الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إنْ تَعَلَّقَ بِهِ أَحَدُ طَرَفَيْهِ كَالْبُيُوعِ وَالْأَنْكِحَةِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَازِ فِي غَيْرِهِ مُسْتَدَلٌّ عَلَى إبَاحَتِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ أَوْصَافِهِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنْ عِبَادَاتِهِ، وَإِنْ فَعَلَهُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ مُتَدَاعِيَيْنِ أَوْ عَلَى جِهَةِ التَّوَسُّطِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ، وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ. قَالَ: وَمَا تَصَرَّفَ فِيهِ مِنْ أَمْلَاكِ الْغَيْرِ فَهُوَ بِالْإِجْمَاعِ مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ السَّبَبِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ وُجُوهِ الِاسْتِبَاحَةِ.
[السَّابِعُ مَا يَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ]
ِ إعْطَاءً، وَقَدْ حَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهَيْنِ فِي أَنَّ الرَّضْخَ لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مُسْتَحَبٌّ أَوْ وَاجِبٌ. قَالَ: وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُهُ، لَمْ يَتْرُكْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّضْخَ قَطُّ، وَلَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
[الثَّامِنِ الْفِعْلُ الْمُجَرَّدُ]
ُ عَمَّا سَبَقَ، فَإِنْ وَرَدَ بَيَانًا، كَقَوْلِهِ:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» ، وَ «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، أَوْ لِآيَةٍ كَالْقَطْعِ مِنْ الْكُوعِ الْمُبَيِّنِ لِآيَةِ السَّرِقَةِ، فَهُوَ دَلِيلٌ فِي حَقِّنَا، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَحَيْثُ وَرَدَ بَيَانًا لِمُجْمَلٍ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْمُجْمَلِ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا فَمَنْدُوبٌ، كَأَفْعَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالْكُسُوفِ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ إلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ، وَمَنْ أَبَاهُ مَنَعَ بَيَانَ الْمُجْمَلِ بِالْفِعْلِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ وَرَدَ مُبْتَدَأً، فَإِنْ عُلِمَتْ صِفَتُهُ فِي حَقِّهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ وَإِبَاحَةٍ، فَمَا حُكْمُ الْأُمَّةِ فِيهِ؟
اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى مَذَاهِبَ، أَصَحُّهَا: أَنَّ أُمَّتَهُ مِثْلُهُ، إلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ. وَثَانِيهَا: كَمَا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَثَالِثُهَا: مِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ دُونَ غَيْرِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ خَلَّادٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ. وَرَابِعُهَا: الْوَقْفُ، قَالَهُ الرَّازِيَّ: وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ شَرْعًا لَنَا إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: هَكَذَا أَوْرَدَهُ الْأَصْحَابُ. وَعِنْدِي أَنَّ مَا فَعَلَهُ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ سَوَاءٌ عُرِفَ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى جِهَةِ التَّقَرُّبِ أَوْ لَمْ يُعْرَفْ، فَإِنَّهُ شَرْعٌ لَنَا، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَخْصِيصِهِ بِهِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا الْمُحَقِّقُونَ، وَأَنَا أَقُولُ: إذَا عَلِمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ عَلِمْنَاهُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَعَلَيْنَا فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِفِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْنَا، بَلْ مَرْجِعُنَا إلَى الدَّلِيلِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ خُصُوصِيَّتِهِ، وَإِنْ عَلِمْنَاهُ مُخْتَصًّا بِهِ، فَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِي خَصَائِصِهِ، وَإِنْ شَكَكْنَا فَلَا دَلِيلَ عَلَى الْوُجُوبِ إلَّا أَدِلَّةُ الْقَائِلِينَ بِالْوُجُوبِ فِيمَا لَمْ تُعْلَمْ صِفَتُهُ، فَلَا حَاجَةَ إلَى فَرْضِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَهِيَ أَنَّهُ مَعْلُومُ الصِّفَةِ أَوَّلًا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَوْقَعَهُ نَدْبًا فَهُوَ عَلَى اخْتِيَارِنَا النَّدْبَ فِي
مَجْهُولِ الصِّفَةِ، أَوْ مُبَاحًا، فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ. اهـ مُلَخَّصًا. وَإِنْ لَمْ نَعْلَمْ صِفَتَهُ فِي حَقِّهِ، فَتَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ: فَذَهَبَتْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى حَمْلِهِ عَلَى الْوُجُوبِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَذَهَبَ آخَرُونَ إلَى أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَكِنْ يَقْتَضِي الِاسْتِحْبَابَ. قَالَ: وَفِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ الْقَفَّالِ، وَأَبِي حَامِدٍ الْمَرْوَزِيِّ، وَذَهَبَ الْوَاقِفِيَّةُ إلَى الْوَقْفِ، وَنَسَبَهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ لِأَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَيُحْكَى عَنْ الدَّقَّاقِ، وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَحَكَاهُ فِي " اللُّمَعِ " عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، وَأَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَمْ يَحْكِ الْإِمَامُ قَوْلَ الْإِبَاحَةِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْقُرْبَةِ لَا يُجَامِعُ اسْتِوَاءَ الطَّرَفَيْنِ، لَكِنَّ ابْنَ السَّمْعَانِيِّ حَكَاهُ حَمْلًا عَلَى أَقَلِّ الْأَحْوَالِ، وَكَذَا الْآمِدِيُّ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الْخِلَافِ الْآتِي فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا. وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ بِأَنَّ الْقَصْدَ بِفِعْلِ الْمُبَاحِ جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَيُثَابُ عليه السلام عَلَى هَذَا الْقَصْدِ، فَهُوَ قُرْبَةٌ فِي حَقِّهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
الثَّانِي: أَنْ لَا يَظْهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، بَلْ كَانَ مُجَرَّدًا مُطْلَقًا، وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ الْآتِي، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ التَّحْقِيقُ فِيمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا، وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ، وَإِلَّا كَانَ ظَاهِرًا فِي النَّدْبِ، وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ. وَأَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ
فِي حَقِّنَا وَحَقِّهِ مَا لَمْ يَمْنَعْ مَانِعٌ، وَنَسَبُوهُ لِابْنِ سُرَيْجٍ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهُوَ زَلَلٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُ، وَهُوَ أَجَلُّ قَدْرًا مِنْ ذَلِكَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ عَنْ الْإِصْطَخْرِيِّ، وَابْنِ خَيْرَانَ، وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالطَّبَرِيِّ، وَأَكْثَرِ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، وَقَالَ سُلَيْمٌ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَصَرَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الْأَشْبَهُ بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. لَكِنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا فِيمَا ظَهَرَ فِيهِ قَصْدُ الْقُرْبَةِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَنَصَرَ أَدِلَّتَهُ.
قَالَ: وَأَخَذُوهُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ [فِي الرَّدِّ] عَلَى أَهْلِ الْعِرَاقِ فِي سُنَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَوَامِرِهِ: أَجْمَعْنَا أَنَّ الْأَمْرَ يَخْتَصُّ بِهِ الظَّاهِرُ، فَهُوَ إذَا انْفَرَدَ بِنَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي " الْمَعَالِمِ ". وَمِنْ هَذَا الْبَابِ جُلُوسُهُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا فِعْلُهُ عليه السلام. وَرَأَى الشَّافِعِيُّ فَسَادَ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ، وَالْقَوْلُ بِوُجُوبِ التَّأَسِّي فِي حَقِّنَا هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ، وَاخْتَارَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: إنَّهُ اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ أَئِمَّةُ الْمَالِكِيَّةِ فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ وَالْفُرُوعِيَّةِ، وَفُرُوعُ الْمَذْهَبِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، مِنْهُمْ الْكَرْخِيّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ قَالَ الْقَاضِي: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ عَلَى طَرِيقَيْنِ، فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّا نُدْرِكُ الْوُجُوبَ بِالْعَقْلِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّا نُدْرِكُهُ بِالسَّمْعِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَدَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ. وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: الصَّحِيحُ
أَنَّهُ لَا أَقِيسُ مِنْ حَيْثُ الْعَقْلُ؛ لِأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ، وَالْمُخَالِفُ يُسَلِّمُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: دَلِيلُ السَّمْعِ دَلَّ عَلَيْهِ، فَيَرْجِعُ النِّزَاعُ إلَى دَلِيلِ السَّمْعِ، إذَنْ لَا مُتَعَلَّقَ لَهُمْ، وَالْأَلْفَاظُ دَلَّتْ عَلَى التَّأَسِّي بِهِ، وَتَهْدِيدُ تَارِكِ التَّأَسِّي بِهِ وَالِاتِّبَاعِ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي وَابْنُ الصَّبَّاغِ، وَسُلَيْمٌ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ وَالْقَفَّالِ الْكَبِيرِ. فَأَمَّا النَّقْلُ عَنْ الْقَفَّالِ فَصَحِيحٌ، فَقَدْ رَأَيْته فِي كِتَابِهِ، وَعِبَارَتُهُ لَا تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَنَا أُسْوَةٌ بِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِهِ حَتَّى يُوقَفَ عَلَى الْخُصُوصِ، وَأَمَّا الصَّيْرَفِيُّ فَسَيَأْتِي عَنْهُ الْوَقْفُ، وَنَسَبَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إنَّهُ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، وَأَطْنَبَ أَبُو شَامَةَ فِي نُصْرَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مُبَاحٌ، وَلَا يُفِيدُ إلَّا ارْتِفَاعَ الْحَرَجِ عَنْ الْأُمَّةِ لَا غَيْرُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ. وَنَقَلَهُ الدَّبُوسِيُّ فِي " التَّقْوِيمِ " عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ فِي " الْبُرْهَانِ "، وَأَطْنَبَ فِي الرَّدِّ عَلَى الْأَوَّلِينَ، وَنُقِلَ عَنْ مَالِكٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلَيْسَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أَصْحَابِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: وَنَسَبُوهُ إلَى الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ، فِي صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: وَلَا أَدْرِي أَفَرْضٌ أَوْ تَطَوُّعٌ؟ وَلَا أَدْرِي الْفَرِيضَةُ تُجْزِئُ عَنْهَا أَمْ لَا؟ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ إنْ صَلَّاهُمَا أَنَّ عَلَيْنَا صَلَاتَهُمَا، وَإِنَّمَا مَنَعَنَا مِنْ إيجَابِهِمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الطَّوَافَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الصَّلَاةَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فِعْلَهُ عليه السلام غَيْرُ وَاجِبٍ.
قَالَ: وَذَكَرَ أَيْضًا فِي الْأَمْرِ قَوْلَ عَائِشَةَ: «فَعَلْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ، اغْتَسَلْنَا» وقَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِمَاعُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إنْزَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَهْرَ. وَلَمْ يَعُدْ إلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، بَلْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ:{وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ} [النساء: 43] وَبِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى إيجَابِ الْمَهْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إنْزَالٌ، فَكَذَلِكَ الْغُسْلُ، فَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ عِنْدَهُ وَاجِبًا لَكَانَ أَوْلَى مَا يَحْتَجُّ بِهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَالْقَائِلُونَ بِالْوُجُوبِ أَوَّلُوا هَذَا إلَى قَوْلِهِمْ. اهـ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ عَلَى الْوَقْفِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْوَقْفِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الصَّيْرَفِيُّ كَمَا رَأَيْت التَّصْرِيحَ بِهِ فِي كِتَابِهِ " الدَّلَائِلِ "، وَنَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ. قَالَ: وَاخْتَارَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الدَّقَّاقُ وَأَبُو الْقَاسِمِ بْنُ كَجٍّ، وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الصَّحِيحُ، وَكَذَا صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ "، وَنَقَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ ابْنُ كَجٍّ وَالدَّقَّاقُ وَالسُّرَيْجِيُّ قَالَ: وَقَالُوا: لَا نَدْرِي إنَّهُ لِلْوُجُوبِ أَوْ لِلنَّدَبِ أَوَلِلْإِبَاحَةِ؛ لِاحْتِمَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ كُلِّهَا، وَاحْتِمَالِ أَنَّهُ مِنْ خَصَائِصِهِ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ وَالْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ وَأَتْبَاعُهُ. وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ وَالصَّيْرَفِيِّ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هَذَا الْقَوْلُ بَعِيدٌ جِدًّا عَنْ الْمَذْهَبِ، إلَّا أَنَّهُ أَقْيَسُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، وَصَحَّحَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَذَكَرَهُ عَنْ أَحْمَدَ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِلْوَقْفِ فِي أَفْعَالِهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا الْوَقْفُ فِي تَعْدِيَةِ
حُكْمِهِ إلَى الْأُمَّةِ، وَثُبُوتِ التَّأَسِّي، وَإِنْ عُرِفَتْ جِهَةُ فِعْلِهِ، وَالثَّانِي: الْوَقْفُ فِي تَعْيِينِ جِهَةِ فِعْلِهِ مِنْ وُجُوبٍ أَوْ اسْتِحْبَابٍ، وَإِنْ كَانَ التَّأَسِّي ثَابِتًا، وَهُوَ بِهَذَا يَئُولُ إلَى قَوْلِ النَّدْبِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْحَظْرِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ، وَتَبِعَهُ الْآمِدِيُّ وَالْهِنْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ مَنْ جَوَّزَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ الْمَعَاصِي، وَهُوَ سُوءُ فَهْمٍ. فَإِنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَقُولُ: إنَّ غَيْرَهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ فِيهَا. لَا إنْ وَقَعَ مِنْهُ يَكُونُ حَرَامًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَا: ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ اتِّبَاعُهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهَا عَلَى الْحَظْرِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَمًا فِي تَثْبِيتِ حُكْمٍ، فَبَقِيَ الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي قَضِيَّةِ الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرَائِعِ. تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ يَجْرِي فِي حُكْمِ الْفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ حُكْمَنَا حُكْمُهُ فِي الْأَفْعَالِ الْمَعْرُوفَةِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ رَأَيْت ابْنَ النَّفِيسِ قَالَ فِي كِتَابِهِ " الْإِيضَاحِ ": الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْعِبَادَاتِ فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِهَا وَهُوَ دُنْيَوِيٌّ كَالتَّنَزُّهِ، فَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ، وَإِلَّا كَانَ ظَاهِرًا فِي النَّدْبِ، وَيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَحَكَى الْخِلَافَ السَّابِقَ.