الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ ": قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ: الزَّنَادِقَةُ وَالْخَوَارِجُ وَضَعُوا حَدِيثَ: «مَا أَتَاكُمْ عَنِيفًا عَرِّضُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَأَنَا قُلْته، وَإِنْ خَالَفَ فَلَمْ أَقُلْهُ» . قَالَ الْحَافِظُ: وَهَذَا لَا يَصِحُّ، وَقَدْ عَارَضَهُ قَوْمٌ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَعْرِضُهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ فَوَجَدْنَاهُ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ؛ لِأَنَّا لَمْ نَجِدْ فِيهِ: لَا يُقْبَلُ مِنْ الْحَدِيثِ إلَّا مَا وَافَقَ الْكِتَابَ، بَلْ وَجَدْنَا فِيهِ الْأَمْرَ بِطَاعَتِهِ، وَتَحْذِيرَ الْمُخَالَفَةِ عَنْ أَمْرِهِ حَكَمَ عَلَى كُلِّ حَالٍ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ فِي قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» : فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ يُقَالُ فِيهَا: آيٌ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " فِي بَابِ فَرْضِ طَاعَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: قَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَكُلُّ فَرِيضَةٍ فَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ كَالْحَجِّ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ لَوْلَا بَيَانُ الرَّسُولِ مَا كُنَّا نَعْرِفُ كَيْفَ نَأْتِيهَا، وَلَا كَانَ يُمْكِنُنَا أَدَاءُ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَإِذَا كَانَ الرَّسُولُ مِنْ الشَّرِيعَةِ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ كَانَتْ طَاعَتُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ طَاعَةً لِلَّهِ.
[مَسْأَلَةٌ السُّنَنُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ]
ٍ] قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ نَصَّ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ نَصِّ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ جُمْلَةَ كِتَابٍ، فَبَيَّنَ عَنْ اللَّهِ مَا أَرَادَ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ: مَا سَنَّ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم، وَلَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ [لَهُ بِمَا] فَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ تَوْفِيقِهِ لِرِضَاهُ، أَنْ يَسُنَّ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ كَمَا سَنَّ. انْتَهَى.
وَبِالْقَوْلِ الثَّانِي جَزَمَ أَبُو الْحَكَمِ بْنُ بُرْجَانَ، وَبَنَى عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْمُسَمَّى " بِالْإِرْشَادِ "، وَبَيَّنَ كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ مُفَصَّلًا، وَقَالَ: كُلُّ حَدِيثٍ فَفِي الْقُرْآنِ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ تَعْرِيضًا أَوْ تَصْرِيحًا، وَمَا قَالَ مُنْشِئٌ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ فِيهِ أَصْلُهُ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، فَهِمَهُ مَنْ فَهِمَهُ، وَعَمِهَ عَنْهُ مَنْ عَمِهَ. قَالَ تَعَالَى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] أَلَا يُسْمَعَ إلَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» . وَقَضَى بِالرَّجْمِ، وَلَيْسَ هُوَ نَصًّا فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَكِنْ تَعْرِيضٌ مُجْمَلٌ فِي قَوْلِهِ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8]
وَأَمَّا تَعْيِينُ الرَّجْمِ مِنْ عُمُومِ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَتَفْسِيرُ هَذَا الْمُجْمَلِ فَهُوَ مُبَيَّنٌ بِحُكْمِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ، وَبِأَمْرِهِ بِهِ، وَمَوْجُودٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . وَقَوْلُهُ: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وَهَكَذَا جَمِيعُ قَضَائِهِ وَحُكْمِهِ. وَإِنَّمَا يُدْرِكُ الطَّالِبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ وَبَذْلِ وُسْعِهِ، وَيَبْلُغُ مِنْهُ الرَّاغِبُ فِيهِ حَيْثُ بَلَّغَهُ رَبُّهُ تبارك وتعالى؛ لِأَنَّهُ وَاهِبُ النِّعَمِ. قَالَ: وَقَدْ نَبَّهَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا الْمَطْلَبِ بِمَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ خِطَابِهِ. مِنْهَا قَوْلُهُ عَنْ الْجَنَّةِ: «فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، بَلْهَ مَا أَطْلَعَكُمْ اللَّهُ عَلَيْهِ» ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لَهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَهُوَ يَعْمَلُ لَهَا» ، ثُمَّ قَرَأَ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6]{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7]{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8]{وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 9]{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] . وَمِنْهَا قَوْلُهُ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا» ، ثُمَّ قَالَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] فَأَعْلَمَ صلى الله عليه وسلم بِمَوَاضِعِ حَدِيثِهِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَنَبَّهَهُمْ عَلَى مِصْدَاقِ خِطَابِهِ مِنْ الْكِتَابِ؛ لِيَسْتَخْرِجَ عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ مَعَانِيَ حَدِيثِهِ مِنْهُ، طَلَبًا لِلْيَقِينِ وَحِرْصًا مِنْهُ عليه السلام عَلَى أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ الِارْتِيَابَ، وَأَنْ يَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ.