الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَهْلِ الظَّاهِرِ وَحَكَى الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ " قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ مَا سِوَاهَا. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى حُصُولِ الثِّقَةِ بِالْخَبَرِ، وَهِيَ هَاهُنَا حَاصِلَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ سَمَاعُ الشَّيْخِ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَلَقِّي مِنْهُ سَمَاعُهُ، وَسَوَّغَ لَهُ إسْنَادَ مَسْمُوعَاتِهِ إلَى أَخْبَارِهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُعَلِّقَ الْأَخْبَارَ بِهَا جُمْلَةً أَوْ تَفْصِيلًا، وَأَمَّا الرِّوَايَةُ، فَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ الِاتِّفَاقَ، وَلَكِنْ فِيهِ مَذَاهِبُ.
[مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ]
[مَذَاهِبُ الْعُلَمَاءِ فِي الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ] أَحَدُهَا: الْمَنْعُ، وَبِهِ قَالَ شُعْبَةُ، وَقَالَ لَوْ صَحَّتْ الْإِجَازَةُ لَبَطَلَتْ الرِّحْلَةُ، وَأَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيَّ، وَقَالَ: لَوْ صَحَّتْ لَذَهَبَ الْعِلْمُ، وَإِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ الْأَصْفَهَانِيُّ. وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ مِنَّا، وَأَبُو طَاهِرٍ الدَّبَّاسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَقَالَ: مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَكْذِبَ عَلَيَّ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". وَقَالَ: إنَّهَا بِدْعَةٌ غَيْرُ جَائِزَةٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: تَقْدِيرُ أَجَزْت لَك أَبَحْتُ لَك مَا لَا يَجُوزُ فِي الشَّرْعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يُبِيحُ رِوَايَةَ مَا لَمْ يَسْمَعْ. وَحَكَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: لَا أَرَى هَذَا يَجُوزُ، وَلَا يُعْجِبُنِي، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، يَعْنِي؛ لِأَنَّ
الرَّبِيعُ قَالَ: هَمَّ الشَّافِعِيُّ بِالْخُرُوجِ مِنْ مِصْرَ، وَكَانَ قَدْ فَاتَنِي مِنْ الْبُيُوعِ مِنْ كِتَابِ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثُ وَرَقَاتٍ، فَقُلْت لَهُ: أَجِزْهَا لِي. قَالَ: فَاقْرَأْهَا عَلَيَّ كَمَا قُرِئَ عَلَيَّ، وَرَدَّدَ عَلَيَّ ذَلِكَ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ، فَجَلَسَ وَقُرِئَ عَلَيْهِ. وَسَمِعْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَتُوُفِّيَ عِنْدَنَا، وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ عَنْ شَيْخِهِ الْحَاكِمِ بِزِيَادَةٍ، يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا فِي الْحِكَايَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَرِهَ الْإِجَازَةَ. قَالَ الْحَاكِمُ: فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَقَدْ كَرِهَ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، ثُمَّ عَابَ شَيْخُنَا رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لَهُ بِأَخْبَرَنَا وَحَدَّثَنَا، قَالَ: وَبِمِثْلِهِ يَذْهَبُ بَهَاءُ الْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ وَالرِّحْلَةِ. الثَّانِي: - وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ - الصِّحَّةُ، وَحَمَلُوا كَلَامَ الْمَانِعِينَ عَلَى الْكَرَامَةِ. قَالَ الْخَطِيبُ: وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ مَالِكٍ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ الرِّوَايَةِ بِأَحَادِيثِ الْإِجَازَةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْعَهُ إنَّمَا هُوَ وَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنْ يُجِيزَ الْعِلْمَ لِمَنْ لَيْسَ أَهْلَهُ، وَلَا خَدَمَهُ، وَلَا عَانَى التَّعَبَ، وَلِهَذَا قَالَ: إنَّمَا يُرِيدُ أَحَدُكُمْ أَنْ يُقِيمَ الْمَقَامَ الْيَسِيرَ، وَيَحْمِلَ الْعِلْمَ الْكَثِيرَ. قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمَنْقُولُ عَنْ الشَّافِعِيِّ كَرَاهَةُ الِاتِّكَالِ عَلَى الْإِجَازَةِ بَدَلًا عَنْ السَّمَاعِ، وَقَدْ قَالَ الْكَرَابِيسِيُّ: لَمَّا كَانَ قَدْمَةُ الشَّافِعِيُّ الثَّانِيَةِ إلَى بَغْدَادَ آتَيْته، فَقُلْت لَهُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْك الْكُتُبَ؟ قَالَ: خُذْ كُتُبَ الزَّعْفَرَانِيِّ فَانْسَخْهَا، فَقَدْ أَجَزْتُهَا لَك، فَأَخَذْتُهَا إجَازَةً. قُلْت: هَذَا مِنْ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ، فَكَيْفَ يُقْضَى لِلْقَدِيمِ عَلَى الْجَدِيدِ؟ نَعَمْ، الْمَنْقُولُ عَنْ الْجَدِيدِ لَيْسَ صَرِيحًا فِي الْمَنْعِ. فَلَا تَعَارُضَ، وَقَدْ رَوَى الرَّبِيعُ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْإِجَازَةَ لِمَنْ بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ. وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ أُصُولَهُ، أَوْ فُرُوعًا كُتِبَتْ عَنْهَا، وَيَنْظُرُ فِيهَا، وَيُصَحِّحُهَا، حَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ صَالِحٍ.
وَالرَّابِعُ: إنْ كَانَ الْمُجِيزُ وَالْمُسْتَجِيزُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِ مَا فِي الْكِتَابِ مِنْ الْأَحَادِيثِ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلُوهُ عَنْ مَالِكٍ فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي الْمُجِيزِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يُجِيزُ، وَفِي الْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ مَسْمُوعِ الشَّيْخِ ضَرُورَةً أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ جَمِيعَ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ. وَالْخَامِسُ: لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُخَاطَبَةِ، فَإِنْ خَاطَبَهُ بِهَا صَحَّ، وَإِلَّا فَلَا. حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ ".
التَّفْرِيعُ إنْ قُلْنَا بِالْجَوَازِ فَاخْتَلَفُوا فِي مَسَائِلَ. إحْدَاهَا: هَلْ تَجُوزُ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطٍ؟ فَأَطْلَقَ الْأَكْثَرُونَ، وَسَبَقَ عَنْ مَالِكٍ اشْتِرَاطُ عِلْمِ الْمُجِيزِ وَالْمُجَازِ لَهُ، وَعَلَى هَذَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا تَجُوزُ الْإِجَازَةُ إلَّا لِمَاهِرٍ بِالصِّنَاعَةِ، وَفِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُشْكِلُ إسْنَادُهُ. وَقَسَّمَ إلْكِيَا الطَّبَرِيُّ الْإِجَازَةَ إلَى قِسْمَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ الْمُجَازُ لَهُ مَا فِي الْكِتَابِ فَلَهُ الرِّوَايَةُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا يَعْلَمُ، وَلَكِنْ قَالَ الشَّيْخُ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي، فَلَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ، إذَا كَانَ الْكِتَابُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ. قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُمَا فَالْمُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ، وَلَمْ يَعْلَمْ وَإِذَا كَانَ لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ لَهُ إذَا سَمِعَ وَلَمْ يَعْلَمْ، فَهَذَا أَوْلَى.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَرْوِي عَنْهُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ مِنْ مَسْمُوعَاتِهِ تَوْسِعَةً لِلْأَمْرِ، وَدَفْعًا
لِلْحَرَجِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِمَا فِي الْكِتَابِ إخْبَارًا إجْمَالِيًّا، كَمَا إذَا أَرْسَلَ إلَيْهِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى عِدَّةِ مُهِمَّاتٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: لَا تَحِلُّ الرِّوَايَةُ بِالْإِجَازَةِ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُجَازُ لَهُ مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلرَّاوِي: أَتَعْلَمُ مَا فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، ثُمَّ يُجِيزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ. قُلْت: وَعَلَى هَذَا فَلَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ، إلَّا لِمَنْ يَصِحُّ سَمَاعُهُ، وَحَكَاهُ الْخَطِيبُ عَنْ بَعْضِهِمْ، وَأَنَّهُ مَنَعَ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ. قَالَ: وَسَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيّ، هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّتِهَا سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فَقَالَ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. الثَّانِيَةُ: أَنَّهَا دُونَ السَّمَاعِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي " الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ كَالسَّمَاعِ؛ لِأَنَّ الثِّقَةَ هِيَ الْمَطْلُوبَةُ، وَهُوَ غَرِيبٌ. الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ يَقُولُ فِيهَا: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي، وَذَكَرَ الْمَازِرِيُّ عَنْ ابْنِ خُوَيْزٍ مَنْدَادٍ: إنَّا إذَا قُلْنَا بِالْجَوَازِ أُطْلِقَ ذَلِكَ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْكَرَاهَةِ لَمْ يَقُلْ إلَّا: أَجَازَنِي، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي إجَازَةً. وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي " شَرْحِ الْعُنْوَانِ ": الْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْتَبَرَ لَفْظُ الرِّوَايَةِ بِالْإِجَازَةِ، وَيُنْظَرَ مُطَابَقَتُهُ لِنَفْسِ الْأَمْرِ بِحَسَبِ مُقْتَضَى الْوَضْعِ. فَإِنْ كَانَ الْوَضْعُ لَا يَمْنَعُهُ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، فَقَوْلُهُ: حَدَّثَنَا بَعِيدٌ جِدًّا، وَيَلِيهِ قَوْلُهُ: أَخْبَرَنَا، وَأَجْوَدُ الْعِبَارَاتِ فِي الْإِجَازَةِ أَنْ يُقَالَ: أَجَازَ لَنَا فُلَانٌ، أَوْ كَتَبَ إلَيْنَا، إنْ كَانَ كِتَابَةً؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ صَحِيحٌ. اهـ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي الْإِجَازَةِ: يَحْكِيهِ عَلَى مَا قَالَهُ الشَّيْخُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنَا، أَوْ أَخْبَرَنَا. قَالَ: وَذَهَبَ إلَى هَذَا أَبُو بَكْرٍ اهـ.
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: هَلْ يَقُولُ: حَدَّثَنِي، وَأَخْبَرَنِي مُطْلَقًا؟ مِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَهُ، حَتَّى يُقَيِّدَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَاخْتَارَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْأَوْلَى التَّصْرِيحُ بِهِ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فَلَا لَبْسَ فِيهِ، وَحَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَأَقَرَّهُ.
وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَجَازَنِي، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَجُوزَ أَخْبَرَنِي، وَحَدَّثَنِي، وَهِيَ أَنْوَاعٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُجِيزَ بِمُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ، بِأَنْ يَقُولَ: أَجَزْت لَك الْكِتَابَ الْفُلَانِيَّ، وَهُوَ أَعْلَاهَا. وَثَانِيهَا: لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لَك، أَوْ لَكُمْ جَمِيعَ مَسْمُوعَاتِي. وَالْخِلَافُ فِي هَذَا أَقْوَى مِنْ الْأَوَّلِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى تَجْوِيزِهِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيمَا إذَا قَالَ: أَجَزْت لَك أَنْ تَرْوِيَ عَنِّي مَا صَحَّ عِنْدِي مِنْ مَسْمُوعَاتِي: فَهَذِهِ إجَازَةٌ مُرَتَّبَةٌ عَلَى عَمَايَةٍ، وَيَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ لِهَذَا الْفَرْعِ بِصِحَّةِ سَمَاعِ الشَّيْخِ إلَّا بِالتَّعْوِيلِ عَلَى خُطُوطٍ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى سَمَاعِ الشَّيْخِ. قَالَ: وَإِنْ رَأَى فِي ذَلِكَ مُقْنِعًا، فَإِنْ تَحَقَّقَ ظُهُورُ سَمَاعِ مَوْثُوقٍ بِهِ فَإِذْ ذَاكَ، وَهَيْهَاتَ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يُجِيزَ مُعَيَّنٌ لِمُعَيَّنٍ بِوَصْفِ الْعُمُومِ، مِثْلُ أَجَزْت لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ لِمَنْ أَدْرَكَ حَيَاتِي، فَمَنَعَهُ جَمَاعَةٌ، وَجَوَّزَهُ الْخَطِيبُ وَغَيْرُهُ. وَجَوَّزَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْإِجَازَةَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ عِنْدَ الْإِجَازَةِ.
وَرَابِعُهَا: الْإِجَازَةُ لِلْمَجْهُولِ أَوْ بِالْمَجْهُولِ، مِثْلُ أَجَزْت
لِمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الدِّمَشْقِيِّ، وَفِي وَقْتِهِ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مُشْتَرِكُونَ فِي هَذَا الِاسْمِ وَالنَّسَبِ، ثُمَّ لَا يُعَيِّنُ الْمُجَازَ لَهُ، أَوْ يَقُولُ: أَجَزْت لِفُلَانٍ أَنْ يَرْوِيَ عَنِّي كِتَابَ السُّنَنِ، وَهُوَ يَرْوِي جَمَاعَةٌ مِنْ كُتُبِ السُّنَنِ الْمَعْرُوفَةِ بِذَلِكَ، وَلَا قَرِينَةَ تَصْرِفُ لِبَعْضِهَا، فَهِيَ إجَازَةٌ فَاسِدَةٌ، وَلَا فَائِدَةَ لَهَا. هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ، وَتَبِعَهُ النَّوَوِيُّ فِي " الرَّوْضَةِ " وَغَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ بِالْجَوَازِ، وَيَسْتَبِيحُ رِوَايَتَهُ جَمِيعَهَا؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ ظَاهِرٌ فِي الْعُمُومِ، وَلَا مَانِعَ فِيهِ. خَامِسُهَا: الْإِجَازَةُ الْمُعَلَّقَةُ بِشَرْطٍ، مِثْلُ: أَجَزْت لِمَنْ شَاءَ فُلَانٌ أَوْ نَحْوُهُ، وَهُوَ كَالنَّوْعِ الرَّابِعِ، وَفِيهِ جَهَالَةٌ، وَتَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ، وَقَدْ أَفْتَى أَبُو الطَّيِّبِ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَعَلَّلَهُ بِأَنَّهُ إجَازَةٌ لِمَجْهُولٍ، فَصَارَ كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لِبَعْضِ النَّاسِ، وَجَوَّزَهُ أَبُو يَعْلَى بْنُ الْفَرَّاءِ، وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَمْرُوسٍ الْمَالِكِيُّ. وَسَادِسُهَا: الْإِجَازَةُ بِمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الْمُجِيزُ، وَلَمْ يَتَحَمَّلْهُ فِيمَا مَضَى لِرِوَايَةِ الْمُجَازِ لَهُ إذَا تَحَمَّلَهُ الْمُجِيزُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: يَنْبَغِي أَنْ يُبْنَى ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ بِالْمُجَازِ جُمْلَةً، أَوْ هِيَ إذْنٌ، فَلَا يَصِحُّ إنْ جُعِلَتْ فِي حُكْمِ الْإِخْبَارِ، إذْ كَيْفَ يُجِيزُ مَا لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْهُ؟ وَإِنْ جُعِلَتْ إذْنًا بُنِيَ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ فِيمَا لَمْ يَمْلِكْهُ الْمُوَكِّلُ، وَالصَّحِيحُ بُطْلَانُ هَذِهِ الْإِجَازَةِ. سَابِعُهَا: إجَازَةُ الْمُجَازِ، مِثْلُ: أَجَزْت لَك مُجَازَاتِي أَوْ رِوَايَةَ مَا أُجِيزَ لِي رِوَايَتُهُ، وَقَدْ مَنَعَهُ بَعْضُ
الْمُتَأَخِّرِينَ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيهُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ يَرْوِي بِالْإِجَازَةِ عَنْ الْإِجَازَةِ.
ثَامِنُهَا: الْإِذْنُ فِي الْإِجَازَةِ وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: أَذِنْت لَك أَنْ تُجِيزَ عَنِّي مَنْ شِئْت، وَهَذَا نَوْعٌ لَمْ يَذْكُرُوهُ، وَلَكِنَّهُ وَقَعَ فِي عَصْرِنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَصِحُّ، كَمَا لَوْ قَالَ: وَكِّلْ عَنِّي. تَاسِعُهَا: الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لَهَا حِينَ الْإِجَازَةِ، وَهُوَ يَشْمَلُ صُوَرًا: مِنْهَا الصَّبِيُّ، وَقَدْ قَالَ الْخَطِيبُ: سَأَلْت الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ: هَلْ يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ الْإِجَازَةِ لِلطِّفْلِ الصَّغِيرِ سِنُّهُ أَوْ تَمْيِيزُهُ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ سَمَاعِهِ؟ فَقَالَ: لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ. فَقُلْت لَهُ: إنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا قَالَ: لَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ لِمَنْ لَا يَصِحُّ سَمَاعُهُ. فَقَالَ: قَدْ يَصِحُّ أَنْ يُجِيزَ لِلْغَائِبِ عَنْهُ، وَلَا يَصِحُّ السَّمَاعُ لَهُ، وَاحْتَجَّ الْخَطِيبُ بِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا هِيَ إبَاحَةُ الْمُجِيزِ لِلْمُجَازِ لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ، وَالْإِبَاحَةُ تَصِحُّ لِلْمُكَلَّفِ وَغَيْرِهِ. وَمِنْهَا: الْمَجْنُونُ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ لَهُ، ذَكَرَهُ الْخَطِيبُ. وَمِنْهَا: الْكَافِرُ، وَقَدْ صَحَّحُوا تَحَمُّلَهُ إذَا أَدَّاهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَقِيَاسُ إجَازَتِهِ كَذَلِكَ، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ
الْحَافِظِ أَبِي الْحَجَّاجِ الْمِزِّيِّ وَكَانَ طَبِيبٌ يُسَمَّى عَبْدَ السَّيِّدِ بْنَ الزَّيَّاتِ، وَسَمِعَ الْحَدِيثَ فِي حَالِ يَهُودِيَّتِهِ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الصُّورِيِّ، وَكَتَبَ اسْمَهُ فِي طَبَقَةِ السَّمَاعِ مَعَ السَّامِعِينَ، وَأَجَازَ ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ لِمَنْ سَمِعَ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَكَانَ السَّمَاعُ وَالْإِجَازَةُ بِحُضُورِ الْمِزِّيِّ، وَبَعْضُ السَّمَاعِ بِقِرَاءَتِهِ، ثُمَّ هَدَى اللَّهُ ابْنَ عَبْدِ السَّيِّدِ الْمَذْكُورِ لِلْإِسْلَامِ، وَحَدَّثَ وَتَحَمَّلَ الطَّالِبُونَ عَنْهُ، وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْفَاسِقِ وَالْمُبْتَدِعِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهَا، وَأَوْلَى مِنْ الْكَافِرِ. وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْحَمْلِ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ نَقْلًا غَيْرَ أَنَّ الْخَطِيبَ قَالَ: لَمْ نَرَهُمْ أَجَازُوا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا فِي الْحَالِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِكَوْنِهِ إذَا وَقَعَ: هَلْ تَصِحُّ؟ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ الْمَعْدُومِ، وَيَقْوَى إذَا أُجِيزَ لَهُ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ، وَيُحْمَلُ بِنَاؤُهُ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ هَلْ يُعْلَمُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُعْلَمُ كَانَتْ كَالْإِجَازَةِ لِلْمَجْهُولِ، فَيَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ، وَإِنْ قُلْنَا: يُعْلَمُ وَهُوَ الْأَصَحُّ، صَحَّتْ.
وَمِنْهَا: الْإِجَازَةُ لِلْمَعْدُومِ أَيْضًا، كَقَوْلِهِ: أَجَزْت لِمَنْ يُولَدُ لِفُلَانٍ