّعْدِيلِ أَنْ يَقُولُوا: فُلَانٌ عَدْلٌ، رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ، أَوْ الزُّهْرِيُّ، أَوْ هُوَ مِنْ رِجَالِ الْمُوَطَّإِ، أَوْ مِنْ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ. وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّهُ إنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَنْ الْعَدْلِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَتْ رِوَايَتُهُ تَعْدِيلًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ، فَإِنَّ مِنْ الْمُمْكِنِ رِوَايَتَهُ عَنْ رَجُلٍ لَمْ يُعْتَقَدْ عَدَالَتُهُ، حَتَّى إذَا اسْتَقْرَى أَحْوَالَهُ، وَعَرَفَ عَدَالَتَهُ بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يَظْهَرُ بِذَلِكَ عَدَالَةُ الْمَرْوِيِّ عَنْهُ، وَإِنْ اطَّرَدَتْ عَادَتُهُ بِالرِّوَايَةِ عَمَّنْ عَدَّلَهُ، وَلَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِهِ أَصْلًا، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ مَذْهَبُهُ فِي التَّعْدِيلِ، فَلَا يَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِالتَّعْدِيلِ لَمْ يُقْبَلْ، فَكَيْفَ إذَا رُوِيَ، وَإِنْ عَلِمْنَا مَذْهَبَهُ فِي التَّعْدِيلِ، وَلَمْ يَكُنْ مُوَافِقًا لِمَذْهَبِنَا، لَمْ يُعْتَمَدْ تَعْدِيلُهُ وَرِوَايَتُهُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا عُمِلَ بِهِ. اهـ.
وَقِيلَ: الرِّوَايَةُ تَعْدِيلٌ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ غَيْرَ عَدْلٍ لَكَانَ رِوَايَتُهُ عَنْهُ مَعَ السُّكُوتِ عَبَثًا. وَظَاهِرُ الْعَدْلِ التَّقِيِّ الِاحْتِرَازُ عَنْ ذَلِكَ، حَكَاهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ لَا يَعْلَمُهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا جَرْحٍ، وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَابْنُ فُورَكٍ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ فِي هَذَا، وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ بِالْعَدَالَةِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ عَلَى الْعَدَالَةِ، حَتَّى يُعْلَمَ خِلَافُهَا، قَالَا: وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عَدْلًا، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لَيْسَ بِعَدْلٍ، وَقِيلَ: لَيْسَ بِتَعْدِيلٍ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ تَرْكَهَا لَيْسَ بِجَرْحٍ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ، وَحُكِيَ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ. قَالَ: وَالْأَقْرَبُ فِيهِ رِوَايَةُ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَنْهُ، أَوْ رِوَايَةُ الْعُدُولِ الْكَثِيرِ فِي أَنَّهَا غَيْرُ تَعْدِيلٍ لَهُ. قُلْت: وَيَخْرُجُ مِنْ تَصَرُّفِ الْبَزَّارِ فِي مُسْنَدِهِ " التَّعْدِيلُ إذَا رَوَى عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ الْعُدُولِ، فَوَجَبَ إثْبَاتُ قَوْلٍ بِالتَّفْصِيلِ.
فَائِدَةٌ: [الْمُحَدِّثُونَ الَّذِينَ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ عُدُولٍ] ذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ الَّذِينَ عَادَتُهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ عُدُولٍ ثَلَاثَةٌ: شُعْبَةُ، وَمَالِكٌ، وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَذَكَرَ الْخَطِيبُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ ذَلِكَ، وَذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَزَادَ عَلَيْهِ: مَالِكٌ، وَيَحْيَى. قَالَ: وَقَدْ يُوجَدُ فِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ الرِّوَايَةُ عَنْ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ لِخَفَاءِ حَالِهِ، كَرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي الْمُخَارِقِ.