الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ» . وَالثَّانِي: أَنَّ سَعَةَ أَقْطَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَثْرَةَ الْعَدَدِ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا ضَبْطَ أَقْوَالِهِمْ، وَمَنْ ادَّعَى هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ كَذِبُهُ.
[إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ [إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ] إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا أَجْمَعُوا لَمْ يُعْتَدَّ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ " اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ ": قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ حُجَّةٌ، وَمَا سَمِعْت أَحَدًا ذَكَرَ قَوْلَهُ إلَّا عَابَهُ، وَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدِي مَعِيبٌ. انْتَهَى. وَقَالَ الْحَارِثُ الْمُحَاسِبِيُّ
فِي كِتَابِ " فَهْمِ السُّنَنِ ": قَالَ مَالِكٌ: إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِالْمَدِينَةِ ظَاهِرًا مَعْمُولًا بِهِ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ خِلَافَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُخَالَفَتُهُ. اهـ. وَنَقَلَ عَنْهُ الصَّيْرَفِيُّ فِي الْأَعْلَامِ " وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ بَعِيدٌ. وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الْجُرْجَانِيِّ " أَنَّهُ أَرَادَ الْفُقَهَاءَ السَّبْعَةَ وَحْدَهُمْ، وَقَالَ: إنَّهُمْ إذَا أَجْمَعُوا عَلَى مَسْأَلَةٍ انْعَقَدَ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ، وَلَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ الْأَوَّلُ. لَكِنْ يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ فِي " الْمُوَطَّأِ " فِي بَابِ الْعَيْبِ فِي الرَّقِيقِ نَقَلَ إجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَبْرَأُ مِنْ الْعَيْبِ أَصْلًا، عَلِمَهُ أَوْ جَهِلَهُ. ثُمَّ خَالَفَهُمْ، فَلَوْ كَانَ يَرَى أَنَّ إجْمَاعَهُمْ حُجَّةٌ لَمْ تَسَعْ مُخَالَفَتُهُ.
وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّمَا أَرَادَ فِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ الْمُسْتَفِيضُ، كَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَالْأَذَانِ، وَالْإِمَامَةِ، وَعَدَمِ الزَّكَوَاتِ فِي الْخَضْرَاوَاتِ مِمَّا تَقْضِي الْعَادَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ لَعُلِمَ، فَأَمَّا مَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ فَهُمْ وَغَيْرُهُمْ سَوَاءٌ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ شَيْخِهِ الْأَبْهَرِيُّ. وَقِيلَ: يُرَجَّحُ نَقْلُهُمْ عَلَى نَقْلِ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه إلَى هَذَا فِي الْقَدِيمِ، وَرَجَّحَ رِوَايَةَ أَهْلِ الدِّينِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ الصَّحَابَةَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِي
التَّابِعِينَ. حَكَاهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَعَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ.
وَادَّعَى ابْنُ تَيْمِيَّةَ أَنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا: إنَّ اجْتِهَادَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ مُرَجَّحٌ عَلَى اجْتِهَادِ غَيْرِهِمْ، فَيُرَجَّحُ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ لِمُوَافَقَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَقَالَ مَرَّةً: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى إجْمَاعِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ: قَالَ لِي الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: إذَا وَجَدْت مُتَقَدِّمِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ، فَلَا يَدْخُلْ قَلْبَك شَكٌّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَكُلَّمَا جَاءَك شَيْءٌ غَيْرُ ذَلِكَ، فَلَا تَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وَلَا تَعْبَأْ بِهِ، فَقَدْ وَقَعْتَ فِي الْبِحَارِ، وَوَقَعْتَ فِي اللُّجَجِ. وَفِي لَفْظٍ لَهُ: إذَا رَأَيْت أَوَائِلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى شَيْءٍ فَلَا تَشُكَّنَّ أَنَّهُ الْحَقُّ، وَاَللَّهِ إنِّي لَك نَاصِحٌ، وَالْقُرْآنِ لَك نَاصِحٌ، وَإِذَا رَأَيْت قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي حُكْمٍ أَوْ سُنَّةٍ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: قَدِمَ عَلَيْنَا ابْنُ شِهَابٍ قَدْمَةً، فَقُلْت لَهُ: طَلَبْتَ الْعِلْمَ حَتَّى إذَا كُنْتُ وِعَاءً مِنْ أَوْعِيَتِهِ تَرَكْت الْمَدِينَةَ فَقَالَ: كُنْت أَسْكُنُ الْمَدِينَةَ، وَالنَّاسُ نَاسٌ، فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ النَّاسُ تَرَكْتُهُمْ. رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. اهـ. وَقِيلَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَنْقُولَاتِ الْمُسْتَمِرَّةِ كَمَا سَبَقَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْمُنْتَخَبِ " وَصُحِّحَ فِي مَكَان آخَرَ التَّعْمِيمُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ،
وَفِيمَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. وَلَا فَرْقَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عِصْمَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ. نَعَمْ، مَا طَرِيقُهُ النَّقْلُ إذَا عُلِمَ اتِّصَالُهُ، وَعَدَمُ تَغَيُّرِهِ، وَاقْتَضَتْهُ الْعَادَةُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ، وَلَوْ بِالتَّقْرِيرِ عَلَيْهِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ قَوِيٌّ يَرْجِعُ إلَى أَمْرٍ عَادِيٍّ، قَالَهُ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ رحمه الله. وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: نَقْلِيٌّ، وَاسْتِدْلَالِيٌّ. فَالْأَوَّلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: مِنْهُ نَقْلُ شَرْعٍ مُبْتَدَأٍ مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. إمَّا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إقْرَارٍ. فَالْأَوَّلُ: كَنَقْلِهِمْ الصَّاعَ، وَالْمُدَّ وَالْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ وَالْأَوْقَاتِ، وَالْأَحْبَاسِ وَنَحْوِهِ. وَالثَّانِي: نَقْلُهُمْ الْمُتَّصِلَ كَعُهْدَةِ الرَّقِيقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: كَتَرْكِهِمْ أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْ الْخَضْرَاوَاتِ مَعَ أَنَّهَا كَانَتْ تُزْرَعُ بِالْمَدِينَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ لَا يَأْخُذُونَهَا مِنْهَا. قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ إجْمَاعِهِمْ حُجَّةٌ يَلْزَمُ عِنْدَنَا الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَتَرْكُ الْأَخْبَارِ وَالْمَقَايِيسِ لَهُ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِيهِ.
قَالَ: وَالثَّانِي: وَهُوَ إجْمَاعُهُمْ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، وَلَا مُرَجَّحٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي يَعْقُوبَ الرَّازِيَّ، وَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالطَّيَالِسِيِّ، وَأَبِي الْفَرَجِ، وَالْأَبْهَرِيُّ، وَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَذْهَبًا لِمَالِكٍ
ثَانِيهَا: أَنَّهُ مُرَجَّحٌ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يَحْرُمْ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَاضِي الْقُضَاةِ أَبُو الْحُسَيْن بْنُ عُمَرَ. انْتَهَى.
وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا الضَّرْبُ الْأَوَّلُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُخْتَلَفَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَالْإِقْرَارِ إذْ كُلُّ ذَلِكَ نَقْلٌ مُحَصِّلٌ لِلْعَمَلِ الْقَطْعِيِّ، وَأَنَّهُمْ عَدَدٌ كَثِيرٌ، وَجَمٌّ غَفِيرٌ، تُحِيلُ الْعَادَةُ عَلَيْهِمْ التَّوَاطُؤَ عَلَى خِلَافِ الصِّدْقِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا كَانَ هَذَا سَبِيلُهُ أَوْلَى مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ وَالظَّوَاهِرِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَالْأَوَّلُ مِنْهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ إذَا انْفَرَدَ، وَمُرَجِّحٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَارِضَيْنِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَدِينَةَ مُفْرَزُ الْإِيمَانِ، وَمَنْزِلُ الْأَحْكَامِ، وَالصَّحَابَةُ هُمْ الْمُشَافِهُونَ لِأَسْبَابِهَا، الْفَاهِمُونَ لِمَقَاصِدِهَا، ثُمَّ التَّابِعُونَ نَقَلُوهَا وَضَبَطُوهَا، وَعَلَى هَذَا فَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنْ حَيْثُ إجْمَاعُهُمْ، بَلْ إمَّا هُوَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِهِمْ الْمُتَوَاتِرِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ شَهَادَتِهِمْ لِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ الدَّالَّةِ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرْعِ، قَالَ: وَهَذَا النَّوْعُ الِاسْتِدْلَالِيُّ إنْ عَارَضَهُ خَبَرٌ، فَالْخَبَرُ أَوْلَى عِنْدَ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّهُ مَظْنُونٌ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ الطَّرِيقُ، وَعَمَلُهُمْ الِاجْتِهَادِيُّ مَظْنُونٌ مِنْ جِهَةِ مُسْتَنَدِ اجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَكَانَ الْخَبَرُ أَوْلَى، وَقَدْ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ أَوْلَى مِنْ الْخَبَرِ بِنَاءً مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْعِصْمَةِ كُلُّ الْأُمَّةِ لَا بَعْضُهَا. اهـ. وَقَدْ تَحَرَّرَ بِهَذَا مَوْضِعُ النِّزَاعِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهَؤُلَاءِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ.