الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ]
ِ قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَقَمْت زَمَانًا أَتَطَلُّبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِيقَةِ حَتَّى وَجَدْته مُحَقَّقًا فِي كَلَامِ الْمَازِرِيِّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَحْقِيقِ فَصْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ الرِّوَايَةَ وَالشَّهَادَةَ خَبَرَانِ، غَيْرَ أَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ عَنْ حُكْمٍ عَامٍّ تَعَلَّقَ بِالْأُمَّةِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعُ، فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الْعِلْمُ فَهُوَ الشَّهَادَةُ. فَالرِّوَايَةُ تَعُمُّ حُكْمَ الرَّاوِي وَغَيْرِهِ عَلَى مَمَرِّ الْأَزْمَانِ، وَالشَّهَادَةُ مَحْضُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَهُ، وَلَا يَتَعَدَّاهُمَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ بَابُ الرِّوَايَةِ أَوْسَعَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّ مَبْنَى حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ عَلَى التَّضْيِيقِ، وَالرِّوَايَةُ تَقْتَضِي شَرْعًا عَامًّا فَلَا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ، فَتَبْعُدُ فِيهِ التُّهْمَةُ، فَلِذَلِكَ تُوُسِّعَ فِيهِ، فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ انْتِفَاءُ الْقَرَابَةِ وَالْعَرَافَةِ، وَلَا وُجُودُ الْعَدَدِ، وَالذُّكُورَةُ، وَالْحُرِّيَّةُ. وَاسْتَشْكَلَ الْأَصْفَهَانِيُّ فِي هَذَا الْفَرْقِ بِأَنَّ عُمُومَ الْحُكْمِ يَقْتَضِي الِاحْتِيَاطَ وَالِاسْتِظْهَارَ بِالْعَدَدِ وَجَوَابُهُ أَنَّ الرَّاوِيَ يُثْبِتُ حُكْمًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ، فَلَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ التُّهْمَةُ. بِخِلَافِ الشَّاهِدِ، فَإِنَّهُ يُثْبِتُ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِ، فَاحْتِيطَ لَهُ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله وُجُوهًا لِمُنَاسَبَةِ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ دُونَ الرِّوَايَةِ:
مِنْهَا: أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَهَابَةُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلَافِ شَهَادَةِ الزُّورِ، فَاحْتِيجَ إلَى الِاسْتِظْهَارِ فِيهَا.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ قَدْ يَنْفَرِدُ بِالْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ شَاهِدٌ وَاحِدٌ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ لَفَاتَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ تِلْكَ
الْمَصْلَحَةُ
الْعَامَّةُ، بِخِلَافِ فَوَاتِ حَقٍّ وَاحِدٍ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي الْمُحَاكَمَاتِ، وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْعَمَلَ بِتَزْكِيَةِ الْوَاحِدِ فِي الرِّوَايَةِ أَحْوَطُ. وَمِنْهَا: أَنَّ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إحَنًا وَعَدَاوَاتٍ، قَدْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ، بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَدْ تَعَرَّضَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ فِي مُنَاظَرَةٍ لَهُ مَعَ صَاحِبِ أَبِي حَنِيفَةَ، حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي بَابِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالْخَبَرُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ وَالْعَامَّةُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ، وَالشَّهَادَةُ مَا كَانَ الشَّاهِدُ فِيهِ خَلِيًّا وَالْعَامَّةُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَةَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الرُّويَانِيُّ: فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: الْخَبَرُ مَا اسْتَوَى فِيهِ الْمُخْبِرُ وَالْمُخْبَرُ، وَمِنْ الْأَخْبَارِ مَا لَا يَلْزَمُ الرَّاوِيَ بِهِ حُكْمٌ، وَيَلْزَمُ غَيْرَهُ، وَمِنْ الشَّهَادَاتِ مَا يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِهَا الْحُكْمُ، كَمَا يَلْزَمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ؟ قُلْنَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ هَذَا، وَأَرَادَ مَا فَسَّرَهُ بِهِ مِنْ تَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ اللَّذَيْنِ هُمَا مُؤَبَّدَانِ لَا يَنْقَطِعَانِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا ذَكَرُوهُ فِي الصَّوْمِ وَالْفِطْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُقْطَعُ. وَحَكَى ابْنُ الْقَاصِّ عَنْ أَبِي الطَّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ
يَسْتَوِي الشَّاهِدُ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَهُوَ مَا إذَا شَهِدَ اثْنَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُمَا مِنْ الدَّيْنِ مَا يَلْزَمُ الْجَاحِدَ مِنْ الْوَرَثَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ مَنْ يَخْتَصُّ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّاوِي بِهِ شَيْءٌ، وَلَكِنْ أَرَادَ الشَّافِعِيُّ بِمَا قَالَهُ الْغَالِبَ مِنْ أَمْرِهِمَا، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ الشَّهَادَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ، وَالْغَالِبُ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اسْتِوَاءُ الْمُخْبِرِ، وَسَائِرِ النَّاسِ فِيهِ. انْتَهَى.
[مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ] وَأَمَّا مَا يَخْتَلِفَانِ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَكَثِيرٌ: أَحَدُهَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةَ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ التَّزْكِيَةَ فِي الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بِاثْنَيْنِ، وَيُكْتَفَى فِي التَّعْدِيلِ فِي الرِّوَايَةِ بِوَاحِدٍ. وَثَالِثُهَا: عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الرِّوَايَةِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. وَرَابِعُهَا: اشْتِرَاطُ الْبَصَرِ، وَعَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الشَّهَادَةِ، دُونَ الرِّوَايَةِ وَقَدْ قَبِلَتْ الصَّحَابَةُ خَبَرَ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فِي الْخَوَارِجِ وَغَيْرِهِمْ. وَخَامِسُهَا: مَنْ كَذَبَ ثُمَّ تَابَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ كَذَبَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَابَ لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَوَافَقَهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ، وَابْنُ الْقَطَّانِ، وَالْقَفَّالُ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ كَمَا سَبَقَ. وَسَادِسُهَا: أَنَّ الرَّاوِيَ إذَا كَذَبَ فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رُدَّتْ جَمِيعُ أَحَادِيثِهِ السَّالِفَةِ، وَوَجَبَ نَقْضُ مَا عُمِلَ بِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْقَضْ الْحُكْمُ
بِشَهَادَةِ مَنْ حَدَثَ فِسْقُهُ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ حُجَّةٌ لَازِمَةٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ، فَكَانَ حُكْمُهُ أَغْلَظَ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي ". سَابِعُهَا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الرَّاوِي وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ، لِاشْتِرَاكِ النَّاسِ فِي السُّنَنِ وَالرِّوَايَاتِ. قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ، وَنَقَلَا ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَوْ رَوَى عَدْلٌ خَبَرًا فِي أَثْنَاءِ خُصُومَةٍ، وَكَانَ فَحْوَاهُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ، فَالرِّوَايَةُ مَقْبُولَةٌ، وَلَا يَجْعَلُ لِلتُّهْمَةِ مَوْضِعًا، وَكَذَا الرِّوَايَةُ الْجَارَّةُ لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَمِثْلُهُ خَبَرُ الرَّاوِي لِنَفْسِهِ نَفْعًا رَاجِحًا لَمْ يَسْتَحْضِرْ الْقَرَافِيُّ فِي فُرُوعِهِ فِيهَا نَقْلًا، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ قَبْلَ بَابِ الصِّيَالِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ رَوَى خَبَرًا يَقْتَضِي إعْتَاقَهُ، لَمْ يُقْبَلْ، أَوْ إعْتَاقَ مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ كَذَا وَكَذَا وَكَانَتْ فِيهِ قِيلَ؛ لِأَنَّهُ ضِمْنٌ لَا قَصْدًا وَهَذَا أَحْسَنُ. ثَامِنُهَا: إذَا حَدَّثَ الْعَدْلُ بِحَدِيثٍ رَجَعَ عَنْهُ لِغَلَطٍ وَجَدَهُ فِي أَصْلِ كِتَابِهِ، أَوْ حِفْظٍ عَادَ إلَيْهِ، قُبِلَ مِنْهُ رُجُوعُهُ، وَكَذَا الزِّيَادَةُ بِاللَّفْظِ. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ. قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ يَحْكُمُ بِهَا الْقَاضِي، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّاهِدُ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حُقُوقًا لِلْآدَمِيِّينَ لَا تَزُولُ بِالرُّجُوعِ وَمَضَى الْحُكْمُ بِهَا، وَالْمُخْبِرُ بِهَا يَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْمُخْبِرِينَ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَدْعًى يُؤَدِّي مَا اسْتَدْعَى، وَلَيْسَ يُطَعْنَ عَلَى الْمُحَدِّث إلَّا قَوْلُهُ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، فَهُوَ كَاذِبٌ فِي الْأَوَّلِ، وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. تَاسِعُهَا: أَنَّ إنْكَارَ الْأَصْلِ رِوَايَةَ الْفَرْعِ، لَا يَضُرُّ الْحَدِيثَ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ كَمَا سَبَقَ. عَاشِرُهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يُعَوَّلُ عَلَى شَهَادَةِ
الْفَرْعِ مَعَ إمْكَانِ السَّمَاعِ مِنْ الْأَصْلِ، وَيَجُوزُ اعْتِمَادُ رِوَايَةِ الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُرَاجَعَةِ شَيْخِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي النِّهَايَةِ ": لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرْعِ مَعَ حُضُورِ الْأَصْلِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ رِوَايَةَ الرَّاوِي مَقْبُولَةٌ، وَشَيْخُهُ فِي الْبَلَدِ. قَالَ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ تَوْقِيفٌ شَرْعِيٌّ تَعَبُّدِيٌّ غَيَّرَ الشَّهَادَةَ فِيهِ عَنْ الرِّوَايَةِ، فَلَا يُعَدُّ فِي وَجْهِ الرَّاوِي التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا. انْتَهَى.
حَادِي عَشَرَهَا: لَوْ أَشْكَلَتْ الْحَادِثَةُ عَلَى الْقَاضِي، فَرَوَى لَهُ خَبَرًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهَا، وَقَتَلَ بِهِ الْقَاضِي رَجُلًا، ثُمَّ رَجَعَ الرَّاوِي، وَقَالَ: تَعَمَّدْت الْكَذِبَ، لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ، بِخِلَافِ الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِالْحَادِثَةِ، وَالْخَبَرُ لَا يَخْتَصُّ بِهَا. قَالَهُ الْقَفَّالُ فِي فَتَاوِيهِ، لَكِنْ فِي فَتَاوَى الْبَغَوِيّ وُجُوبُ الْقِصَاصِ كَالشَّاهِدِ، وَهُوَ أَحْوَطُ. ثَانِي عَشَرَهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ " وَالرِّسَالَةِ ": أَقْبَلُ فِي الْحَدِيثِ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدَلِّسًا، وَلَا أَقْبَلُ فِي الشَّهَادَةِ إلَّا سَمِعْتُ، أَوْ رَأَيْتُ، أَوْ أَشْهَدَنِي. ثَالِثَ عَشَرَهَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ أَيْضًا: إذَا اخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ أَخَذْت بِبَعْضِهَا اسْتِدْلَالًا بِكِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَلَا يُؤْخَذُ بِبَعْضِهَا بِحَالٍ. رَابِعَ عَشَرَهَا: قَالَ أَيْضًا: يَكُونُ بَشَرٌ كُلُّهُمْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُمْ مَنْ قِبَلِ مَا يَدْخُلُ فِي الْحَدِيثِ مِنْ كَثْرَةِ الْإِحَالَةِ، وَإِزَالَةِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْمَعَانِيَ، هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ ": لَا يُقْبَلُ الْحَدِيثُ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ عَالِمٍ حَافِظٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَى الْحَدِيثِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. قَالَ: وَلِهَذَا احْتَطْت فِي
الْحَدِيثِ أَكْثَرَ مِمَّا احْتَطْت بِهِ فِي الشَّهَادَاتِ. وَإِنَّمَا أَقْبَلُ شَهَادَةَ مَنْ لَا أَقْبَلُ حَدِيثَهُ لِكِبَرِ أَمْرِ الْحَدِيثِ، وَمَوْقِعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ؛ وَلِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ يُتْرَكُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَيَخْتَلُّ مَعْنَاهُ، فَإِذَا كَانَ الْحَامِلُ لِلْحَدِيثِ يَجْهَلُ الْمَعْنَى لَمْ يُقْبَلْ حَدِيثُهُ، هَذَا لَفْظُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ فَاخْتِلَافُ اللَّفْظِ فِيهِ لَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَيَّ فِي اللَّفْظِ، فَقُلْت لِبَعْضِهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ مَا لَمْ يُخِلَّ مَعْنًى، ذَكَرَهُ فِي الْأُمِّ " فِي بَابِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ: إنَّمَا صِرْت لِاخْتِيَارِ تَشَهُّدِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ غَيْرِهِ، لِمَا رَأَيْته وَاسِعًا، وَسَمِعْته عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ صَحِيحًا، كَانَ عِنْدِي أَجْمَعُ، وَأَكْثَرُ لَفْظًا مِنْ غَيْرِهِ، فَأَخَذْت بِهِ. انْتَهَى.
خَامِسَ عَشَرَهَا: تَجُوزُ الرِّوَايَةُ بِالْمَعْنَى بِشَرْطِهِ السَّابِقِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَقَدْ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ عِنْدَ شَاهِدَيْنِ، فَعَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا مَا سَمِعَاهُ مَشْرُوحًا، فَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ رَهْنٌ بِأَلْفَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَا إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِهِ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ نَاقِلٌ، وَالِاجْتِهَادُ إلَى الْحَاكِمِ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدَّمِ: لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا يَسْتَحِقُّ فِي ذِمَّةِ هَذَا دِرْهَمًا. هَلْ تُسْمَعُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، الْمَذْهَبُ أَنَّهَا تُسْمَعُ، وَيُعْمَلُ بِهَا. وَالثَّانِي: لَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ وَظِيفَةِ الْحَاكِمِ. وَالثَّالِثُ: إنْ كَانَ الشَّاهِدُ مُتَمَذْهِبًا بِمَذْهَبِ الْقَاضِي سُمِعَتْ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِأَنَّهُ قَالَ لَهُ: زَنَيْت، وَآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: يَا زَانِي، لَمْ يَثْبُتْ الْقَذْفُ. كَمَا لَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَذْفٍ بَلَغَهُ.
حَكَاهُ فِي الْكِفَايَةِ " فِي بَابِ الْإِقْرَارِ عَنْ الْمَاوَرْدِيِّ.
قَالَ: وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ: أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ أَنَّهُ قَالَ: قَدْ وَكَّلْتُك فِي كَذَا، وَآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَذِنْت لَك فِي التَّصَرُّفِ، لَمْ تَثْبُتْ الْوَكَالَةُ؛ لِأَنَّهُمَا ضِدَّانِ، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الْمُدَّعِي بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ، وَآخَرُ بِالْإِبْرَاءِ مِنْهُ، فَالْمَذْهَبُ فِي الْإِقْرَارِ مِنْ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، لَا تَلْفِيقَ، وَلَوْ شَهِدَ الثَّانِي أَنَّهُ بَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ، قَالَ الْعَبَّادِيُّ: تَلَفُّقٌ؛ لِأَنَّ إضَافَتَهَا إلَى الدُّيُونِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِيفَاءِ، وَقِيلَ بِخِلَافِهِ. قُلْت: لَكِنَّ ابْنَ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ سَوَّى بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: لَا فَرْقَ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ يُكْتَفَى فِيهَا بِالْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ. سَادِسَ عَشَرَهَا: يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَةِ الشَّاهِدِ مُضِيُّ مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ، بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، وَلَوْ حُدَّ بَعْضُ شُهُودِ الزِّنَا لِنَقْصِ النِّصَابِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ، حَتَّى يَتُوبُوا، وَفِي قَبُولِ رِوَايَتِهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَجْهَانِ فِي " الْحَاوِي ". قَالَ: الْأَشْهَرُ الْقَبُولُ، وَالْأَقْيَسُ الْمَنْعُ كَالشَّهَادَةِ.
سَابِعَ عَشَرَهَا: لَهُ أَنْ يَرْوِيَ عَلَى الْخَطِّ الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ ": يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُحَدِّثُ حَافِظًا لِكِتَابِهِ إنْ حَدَّثَ بِهِ مِنْ كِتَابِهِ. قَالَ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ ": وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ مِنْ كِتَابِهِ بِمَا يَحْفَظُ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ سَمَاعَهُ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ؛ لِأَجْلِ إفْتَائِهِمْ مِنْ عِلْمِ سَمَاعِهِ لِلْحَدِيثِ مِمَّنْ سَمِعَهُ مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِحِفْظِهِ بِمَا سَمِعَهُ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَدِّثَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْهُ إمَامُهُ لِحِفْظِهِ مَقَامَ عِلْمِهِ بِسَمَاعِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ حَدَّثَ عَنْهُ.
قَالَ: وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَصْحَابِ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ مِمَّنْ هَذَا حَالُهُ. قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ كَالشَّهَادَةِ سَوَاءٌ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الشَّيْخِ. ثَامِنَ عَشَرَهَا: عَكْسُ مَا قَبْلِهِ، لَوْ تَحَقَّقَ مِنْ عِلْمِ سَمَاعِ ذَلِكَ الْخَبَرِ،
لَكِنَّ اسْمَهُ غَيْرُ مَكْتُوبٍ عَلَيْهِ، لَمْ يُجَوِّزْ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ، وَيَجُوزُ عَنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ كَالشَّهَادَةِ، قَالَهُ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ ".
وَقَالَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا: لَوْ رَأَى اسْمَهُ مَكْتُوبًا فِي خَبَرٍ بِخَطِّ ثِقَةٍ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْمَسْمُوعَ مِنْهُ، وَلَا يَذْكُرُ سَمَاعَهُ مِنْهُ، جَوَّزَ لَهُ الْمُحَدِّثُونَ رِوَايَتَهُ كَالْإِجَازَةِ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ طَرِيقِ الْفِقْهِ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ سَمَاعَهُ. تَاسِعَ عَشَرَهَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ إذَا تَعَارَضَتْ، وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَإِلَّا قُدِّمَ أَحَدُهُمَا لِمُرَجِّحٍ، وَأَمَّا فِي الشَّهَادَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ، فَالْمَذْهَبُ التَّسَاقُطُ، وَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ. الْعِشْرُونَ: عِنْدَ الرِّوَايَةِ فِي الرِّوَايَةِ تُرَجَّحُ بِكَثْرَةِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، عَلَى خِلَافٍ فِيهِ يَأْتِي فِي التَّرَاجِيحِ. الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ: يَمْتَنِعُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهَا فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَفِي أَخْذِ الْأُجْرَةِ عَلَى التَّحْدِيثِ خِلَافٌ، وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ الصَّلَاحِ بِجَوَازِ أَخْذِهَا لِمَنْ يَنْقَطِعُ عَنْ الْكَسْبِ.
ضَابِطٌ [أَسْمَاءُ الْخَبَرِ فِي مُخْتَلِفِ أَحْوَالِهِ] الْخَبَرُ إنْ كَانَ حُكْمًا عَامًّا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمَّةِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدُهُ السَّمَاعَ، فَهُوَ الرِّوَايَةُ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَنَدُهُ الْفَهْمَ مِنْ الْمَسْمُوعِ، فَهُوَ الْفَتْوَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا جُزْئِيًّا يَتَعَلَّقُ بِمُعَيَّنٍ مُسْتَنَدُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَوْ الْعِلْمُ، فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ حَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِالْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمُخْبَرِ بِهِ، هُوَ مُسْتَحِقُّهُ، أَوْ نَائِبُهُ، فَهُوَ الدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ تَصْدِيقِ هَذَا الْخَبَرِ، فَهُوَ الْإِقْرَارُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ كَذِبِهِ فَهُوَ الْإِنْكَارُ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا نَشَأَ عَنْ دَلِيلٍ، فَهُوَ النَّتِيجَةُ، وَيُسَمَّى قَبْلَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ مَطْلُوبًا، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ شَيْءٍ يُقْصَدُ مِنْهُ نَتِيجَتُهُ، فَهُوَ دَلِيلٌ، وَجُزْؤُهُ مُقَدِّمَتُهُ.