الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي عَدَالَةِ الصَّحَابَةِ]
ِ وَمَا ذَكَرَهُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ شَرْطِ الْبَحْثِ عَنْ الْعَدَالَةِ فِي الرَّاوِي إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الصَّحَابَةِ، فَأَمَّا فِيهِمْ فَلَا، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وَفِي الصَّحِيحِ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي» . فَتُقْبَلُ رِوَايَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي: هُوَ قَوْلُ السَّلَفِ، وَجُمْهُورِ السَّلَفِ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ: وَلَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُمْ نَقَلَةُ الشَّرِيعَةِ، وَلَوْ ثَبَتَ تَوَقُّفٌ فِي رِوَايَتِهِمْ لَانْحَصَرَتْ الشَّرِيعَةُ عَلَى عَصْرِ الرَّسُولِ عليه السلام، وَلَمَا اسْتَرْسَلَتْ عَلَى سَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: وَعَلَيْهِ كَافَّةُ أَصْحَابِنَا. وَأَمَّا مَا وَقَعَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْحُرُوبِ وَالْفِتَنِ فَتِلْكَ أُمُورٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ،
وَكُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، أَوْ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، وَالْمُخْطِئُ مَعْذُورٌ، بَلْ وَمَأْجُورٌ، وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: تِلْكَ دِمَاءٌ طَهَّرَ اللَّهُ مِنْهَا سُيُوفَنَا فَلَا نُخَضِّبُ بِهَا أَلْسِنَتَنَا. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُمْ: وَأَمَّا أَمْرُ أَبِي بَكْرَةَ وَأَصْحَابِهِ، فَلَمَّا نَقَصَ الْعَدَدُ أَجْرَاهُمْ عُمَرُ (رضي الله عنه) مَجْرَى الْقَذَفَةِ، وَحَدُّهُ لِأَبِي بَكْرَةَ بِالتَّأْوِيلِ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَفْسِيقًا؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشَّهَادَةِ، وَلَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الْقَذْفِ، وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ فِيهِ، وَسُوِّغَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ بِمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْعَدَالَةِ كَحُكْمِ غَيْرِهِمْ. فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهَا، وَهُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ مِنْ أَصْحَابِنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: وَحْشِيٌّ قَتَلَ حَمْزَةَ، وَلَهُ صُحْبَةٌ. وَالْوَلِيدُ شَرِبَ الْخَمْرَ. قُلْنَا: مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ خِلَافُ الْعَدَالَةِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. وَالْوَلِيدُ لَيْسَ
بِصَحَابِيٍّ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا هُمْ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اهـ.
وَهُوَ غَرِيبٌ فَقَدْ ذَكَرَهُمَا الْمُحَدِّثُونَ فِي كُتُبِ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ: حُكْمُهُمْ الْعَدَالَةُ قَبْلَ الْفِتَنِ لَا بَعْدَهَا، فَيَجِبُ الْبَحْثُ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: عُدُولٌ إلَّا مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا. فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ وَلَا شَهَادَتُهُ، وَقِيلَ بِهِ فِي الْفَرِيقِ الْآخَرِ. وَقِيلَ: الْحَدِيثُ بِالْعَدَالَةِ يَخْتَصُّ بِمِنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ، وَالْبَاقُونَ كَسَائِرِ النَّاسِ، مِنْهُمْ عُدُولٌ وَغَيْرُ عُدُولٍ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ بَاطِلَةٌ. وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَمِنْ الْفَوَائِدِ مَا قَالَهُ الْحَافِظُ جَمَالُ الدِّينِ الْمِزِّيُّ: إنَّهُ لَمْ تُوجَدْ رِوَايَةٌ عَمَّنْ يُلْمَزُ بِالنِّفَاقِ مِنْ الصَّحَابَةِ. وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: الْعَدَالَةُ لِمَنْ اُشْتُهِرَ مِنْهُمْ بِالصُّحْبَةِ دُونَ مَنْ قَلَّتْ صُحْبَتُهُ، أَوْ كَانَ لَهُ مُجَرَّدُ الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ: لَا نَعْنِي بِالْعَدْلِ كُلَّ مَنْ رَآهُ اتِّفَاقًا أَوْ زَارَهُ لِمَامًا، أَوْ أَلَمَّ بِهِ، وَانْصَرَفَ مِنْ قَرِيبٍ، لَكِنْ إنَّمَا نُرِيدُ بِهِ الصَّحَابَةَ الَّذِينَ لَازَمُوهُ، وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، يُخْرِجُ كَثِيرًا مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالصُّحْبَةِ وَالرِّوَايَةِ عَنْ الْحُكْمِ بِالْعَدَالَةِ كَوَائِلِ بْنِ حُجْرٌ، وَمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ،
وَأَمْثَالِهِمْ، مِمَّنْ وَفَدَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُقِمْ إلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِرِوَايَةِ الْوَاحِدِ أَوْ الِاثْنَيْنِ، فَالْقَوْلُ بِالتَّعْمِيمِ هُوَ الصَّوَابُ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ إطْلَاقِ الْجُمْهُورِ.
[الْمُرَادُ بِعَدَالَةِ الصَّحَابَةِ] وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَالَتِهِمْ ثُبُوتُ الْعِصْمَةِ لَهُمْ، وَاسْتِحَالَةُ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ قَبُولُ رِوَايَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ بَحْثٍ عَنْ أَسْبَابِ الْعَدَالَةِ، وَطَلَبِ التَّزْكِيَةِ، إلَّا مَنْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ قَادِحٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، فَنَحْنُ عَلَى اسْتِصْحَابِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ أَهْلُ السِّيَرِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ، وَمَا صَحَّ فَلَهُ تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ. وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ رِوَايَاتِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، فَقَدْ عَمِلُوا بِرَأْيِهِ فِي الْغُسْلِ ثَلَاثًا مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ وَلَّاهُ عُمَرُ الْوِلَايَاتِ الْجَسِيمَةَ، وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قِيلَ فِي الْإِسْنَادِ: عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، كَانَ حُجَّةً، وَلَا تَضُرُّ الْجَهَالَةُ بِهِ؛ لِثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَخَالَفَ ابْنُ مَنْدَهْ، فَقَالَ: مِنْ حُكْمِ الصَّحَابِيِّ أَنَّهُ إذَا رَوَى عَنْهُ تَابِعِيٌّ، وَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا كَالشَّعْبِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، نُسِبَ إلَى الْجَهَالَةِ، فَإِذَا رَوَى عَنْهُ رَجُلَانِ صَارَ مَشْهُورًا، وَاحْتُجَّ بِهِ. قَالَا: وَعَلَى هَذَا بَنَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ صَحِيحَيْهِمَا، إلَّا أَحْرُفًا تَبَيَّنَ أَمْرُهَا، وَيُسَمِّي
الْبَيْهَقِيُّ مِثْلَ ذَلِكَ مُرْسَلًا، وَهُوَ مَرْدُودٌ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: الْمَجْهُولُ مِنْ الصَّحَابَةِ خَبَرُهُ حُجَّةٌ إنْ عَمِلَ بِهِ السَّلَفُ، أَوْ سَكَتُوا عَنْ رَدِّهِ مَعَ انْتِشَارِهِ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ، فَإِنْ وَافَقَ الْقِيَاسَ عُمِلَ بِهِ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَرْتَبَةِ دُونَ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا. قَالَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ خَبَرَ الْمَشْهُورِ الَّذِي لَيْسَ بِفَقِيهٍ حُجَّةٌ مَا لَمْ يُخَالِفْ الْقِيَاسَ، وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ مَرْدُودٌ مَا لَمْ يَرُدُّهُ الْقِيَاسُ؛ لِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ، وَمَنْ لَمْ تَظْهَرْ.
[تَعْرِيفُ الصَّحَابِيِّ] فَإِنْ قِيلَ: أَثْبَتُّمْ الْعَدَالَةَ لِلصَّحَابِيِّ مُطْلَقًا، فَمَنْ الصَّحَابِيُّ؟ قُلْنَا: اخْتَلَفُوا فِيهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إلَى أَنَّهُ مَنْ اجْتَمَعَ - مُؤْمِنًا - بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَصَحِبَهُ وَلَوْ سَاعَةً، رَوَى عَنْهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ اللُّغَةَ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ يَقْتَضِي طُولَ الصُّحْبَةِ وَكَثْرَتَهَا، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ الرِّوَايَةُ، وَطُولُ الصُّحْبَةِ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَحَدُهُمَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هُوَ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ وَالظَّاهِرُ مَنْ طَالَتْ صُحْبَتُهُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَثُرَتْ مُجَالَسَتُهُ لَهُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُطِيلَ الْمُكْثَ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، وَلِهَذَا يُوصَفُ مَنْ أَطَالَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ
مِنْ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ طَرِيقَةُ الْأُصُولِيِّينَ. أَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَيُطْلِقُونَ اسْمَ الصَّحَابَةِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَوَى عَنْهُ حَدِيثًا، أَوْ كَلِمَةً، وَيَتَوَسَّعُونَ حَتَّى يَعُدُّونَ مَنْ رَآهُ رُؤْيَةً مَا مِنْ الصَّحَابَةِ وَهَذَا لِشَرَفِ مَنْزِلَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَوْا كُلَّ مَنْ رَآهُ حُكْمَ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ:«طُوبَى لِمَنْ رَآنِي، وَمَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي» ، وَالْأَوَّلُ الصَّحَابَةُ، وَالثَّانِي التَّابِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: هُوَ مَنْ أَكْثَرَ مُجَالَسَتَهُ، وَاخْتُصَّ بِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُعَدَّ الْوَافِدُونَ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ يُقَال: فُلَانٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَقِيَهُ وَرَوَى عَنْهُ وَإِنْ لَمْ تَطُلْ صُحْبَتُهُ وَلَمْ يُخْتَصَّ بِهِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِتَقْيِيدٍ، وَالْأَوَّلَ بِإِطْلَاقٍ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَفْظُ الصَّحَابِيِّ مِنْ الصُّحْبَةِ. فَكُلُّ مَنْ صَحِبَهُ صلى الله عليه وسلم لَحْظَةً يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصَّحَابِيِّ لَفْظًا، غَيْرَ أَنَّ الْعُرْفَ اقْتَرَنَ بِهِ، فَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ إلَّا عَلَى مَنْ صَحِبَهُ مُدَّةً طَالَتْ صُحْبَتُهُ فِيهَا. قَالَ: وَلَا تُضْبَطُ هَذِهِ الْمُدَّةُ بِحَدٍّ مُعَيَّنٍ، وَكَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ.
[هَلْ لِلصُّحْبَةِ مُدَّةٌ مُعَيَّنَةٌ] وَحَكَى شَارِحُ الْبَزْدَوِيِّ عَنْ بَعْضِهِمْ تَحْدِيدَهَا بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَشَرَطَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ الْإِقَامَةَ مَعَهُ سَنَةً، أَوْ الْغَزْوَ مَعَهُ، وَضُعِّفَ بِأَنَّ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَوَائِلَ بْنَ حُجْرٌ، وَمُعَاوِيَةَ بْنَ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَامَ تِسْعٍ وَبَعْدَهُ، فَأَسْلَمَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَيَّامًا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْمِهِ، وَرَوَى عَنْهُ أَحَادِيثَ لَا خِلَافَ فِي عَدِّهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ
إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: هُوَ مَنْ ظَهَرَتْ صُحْبَتُهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صُحْبَةَ الْقَرِينِ قَرِينَهُ، حَتَّى يُعَدَّ مِنْ أَحْزَابِهِ وَخَدَمَتِهِ الْمُتَّصِلِينَ.
وَذَكَرَ صَاحِبُ " الْوَاضِحِ " أَنَّ هَذَا قَوْلُ شُيُوخِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": هُوَ مَنْ طَالَتْ مُجَالَسَتُهُ مَعَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لَهُ، وَالْأَخْذِ عَنْهُ، فَمَنْ لَمْ تَطُلْ مُجَالَسَتُهُ كَالْوَافِدِينَ، أَوْ طَالَتْ وَلَمْ يَقْصِدْ الِاتِّبَاعَ لَا يَكُونُ صَحَابِيًّا. وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: هُوَ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَاخْتَصَّ بِهِ اخْتِصَاصَ الصَّاحِبِ بِالْمَصْحُوبِ، وَإِنْ لَمْ يَرْوِ عَنْهُ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْهُ. وَقَالَ الْجَاحِظُ: يُشْتَرَطُ تَعَلُّمُهُ مِنْهُ، وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْوِيَ عَنْهُ حَدِيثًا وَاحِدًا.
[هَلْ الْبُلُوغُ شَرْطٌ فِي اعْتِبَارِ الصُّحْبَةِ] وَقِيلَ: يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ. حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ الْوَاقِدِيِّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ نَحْوُ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي عَقَلَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَجَّةً وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَعَدُوُّهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَكَلَامُ السَّفَاقِسِيِّ شَارِحِ الْبُخَارِيِّ
يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ التَّمْيِيزِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ «وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَسَحَ وَجْهَهُ عَامَ الْفَتْحِ» . قَالَ الشَّارِحُ: إنْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ هَذَا عَقَلَ ذَلِكَ، أَوْ عَقَلَ عَنْهُ كَلِمَةً كَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِنْ لَمْ يَعْقِلْ شَيْئًا كَانَتْ تِلْكَ فَضِيلَةً، وَهُوَ مِنْ الطَّبَقَةِ الْأُولَى مِنْ التَّابِعِينَ اهـ.
[اشْتِرَاطُ الرُّؤْيَةِ لِلصُّحْبَةِ] وَلَا يُشْتَرَطُ رُؤْيَتُهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِيَدْخُلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَضِرَّاءِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطْنَا الْإِيمَانَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ الصُّحْبَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ رَأَوْهُ صلى الله عليه وسلم، وَمِمَّنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَيْدَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ وَغَيْرُهُمَا، وَصَرَّحَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْ رَآهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ مِنْ أَصْحَابِهِ. وَحَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ. وَاشْتَرَطَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: الْعَدَالَةَ، قَالَ: مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ ذَلِكَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الصُّحْبَةِ. قَالَ: وَالْوَلِيدُ الَّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ لَيْسَ بِصَحَابِيٍّ، وَإِنَّمَا أَصْحَابُهُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ. اهـ. وَهُوَ عَجِيبٌ لِمَا قَرَرْنَاهُ مِنْ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ الْمُطْلَقَةِ.
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ] ثُمَّ ذَكَرَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تُرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَائِدُ: مِنْهَا: الْعَدَالَةُ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعُدُّ الرَّائِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ يَطْلُبُ تَعْدِيلَهُ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي سَائِرِ الرُّوَاةِ مِنْ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَمَنْ يُثْبِتُ الصُّحْبَةَ بِمُجَرَّدِ اللِّقَاءِ لَا يَحْتَاجُ لِذَلِكَ. وَمِنْهَا: الْحُكْمُ عَلَى مَا رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِكَوْنِهِ مُرْسَلَ صَحَابِيٍّ أَمْ لَا. فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى قَبُولِ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ، خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ، فَإِذَا ثَبَتَ بِمُجَرَّدِ الرُّؤْيَةِ كَوْنُهُ صَحَابِيًّا الْتَحَقَ مُرْسَلُهُ بِمِثْلِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، وَأَمْثَالُهُمَا، وَإِنْ لَمْ نُعْطِهِ اسْمَ الصُّحْبَةِ كَانَ كَمُرْسَلِ التَّابِعِيِّ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُجْتَهِدًا، أَوْ نُقِلَتْ عَنْهُ فَتَاوَى حُكْمِيَّةٌ، هَلْ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ قَوْلَ صَحَابِيٍّ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً أَمْ لَا؟ وَمِنْهَا: هَلْ يُعْتَبَرُ خِلَافُهُمْ لَهُمْ، أَوْ يَتَوَقَّفُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ؟ .
[الَّذِي رَأَى الرَّسُولَ كَافِرًا بِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ] ثُمَّ هَاهُنَا فَوَائِدُ: أَحَدُهَا: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ كَافِرًا، ثُمَّ أَسْلَمَ، وَلَمْ يَرَهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، وَلَكِنْ رَوَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْهُ فِي حَالِ كُفْرِهِ أَوْ لَمْ يَرْوِهِ، هَلْ يَكُونُ صَحَابِيًّا؟ ظَاهِرُ
كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حَمَّادٍ فِي الصَّحَابَةِ، وَقَدْ كَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَوَقَفَ مَعَهُ فِي قِصَّتِهِ الْمَشْهُورَةِ مَعَ كَوْنِهِ أَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَعْتَدُّوا بِذَلِكَ اللِّقَاءِ وَالْكَلَامِ فِي الْكُفْرِ.
[مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ ثُمَّ أَسْلَمَ وَلَمْ يَلْقَهُ] الثَّانِيَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ وَحَادَثَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَلَمْ يَلْقَهُ، فَهَلْ يُكْتَفَى بِاللِّقَاءِ الْأَوَّلِ مَعَ إسْلَامِهِ فِي زَمَنِهِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أُمَيَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ قَالَ: بَايَعْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ، فَوَعَدْته أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَان، وَنَسِيت، ثُمَّ إنِّي ذَكَرْت بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَجِئْت فَإِذَا هُوَ فِي مَكَانِهِ، فَقَالَ: يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْت عَلَيَّ، أَنَا فِي انْتِظَارِك مُنْذُ ثَلَاثٍ، أَنْتَظِرُك. فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ كَانَتْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ ابْنُ أَبِي الْحَمْسَاءِ أَسْلَمَ إذْ ذَاكَ قَطْعًا، وَلَكِنَّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمْ تَثْبُتْ صُحْبَتُهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. الثَّالِثَةُ: مَنْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْدَ الْمَبْعَثِ، وَأَسْلَمَ قَبْلَ وَفَاتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، وَهُوَ أَوْلَى بِالصُّحْبَةِ مِنْ الْقِسْمَيْنِ قَبْلَهُ.
مَنْ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ] الرَّابِعَةُ: مَنْ صَحِبَهُ، ثُمَّ ارْتَدَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ: هَلْ تُحْبِطُ رِدَّتُهُ تِلْكَ الصُّحْبَةَ السَّالِفَةَ، يَنْبَنِي هَذَا عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ هَلْ تَحْبَطُ أَعْمَالُهُ بِمُجَرَّدِ الرِّدَّةِ أَمْ لَا بُدَّ مِنْ الْوَفَاةِ عَلَى الرِّدَّةِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَنَا، وَعَلَيْهِ لَا تَحْبَطُ صُحْبَتُهُ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَيْهِ تَحْبَطُ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ هَذَا إسْلَامًا جَدِيدًا يَجِبُ بِهِ اسْتِئْنَافُ الْحَجِّ، وَلَا يَعْتَدُّونَ بِمَا سَبَقَ. وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ، وَيَدُلُّ لَهُ إجْمَاعُ الْمُحَدِّثِينَ عَلَى عَدِّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَجَعْلِ أَحَادِيثِهِ مُسْنَدَةً. وَكَانَ مِمَّنْ ارْتَدَّ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَجَعَ بَيْنَ يَدَيْ الصِّدِّيقِ. وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«لَيُذَادَنَّ عَنْ حَوْضِي، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: سُحْقًا، فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَك» ، فَسَمَّاهُمْ أَصْحَابًا بِنَاءً عَلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُمْ.
[مَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ وَلَمْ يَرَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِهِ] الْخَامِسَةُ: مَنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي حَيَاتِهِ، وَلَمْ يَرَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، لَكِنْ رَآهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَقَبْلَ الدَّفْنِ، هَلْ يَكُونُ صَحَابِيًّا؟ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ نَعَمْ،
لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الصُّحْبَةَ لِمَنْ أَسْلَمَ فِي حَيَاتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ صَحَابِيٍّ؛ لِعَدَمِ وِجْدَانِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ أَوْ الْمُجَالَسَةِ، وَهَذَا كَأَبِي ذُؤَيْبٍ خُوَيْلِدِ بْنِ خَالِدٍ الْهُذَلِيِّ الشَّاعِرِ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ، فَإِنَّهُ أُخْبِرَ بِمَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَافَرَ نَحْوَهُ، فَقُبِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ وُصُولِهِ بِيَسِيرٍ، وَحَضَرَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَرَآهُ مُسَجًّى وَشَهِدَ دَفْنَهُ. السَّادِسَةُ: اسْمُ الصَّحَابِيِّ شَامِلٌ لِلذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ.
[أَكْثَرُ صَحَابَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فُقَهَاءَ] السَّابِعَةُ: أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَازَمُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فُقَهَاءَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي طَبَقَاتِهِ ": وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ طُرُقَ الْفِقْهِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ خِطَابُ اللَّهِ، وَخِطَابُ رَسُولِهِ وَأَفْعَالُهُ، فَخِطَابُ اللَّهِ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَدْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وَعَلَى أَسْبَابٍ عَرَفُوهَا فَعَرَفُوا مَنْطُوقَهُ، وَمَفْهُومَهُ وَمَنْصُوصَهُ وَمَعْقُولَهُ. وَلِهَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي " كِتَابِ الْمَجَازِ ": لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَجَعَ فِي مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
مَسْأَلَةٌ [طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الصَّحَابِيِّ] يُعْرَفُ الصَّحَابِيُّ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ، وَبِكَوْنِهِ مُهَاجِرًا أَوْ أَنْصَارِيًّا، وَبِقَوْلِ صَحَابِيٍّ آخَرَ مَعْلُومِ الصُّحْبَةِ، وَمَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ صَحَابِيًّا كَقَوْلِهِ: كُنْت أَنَا وَفُلَانٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ دَخَلْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهَذَانِ يُشْتَرَطُ فِيهِمَا أَنْ يُعْرَفَ إسْلَامُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَيُمَيَّزَ، فَأَمَّا إنْ ادَّعَى الْعَدْلُ الْمَعَاصِرُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ صَاحَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَهَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ؟ قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ وَازِعَ الْعَدْلِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ، إذَا لَمْ يَرِدْ عَنْ الصَّحَابَةِ رَدُّ قَوْلِهِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ. وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ثُبُوتِهَا بِقَوْلِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَعْوَاهُ رُتْبَةً لِنَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْقَطَّانِ الْمُحَدِّثِ، وَهُوَ قَوِيٌّ، فَإِنَّ الشَّخْصَ لَوْ قَالَ: أَنَا عَدْلٌ، لَمْ تُقْبَلْ لِدَعْوَاهُ لِنَفْسِهِ مَزِيَّةً، فَكَيْفَ إذَا ادَّعَى الصُّحْبَةَ الَّتِي هِيَ فَوْقَ الْعَدَالَةِ؟ .
وَالْأَوَّلُ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ " الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ". قَالَ: إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ صَاحَبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُعْرَفُ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ حَتَّى تُعْلَمَ عَدَالَتُهُ. فَإِذَا عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ قُبِلَ مِنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَرَآهُ مَعَ إمْكَانِ ذَلِكَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدَّعِيهِ دَعْوَى لَا أَمَارَةَ مَعَهَا، وَخَالَفَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَقَالَ: وَمَنْ يَدَّعِي صُحْبَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يُقْبَلُ مِنْهُ حَتَّى تُعْلَمَ صُحْبَتُهُ، فَإِذَا عَلِمْنَاهَا فَمَا رَوَاهُ فَهُوَ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: تُعْلَمُ الصُّحْبَةِ إمَّا بِطَرِيقٍ
قَطْعِيٍّ، وَهُوَ خَبَرُ التَّوَاتُرِ، أَوْ ظَنِّيٍّ وَهُوَ خَبَرُ الثِّقَةِ، وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِهِمْ قَوْلٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الصُّحْبَةَ الْيَسِيرَةَ، وَقُلْنَا بِالِاكْتِفَاءِ بِهَا فِي مُسَمَّى الصَّحَابِيِّ فَيُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ بِالنَّقْلِ إذْ رُبَّمَا لَا يَحْضُرُهُ حَالَةَ اجْتِمَاعِهِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ أَوْ حَالَ رُؤْيَتِهِ إيَّاهُ، وَإِنْ ادَّعَى طُولَ الصُّحْبَةِ، وَكَثْرَةَ التَّرَدُّدِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُشَاهَدُ وَيُنْقَلُ وَيُشْتَهَرُ، فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ. وَلَمْ يَقِفْ ابْنُ الْحَاجِبِ عَلَى نَقْلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ: لَوْ قَالَ الْمَعَاصِرُ الْعَدْلُ: أَنَا صَحَابِيٌّ اُحْتُمِلَ الْخِلَافُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الصَّيْمَرِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا الْإِخْبَارُ عَنْ أَحَدٍ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إلَّا بَعْدَ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ، إمَّا اضْطِرَارًا أَوْ اكْتِسَابًا، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُخْبَرَ بِذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّحَابِيُّ. قُلْت: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي الْمَغَازِي عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سُنَيْنِ بْنِ جَمِيلَةَ، قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَخَرَجَ مَعَهُ عَامَ الْفَتْحِ. أَمَّا إذَا أَخْبَرَ عَنْهُ عَدْلٌ مِنْ التَّابِعِينَ أَوْ تَابِعِيهِمْ أَنَّهُ صَحَابِيٌّ، قَالَ بَعْضُ " شُرَّاحِ اللُّمَعِ ": لَا أَعْرِفُ فِيهِ نَقْلًا. قَالَ: وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ، كَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ مَرَاسِيلُهُ؛ لِأَنَّ تِلْكَ قَضِيَّةٌ لَمْ يَحْضُرْهَا. اهـ.
وَالظَّاهِرُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقُولُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، إمَّا اضْطِرَارًا أَوْ اكْتِسَابًا، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ كَلَامُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ السَّابِقُ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَمَنْ عُلِمَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا حَكَاهُ عَلَى السَّمَاعِ، حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ، سَوَاءٌ بَيَّنَ ذَلِكَ أَوْ لَا، لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ فِي الْكُلِّ.
مَسْأَلَةٌ [تَعْرِيفُ التَّابِعِينَ] الْخِلَافُ فِي التَّابِعِيِّ كَالْخِلَافِ فِي الصَّحَابِيِّ، هَلْ هُوَ الَّذِي رَأَى صَحَابِيًّا أَوْ الَّذِي جَالَسَ صَحَابِيًّا؟ قَوْلَانِ، حَكَاهُمَا النَّوَوِيُّ أَوَّلَ تَهْذِيبِهِ ". وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ: هُوَ مَنْ صَحِبَ الصَّحَابِيَّ، وَكَلَامُ الْحَاكِمِ - كَمَا قَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ - يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِاللِّقَاءِ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ فِي الصَّحَابِيِّ نَظَرًا إلَى مُقْتَضَى اللَّفْظَيْنِ فِيهِمَا، وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِشَرَفِ الصُّحْبَةِ، وَعِظَمِ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَةَ الصَّالِحِينَ لَهَا أَثَرٌ عَظِيمٌ. فَكَيْفَ رُؤْيَةُ سَيِّدِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا رَآهُ مُسْلِمٌ وَلَوْ لَحْظَةً انْصَبَغَ قَلْبُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ؛ لِأَنَّهُ بِإِسْلَامِهِ تَهَيَّأَ لِلْقَبُولِ، فَإِذَا قَابَلَ ذَلِكَ النُّورَ الْعَظِيمَ أَشْرَقَ عَلَيْهِ، وَظَهَرَ أَثَرُهُ فِي قَلْبِهِ وَعَلَى جَوَارِحِهِ.