الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْفَصْلُ الثَّانِي فِيمَا يَنْعَقِدُ عَنْهُ الْإِجْمَاعُ]
ُ: وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِجْمَاعِ لَيْسَتْ لَهُمْ رُتْبَةُ الِاسْتِقْلَالِ بِإِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُونَهَا نَظَرًا إلَى أَدِلَّتِهَا وَمَأْخَذِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَنْ مُسْتَنَدٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْعَقَدَ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ لَاقْتَضَى إثْبَاتَ الشَّرْعِ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بَاطِلٌ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي بَابِ الْقِرَاضِ مِنْ النِّهَايَةِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: الْإِجْمَاعُ إنْ كَانَ حُجَّةً قَاطِعَةً سَمْعِيَّةً، فَلَا يَحْكُمُ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِإِجْمَاعِهِمْ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ الْإِجْمَاعُ عَنْ أَصْلٍ اهـ.
وَحَكَى عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ بِالْبَخْتِ وَالْمُصَادَفَةِ، بِأَنْ يُوَفِّقَهُمْ اللَّهُ لِاخْتِيَارِ الصَّوَابِ مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الْبَخْتِ، وَهُوَ التَّوْفِيقُ، وَغَلِطَ صَاحِبُ التَّحْصِيلِ فَظَنَّهُ بِمَعْنَى الشُّبْهَةِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: يَجُوزُ أَنْ يَحْصُلَ عَنْ تَوْفِيقٍ مِنْ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ، بِغَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ دَلَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يُوَفِّقَ اللَّهُ لِلصَّوَابِ بِالْإِلْهَامِ لِقَوْلِهِ:«مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ» وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَقَدْ يُتَرْجِمُ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ وَمُسْتَنَدٍ، وَذَكَرَ الْآمِدِيُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْجَوَازِ لَا فِي الْوُقُوعِ، وَلَيْسَ كَمَا
قَالَ، فَإِنَّ الْخُصُومَ ذَكَرُوا صُوَرًا، وَادَّعَوْا وُقُوعَ الْإِجْمَاعِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ مُسْتَنَدٍ. ثُمَّ ذَلِكَ الْمُسْتَنَدُ إمَّا مِنْ جِهَةِ الْكِتَابِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ ابْنَ الِابْنِ كَالِابْنِ فِي الْمِيرَاثِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَدَّيْنِ السُّدُسَ، وَعَلَى تَوْرِيثِ الْمَرْأَةِ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا بِالْخَبَرِ فِي امْرَأَةِ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ، أَوْ الِاسْتِفَاضَةِ، كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ، وَنُصُبِ الزَّكَوَاتِ، أَوْ عَنْ الْمُنَاظَرَةِ وَالْجِدَالِ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى قَتْلِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، أَوْ عَنْ تَوْقِيفٍ كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجُمُعَةَ تَسْقُطُ بِفَرْضِ الظُّهْرِ، أَوْ عَنْ اسْتِدْلَالٍ وَقِيَاسٍ، كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ الْجَوَامِيسَ فِي الزَّكَاةِ كَالْبَقَرِ. قَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ: وَكَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ (رضي الله عنه) بِتَقْدِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إيَّاهُ فِي مَرَضِهِ لِلصَّلَاةِ بِالنَّاسِ. قَالَ الصَّيْرَفِيُّ: وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ الْإِجْمَاعُ بِالتَّوَاطُؤِ، وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ لَا يَرْضَى بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ بِذَلِكَ، بَلْ يَتَبَاحَثُونَ، حَتَّى أَخْرَجَ بَعْضُهُمْ الْقَوْلَ فِي الْخِلَافِ إلَى الْمُبَاهَلَةِ، وَلَا يُمْكِنُ اخْتِلَافُهُمْ فِيمَا وَقَفُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَذْمُومٌ شَرْعًا.
فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يَقَعُ مِنْهُمْ إلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ، أَوْ دَلِيلٍ عَقَلَهُ جَمِيعُهُمْ، لَا لِأَنَّ غَيْرَهُ قَالَ بِهِ، فَقَالَ مَعَهُ. وَجَعَلَ الْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ أَصْلَ الْخِلَافِ أَنَّ الْإِلْهَامَ هَلْ هُوَ دَلِيلٌ أَمْ لَا؟ وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا بُدَّ مِنْ مُسْتَنَدٍ، فَلَا يَجِبُ الْبَحْثُ عَنْ مُسْتَنَدِهِمْ، إذْ قَدْ ثَبَتَتْ لَهُمْ الْعِصْمَةُ، وَلَا يَحْكُمُونَ إلَّا عَنْ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ، لَكِنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ،
وَأَكْثَرُ الْإِجْمَاعَاتِ قَدْ عُرِفَ مُسْتَنَدُهَا، وَحَكَى الْإِمَامُ فِي بَابِ الْقِيَاسِ عَنْ الشَّافِعِيِّ مَا يَقْتَضِي الْبَحْثَ عَنْ الْمُسْتَنَدِ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يُعْهَدْ الْقِرَاضُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَوَّلُ مَا جَرَى فِي زَمَنِ عُمَرَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ، وَلَوْ كَانَ فِي الْقِرَاضِ خَيْرٌ لَاعْتُنِيَ بِنَقْلِهِ.
مَسْأَلَةٌ اتَّفَقَ الْقَائِلُونَ بِالْمُسْتَنَدِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَلَالَةً، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَ أَمَارَةً عَلَى مَذَاهِبَ. أَحَدُهَا: الْجَوَازُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ جَلِيَّةً أَوْ خَفِيَّةً، كَالدَّلَالَةِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ "، وَجَوَّزَ الْإِجْمَاعَ عَنْ قِيَاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. قَالَ الرُّويَانِيُّ: وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا فِي جَوَازِ وُقُوعِ الْإِجْمَاعِ عَنْهُ فِي قِيَاسِ الْمَعْنَى عَلَى الْمَعْنَى وَالشَّرْطِ، وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَإِذَا وَقَعَ عَنْ الْأَمَارَةِ، وَهِيَ الْمُفِيدَةُ لِلظَّنِّ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ صَوَابًا لِلدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى الْعِصْمَةِ، وَمِنْ هُنَا قِيلَ: ظَنُّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنْ الْخَطَأِ مَقْطُوعٌ بِصِحَّتِهِ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ: اتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَعْدَ الْخِلَافِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَبِهِ قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ.
فَالظَّاهِرِيَّةُ مَنَعُوهُ لِأَجْلِ إنْكَارِهِمْ الْقِيَاسَ وَأَمَّا ابْنُ جَرِيرٍ، فَقَالَ: الْقِيَاسُ حُجَّةٌ، وَلَكِنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا صَدَرَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مَقْطُوعًا بِصِحَّتِهِ، هَكَذَا حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ. قَالَ: وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ جَعْفَرُ بْنُ مُبَشِّرٍ. ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الظَّاهِرِيَّةُ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَحَالَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ الْإِمْكَانَ، وَمَنَعَ الْوُقُوعَ، وَادَّعَوْا أَنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُهُ فِي الْجَمْعِ الْعَظِيمِ. وَحَكَى الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّهُ مَنَعَ مِنْهُ عَقْلًا، وَقَالَ: لَوْ وَقَعَ لَكَانَ حُجَّةً، غَيْرَ أَنَّهُ مَنَعَ وُقُوعَهُ؛ لِاخْتِلَافِ الدَّوَاعِي وَالْأَغْرَاضِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ. وَاحْتَجَّ ابْنُ الْقَطَّانِ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ بِأَنَّهُ وَافَقَ عَلَى وُقُوعِهِ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ، وَلَا يُقَالُ خَبَرُ الْوَاحِدِ أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كِلَاهُمَا سَوَاءٌ فِي إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ. وَمِنْ السُّنَّةِ أَنَّ إمَامَةَ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ثَبَتَتْ بِالْقِيَاسِ، لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه: رَضِينَاهُ لِدِينِنَا أَفَلَا نَرْضَاهُ لِدُنْيَانَا. ثُمَّ اُعْتُرِضَ بِإِجْرَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى خَلْفَهُ، وَأَجَابَ بِالْفَرْقِ، وَهُوَ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَمَرَهُ النَّبِيُّ عليه السلام، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَجَدَهُ يُصَلِّي، فَصَلَّى خَلْفَهُ، وَكَذَلِكَ صَدَقَةُ الْبَقَرِ ثَبَتَ [الْحُكْمُ] فِيهَا بِالنَّصِّ، ثُمَّ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْجَوَامِيسِ بِالْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَقَرِ، وَكَذَلِكَ أَجْمَعُوا عَلَى مِيقَاتِ ذَاتِ عِرْقٍ وَلَمْ يَقَعْ النَّصُّ. قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَخْبَارًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
أَنَّهُ وَقَّتَهُ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ. قَالَ: وَقَدْ أَدْخَلَ فِي هَذَا أَصْحَابُنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، كَصَدَقَةِ الذَّهَبِ وَفِيهَا أَحَادِيثُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: « (مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ) » ، وَالْأَمَةُ فِي مَعْنَاهُ، مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَبْدَ اسْمٌ لِكُلِّ رَقِيقٍ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى. قَالَ: وَمِنْ أَجْوَدِهِ أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ مِيرَاثَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا أَنَّهُ مِنْ بَعْدِ الْوَصِيَّةِ وَالدَّيْنِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ كَذَلِكَ. اهـ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ فِي الْأَمَارَةِ بَيْنَ الْجَلِيَّةِ، فَيَجُوزُ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَنْهَا، دُونَ الْخَفِيَّةِ. حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَكَذَا صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ " عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَبِي بَكْرٍ الْفَارِسِيِّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ. قَالَ: وَلِذَلِكَ اشْتَرَطَ فِي الْخَبَرِ الَّذِي انْعَقَدَ عَنْ الْإِجْمَاعِ كَوْنَهُ مَشْهُورًا. وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي الْقِيَاسِ إلَّا عَنْ أَمَارَةٍ، وَلَا يَجُوزُ عَنْ دَلَالَةِ لِلِاسْتِغْنَاءِ بِهَا عَنْهُ، حَكَاهُ السَّمَرْقَنْدِيُّ فِي " الْمِيزَانِ " عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِمْ، وَهُوَ غَرِيبٌ قَادِحٌ فِي إطْلَاقِ نَقْلِ جَمَاعَةٍ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِهِ عَنْ دَلَالَةٍ.
مَسْأَلَةٌ وَإِذَا جَوَّزْنَا انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ عَنْ الِاجْتِهَادِ، فَهَلْ وَقَعَ؟ فِيهِ خِلَافٌ، حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ، وَإِذَا قُلْنَا بِوُقُوعِهِ، فَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ أَمْ لَا؟ الْمَشْهُورُ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: نَعَمْ، وَحَكَى ابْنُ فُورَكٍ، وَعَبْدُ الْوَهَّابِ،
وَسُلَيْمٌ، عَنْ قَوْمٍ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَلَعَلَّهُ قَوْلُ ابْنِ جَرِيرٍ السَّابِقِ، وَحَكَاهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْ الْحَاكِمِ صَاحِبِ الْمُخْتَصَرِ. قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ. تَنْبِيهٌ: قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِيمَا إذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ عَنْ أَصْلٍ، فَأَمَّا الِاجْتِهَادُ عَنْ غَيْرِ أَصْلٌ كَالِاجْتِهَادِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَجِهَاتِ الْقِبْلَةِ، وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. فَمَنْ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِجْمَاعِ بِالْقِيَاسِ كَانَ مِنْ هَذَا أَمْنَعَ، وَمَنْ جَوَّزَ ثَمَّ اخْتَلَفُوا، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى امْتِنَاعِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَنْ مِثْلِ هَذَا الِاجْتِهَادِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ. فُرُوعٌ [لَا يَجِبُ مَعْرِفَةُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ] الْأَوَّلُ: قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ طَلَبُ الدَّلِيلِ الَّذِي وَقَعَ الْإِجْمَاعُ بِهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ ذَلِكَ أَوْ نُقِلَ إلَيْهِ كَانَ أَحَدَ أَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ السُّهَيْلِيُّ: إذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ دَلَالَةِ آيَةٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إلَّا عَنْ دَلَالَةٍ، وَلَا يَجِبُ مَعْرِفَتُهَا.
يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ دَلِيلِ الْإِجْمَاعِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْإِجْمَاعِ] الثَّانِي: قَالَ أَيْضًا: يَجُوزُ لِلْمُجْمِعِينَ تَرْكُ الدَّلِيلِ بَعْدَ اشْتِهَارِ الْمَسْأَلَةِ، وَانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَصْلُهُ ظَاهِرًا مُحْتَمِلًا أَوْ قِيَاسَ شَبَهٍ عَرَفَ الْعَصْرُ الْأَوَّلُ حِكْمَةَ الْمُشَاهَدَةِ عَلَى نَفْيِ الشَّبَهِ فَتَرَكُوا الدَّلِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكَرُّهِ التَّأْوِيلِ، وَيَقْتَصِرُونَ عَلَى إظْهَارِ الْحُكْمِ، لِيَكُونَ أَمْنَعَ مِنْ الْخِلَافِ، وَأَقْطَعَ لِلنِّزَاعِ.
[إذَا احْتَمَلَ إجْمَاعُهُمْ أَنْ يَكُونَ عَنْ قِيَاسٍ أَوْ تَوْقِيفٍ فَعَلَى أَيِّهِمَا يُحْمَلُ؟] الثَّالِثُ: إذَا احْتَمَلَ [أَنْ يَكُونَ] إجْمَاعُهُمْ عَنْ قِيَاسٍ لِإِمْكَانِهِ فِي الْحَادِثَةِ، أَوْ عَنْ دَلِيلٍ، فَهَلْ الْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَادِرًا عَنْ الْقِيَاسِ أَوْ عَنْ التَّوْقِيفِ؟ لَا أَعْلَمُ فِيهِ كَلَامًا لَلْأُصُولِيِّينَ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا فِي الْفُرُوعِ فِيهِ وَجْهَانِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ قَتَلَ الْحَمَامَ بِمَكَّةَ: إنَّ فِيهَا شَاةً؛ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي بِنَاءِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ إيجَابَهَا لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّبَهِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ. وَيَأْنَسُ بِالنَّاسِ، وَأَصَحُّهُمَا أَنَّ مُسْتَنَدَهُ تَوْقِيفٌ بَلَغَهُمْ فِيهِ. قُلْت: لَكِنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِمْ أَنَّهُمْ أَخَذُوهُ تَوْقِيفًا مَعَ قِيَامِ الِاحْتِمَالِ بِكَوْنِهِ اسْتِنْبَاطًا، وَعَلَى هَذَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ " فَقَالَ: أَمَّا مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ، فَذَكَرُوا أَنَّهُ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالُوا: وَأَمَّا مَا لَمْ يَحْكُوهُ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونُوا قَالُوهُ حِكَايَةً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاحْتُمِلَ غَيْرُهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِكَايَةً؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْكَى إلَّا مَسْمُوعًا.