الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيِّ]
ِّ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَلَا شَكَّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ بَعْضِهِمْ وَسُكُوتُ الْبَاقِينَ بَعْدَ انْتِشَارِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ مَعَهُمْ اعْتِرَافٌ أَوْ رِضًا بِهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِجْمَاعُ السُّكُوتِيُّ، وَفِيهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ، وَحُكِيَ عَنْ دَاوُد وَابْنِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الْمَصَادِرِ "، وَعَزَاهُ جَمَاعَةٌ إلَى الشَّافِعِيِّ، مِنْهُمْ الْقَاضِي، وَاخْتَارَهُ. وَقَالَ: إنَّهُ آخِرُ أَقْوَالِهِ، وَلِهَذَا قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ "، وَالْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَالْآمِدِيَّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِهِ، وَلِهَذَا قَالَ: وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ. قَالَ: وَهِيَ مِنْ عِبَارَاتِهِ الرَّشِيقَةِ. قُلْت: وَمَعْنَاهُ لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ تَعْيِينُ قَوْلٍ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ يَحْتَمِلُ التَّصْوِيبَ، أَوْ لِتَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ أَوْ الشَّكِّ، فَلَا يُنْسَبُ إلَيْهِ تَعْيِينٌ، وَإِلَّا
فَهُوَ قَائِلٌ بِأَحَدِ هَذِهِ الْجِهَاتِ قَطْعًا، ثُمَّ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، أَعْنِي أَنْ لَا يُنْسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ إلَّا بِدَلِيلِ عَلَى أَنَّ سُكُوتَهُ كَالْقَوْلِ أَوْ حَقِيقَةٍ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ عَدَمٌ مَحْضٌ، وَالْأَحْكَامُ لَا تُسْتَفَادُ مِنْ الْعَدَمِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَ غَيْرِهِ وَهُوَ سَاكِتٌ، يَضْمَنُ الْمُتْلَفُ. أَمَّا إذَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إلَى السَّاكِتِ عُمِلَ بِهِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِكْرِ:«إذْنُهَا صُمَاتُهَا» وَقَوْلُنَا: إنَّ إقْرَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مَعَ عِلْمِهِ بِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى إنْكَارِهِ حُجَّةٌ، وَسُكُوتُ أَحَدِ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عَنْ الْجَوَابِ لَا يُعَدُّ انْقِطَاعًا فِي التَّحْقِيقِ إلَّا بِإِقْرَارِهِ أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وَإِلَّا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ لَا يَدُلُّ عَلَى الِانْقِطَاعِ، لِتَرَدُّدِهِ بَيْنَ اسْتِحْضَارِ الدَّلِيلِ، وَتَرَفُّعِهِ عَنْ الْخَصْمِ؛ لِظُهُورِ بَلَادَتِهِ، أَوْ تَعْظِيمِهِ، أَوْ إجْلَالِهِ عَنْ انْقِطَاعِهِ مَعَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيِّينَ، وَالْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ، وَشَيْخِنَا أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ: وَإِلَيْهِ ذَهَبَ كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ الْكَرْخِيّ. وَنَصَّ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ، وَالدَّبُوسِيُّ فِي التَّقْوِيمِ "، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا. وَحَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا حَكَى الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَاكِسَيْنِ فِي التَّفْصِيلِ بَيْنَ الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ، قَالَ: وَعِلَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إجْمَاعًا، وَهَذَا مُفَسَّرٌ بِقَوْلِ
الشَّافِعِيِّ: إنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ إذَا انْتَشَرَ فَإِجْمَاعٌ، وَلَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ، هَذَا كَلَامُهُ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ ": لَا تَغْتَرَّنَّ بِإِطْلَاقِ الْمُتَسَاهِلِ الْقَائِلِ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، بَلْ الصَّوَابُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِجْمَاعٌ. وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي كُتُبِ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ فِي الْأُصُولِ، وَمُقَدِّمَاتِ كُتُبِهِمْ الْمَبْسُوطَةِ فِي الْفُرُوعِ، كَتَعْلِيقَةِ " الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَالْحَاوِي "، وَمَجْمُوعِ الْمَحَامِلِيِّ ". وَالشَّامِلِ " وَغَيْرِهِمْ. انْتَهَى.
وَيَشْهَدُ لَهُ أَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - احْتَجَّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ " لِإِثْبَاتِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ عَمِلَ بِهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْبَاقِينَ إنْكَارٌ لِذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَلَ ذَلِكَ نَصًّا عَنْ جَمِيعِهِمْ، بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا نُقِلَ عَنْ جَمْعٍ مَعَ الِاشْتِهَارِ بِسُكُوتِ الْبَاقِينَ لَكِنَّهُ صَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ الْأُمِّ " بِخِلَافِهِ، فَقَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَسَّمَ فَسَوَّى بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يُفَضِّلْ بَيْنَ أَحَدٍ بِسَابِقَةٍ وَلَا نَسَبٍ، ثُمَّ قَسَّمَ عُمَرُ، فَأَلْغَى الْعَبْدَ، وَفَضَّلَ بِالنَّسَبِ وَالسَّابِقَةِ، ثُمَّ قَسَّمَ عَلِيٌّ فَأَلْغَى الْعَبِيدَ، وَسَوَّى بَيْنَ النَّاسِ، وَلَمْ يَمْنَعْ أَحَدٌ مِنْ أَخْذِ مَا أَعْطَوْهُ. قَالَ: وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ لِحَاكِمِهِمْ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ عَلَى خِلَافِ رَأْيِهِ. قَالَ: فَلَا يُقَالُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا إجْمَاعٌ، وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فِعْلُهُ، وَإِلَى عُمَرَ فِعْلُهُ، وَإِلَى عَلِيٍّ فِعْلُهُ، وَلَا يُقَالُ لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَخَذَ
مِنْهُمْ مُوَافَقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ، وَلَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى كُلٍّ قَوْلُهُ وَعَمَلُهُ.
وَفِي هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ فِي كَثِيرٍ مِنْ خَاصِّ الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ مَنْ يَدَّعِيهِ. اهـ وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَنْزِلَ الْقَوْلَانِ عَلَى حَالَيْنِ، فَقَوْلُ النَّفْيِ عَلَى مَا إذَا صَدَرَ مِنْ حَاكِمٍ، وَقَوْلُ الْإِثْبَاتِ عَلَى مَا إذَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِهِ، وَالنَّصُّ الَّذِي سُقْنَاهُ مِنْ الرِّسَالَةِ " شَاهِدٌ لِذَلِكَ، وَهُوَ يُؤَيِّدُ تَفْصِيلَ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ الْآتِيَ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَنْزِيلِ الْقَوْلَيْنِ طَرِيقِينَ: أَحَدَهُمَا: حَيْثُ أَثْبَتَ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ إجْمَاعٌ، أَرَادَ بِذَلِكَ عَصْرَ الصَّحَابَةِ، كَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ، وَحَيْثُ قَالَ: لَا يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلٌ أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ يُجْعَلَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ مُتَنَاقِضَانِ، كَمَا ظَنَّ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي الْمَعَالِمِ "، وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا سَيَأْتِي مِنْ كَلَامِ جَمَاعَةٍ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ. وَالثَّانِيَ: أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُهُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقَضَايَا الَّتِي تَعُمُّ بِهَا الْبَلْوَى، وَيُحْمَلُ الْقَوْلُ الْآخَرُ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، كَمَا اخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَبِالْقِيَاسِ مِمَّا يَتَكَرَّرُ، وَتَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الطَّرِيقِينَ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ التِّلِمْسَانِيِّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا. قُلْت: النَّصُّ الَّذِي سُقْنَاهُ مِنْ الْأُمِّ يَدْفَعُ كُلًّا مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، فَإِنَّهُ نَفَاهُ
فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَفِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، وَيَحْتَمِلُ ثَالِثَةً: وَهِيَ التَّعْمِيمُ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ: هُوَ فِي مَعْنَى الْإِجْمَاعِ، وَإِنْ كُنَّا نُسَمِّيهِ إجْمَاعًا، فَهُوَ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا قَوْلَ الشَّافِعِيِّ: مَنْ نَسَبَ إلَى سَاكِتٍ قَوْلًا فَقَدْ أَخْطَأَ، فَإِنَّا لَمْ نَقُلْ: إنَّهُمْ قَالُوا: وَإِنَّمَا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى رِضَاهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أُمَّتَنَا بِأَنَّهُمْ آمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، نَاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ خَطَأً، وَلَمْ يُنْكِرْهُ، لَزِمَ وُقُوعُ خِلَافِ الْخَبَرِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ فِي الشَّرْحِ ": الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْإِجْمَاعَ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ. وَهَلْ هُوَ إجْمَاعٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ وَلَمْ يُرَجِّحْ شَيْئًا. وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ. فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ " إنَّهُ الْمَذْهَبُ. وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي أَوَائِلِ الْبَحْرِ ": إنَّهُ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا. وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَقِيلَ: وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: - وَبِهِ قَالَ الْأَكْثَرُونَ - إنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عَلَى الْمُنْكَرِ. وَالثَّانِي: الْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ رحمه الله قَالَ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ. قَالَ: وَهَذَا الْخِلَافُ رَاجِعٌ إلَى الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ حُجَّةٌ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، وَيَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ قَطْعًا. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي ": إذَا لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ رِضًا وَلَا إنْكَارٌ وَانْقَرَضَ الْعَصْرُ، فَذَهَبَ بَعْضٌ إلَى أَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ وَلَا حُجَّةٍ. وَقَالَ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا: حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُمْ حَتَّى انْقَرَضُوا مَعَ إضْمَارِهِمْ الْإِنْكَارَ بَعِيدٌ. وَهَلْ يَكُونُ إجْمَاعًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ، وَالْقَطْعُ بِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أَوَّلِ تَعْلِيقِهِ فِي الْفِقْهِ ": هُوَ حُجَّةٌ مَقْطُوعٌ بِهَا وَفِي تَسْمِيَتِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: الْمَنْعُ وَإِنَّمَا هُوَ حُجَّةٌ كَالْخَبَرِ. وَالثَّانِي: يُسَمَّى إجْمَاعًا، وَهُوَ قَوْلٌ لَنَا. اهـ. قَالَ ابْنُ الرِّفْعَةِ فِي الْمَطْلَبِ ": الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْفَرْعِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي أَوَائِلِ كُتُبِهِمْ أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَهَلْ هُوَ إجْمَاعٌ أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَحَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " عَنْ أَبِي هَاشِمٍ. وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَنَا كَمَا سَبَقَ مِنْ كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ "، وَابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: هُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ إجْمَاعٌ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ مَا عَلِمْنَا فِيهِ مُوَافَقَةَ الْجَمَاعَةِ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ.
وَإِنَّمَا قِيلَ بِهَذَا الْقَوْلِ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ مَعْدُومٌ، وَالْقَوْلُ فِي أَهْلِ الْحُجَّةِ شَائِعٌ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ ": عَمَلُ الصَّحَابِيِّ مُنْتَشِرٌ فِي الصَّحَابَةِ لَا يُنْكِرُهُ مُنْكِرٌ حَتَّى انْقَرَضَ الْعَصْرُ، فَهُوَ حُجَّةٌ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ، لَا مِنْ جِهَةِ الِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ لِعَدَمِ الْخِلَافِ مِنْ أَهْلِ الْحُجَّةِ. وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيُّ، وَوَافَقَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الْكَبِيرِ ". وَرَدَّدَ فِي الصَّغِيرِ " اخْتِيَارَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ إجْمَاعًا أَوْ حُجَّةً. وَقَيَّدَ الْآمِدِيُّ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِمَا قَبْلَ انْقِرَاضِ أَهْلِ الْعَصْرِ، فَأَمَّا بَعْدَهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ إجْمَاعًا.
وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: أَنَّ مُعْتَمَدَ الْقَائِلِينَ بِهَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ، وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِلَافِ هُنَا وَأَنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاعٍ، أَيْ قَطْعِيٍّ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ ابْنُ بَرْهَانٍ عَنْ الصَّيْرَفِيِّ، وَكَذَا ابْنُ الْحَاجِبِ، وَإِلَّا فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ، فَكَيْفَ يَنْقَسِمُ الشَّيْءُ إلَى نَفْسِهِ وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ حِكَايَةُ خِلَافٍ فِي أَنَّ لَفْظَ الْإِجْمَاعِ هَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَطْعِيِّ وَالظَّنِّيِّ، أَوْ يَخْتَصُّ بِالْقَطْعِيِّ؟ وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّ السُّكُوتِيَّ حُجَّةٌ مُثِيرَةٌ لِلظَّنِّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ قَطْعِيٌّ أَمْ ظَنِّيٌّ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ، وَالْبَنْدَنِيجِيّ: إنَّهُ مَقْطُوعٌ بِهِ، أَيْ أَنَّ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَا ظَنَنَّاهُ، لَا الْقَطْعَ بِحُصُولِ الْإِجْمَاعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ظَنِّيٌّ. تَنْبِيهٌ [لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ إجْمَاعٌ لَا حُجَّةٌ] قَالَ الْهِنْدِيُّ: لَمْ يَصِرْ أَحَدٌ إلَى عَكْسِ هَذَا، أَعْنِي إلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ، لَا حُجَّةٌ وَيُمْكِنُ الْقَوْلُ بِهِ، كَالْإِجْمَاعِ الْمَرْوِيِّ بِالْآحَادِ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَقُلْ بِحُجِّيَّتِهِ.
[الشَّرْطُ] الرَّابِعُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْعُدُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ السُّكُوتُ لَا عَنْ رِضًا. وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبِي إِسْحَاقَ، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ.
وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو طَاهِرٍ الْبَغْدَادِيُّ عَنْ الْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِنَا. وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ. قَالَ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ. فَيَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ الْعَصْرَ إذَا انْقَرَضَ، وَلَمْ يُخَالِفُوا، أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ، وَاخْتَارَهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ أَيْضًا، وَكَذَا الرُّويَانِيُّ فِي أَوَّلِ الْبَحْرِ "، بِشَرْطٍ فِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُحْكَمَ بِكَوْنِهِ حُجَّةً قَطْعًا وَإِجْمَاعًا، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ صَحَّ رُجُوعُهُ، وَعُدَّ خِلَافُهُ خِلَافًا. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ أَصَحُّ الْأَوْجُهِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ. قَالَ: فَأَمَّا مَا قَبْلَ الِانْقِرَاضِ، فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا. وَالثَّانِيَةُ: عَلَى وَجْهَيْنِ. وَكَلَامُ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا هُمْ الْمُشْتَرِطُونَ انْقِرَاضَ الْعَصْرِ فِي الْإِجْمَاعِ.
[الشَّرْطُ] الْخَامِسُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ إنْ كَانَ فُتْيَا لَا حُكْمًا وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ. كَذَا حَكَاهُ عَنْهُ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرَّافِعِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيُّ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ. وَاَلَّذِي فِي الْبَحْرِ " لِلرُّويَانِيِّ، وَالْأَوْسَطِ " لِابْنِ بَرْهَانٍ، وَالْمَحْصُولِ " لِلْإِمَامِ الرَّازِيَّ عَنْهُ:" لَا إنْ كَانَ مِنْ حَاكِمٍ ". وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ صُدُورِهِ عَنْ الْحَاكِمِ أَنْ يَكُونَ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ الْحُكْمِ. وَالْأَوَّلُ ظَاهِرُ نَقْلِ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ صَوَّرَ الْمَسْأَلَةَ بِمَا إذْ أَجْرَى سُكُوتَهُمْ عَلَى حُكْمٍ حَكَمَتْ بِهِ الْأَئِمَّةُ.
وَعِبَارَةُ الرُّويَانِيُّ عَنْهُ: " لَا إنْ كَانَ مِنْ إمَامٍ أَوْ حَاكِمٍ ". قَالَ: وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا: لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ خَالَفَ الصَّحَابَةُ فِي الْجَدِّ، وَعُمَرُ فِي الْمُشْتَرِكَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. عَلَى أَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا فِي هَذَا انْقِرَاضَ الْعَصْرِ وَمُحَابَاةَ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ اخْتَصَّ مَجْلِسُ حُكْمِهِ دُونَ غَيْرِهِ. قَالَ: وَهَذَا أَصَحُّ عِنْدِي، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَحْدَهُ هَلْ يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ؟ قَوْلَانِ. وَقَالَ الْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي ": لَوْ ظَهَرَ هَذَا مِنْ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ إمَّا بِطَرِيقِ الْفَتْوَى أَوْ الْقَضَاءِ، فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ سُكُوتُهُمْ دَلِيلَ الرِّضَا. قَالَ: وَغَيْرُهُ مِمَّنْ ذَهَبَ إلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَغَيْرِهِ، وَمُحَابَاةُ الْحَاكِمِ وَالْإِمَامِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ. اهـ.
وَنَقَلَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ احْتَجَّ بِهَذَا، بِأَنَّا نَحْضُرُ مَجْلِسَ بَعْضِ الْحُكَّامِ، وَنَرَاهُمْ يَقْضُونَ بِخِلَافِ مَذْهَبِنَا، وَلَا نُنْكِرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكُونُ سُكُوتُنَا رِضًا مِنَّا بِذَلِكَ. قَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَهُوَ تَقْرِيرٌ حَسَنٌ، لَا بَأْسَ بِهِ، وَهُوَ نَافِعٌ جِدًّا فِي صُورَتَيْ الْإِيرَادِ فِي مَسْأَلَةِ مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ، وَمَسْأَلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَعَ وُجُودِ الصِّغَارِ مِنْ الْوَرَثَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ انْتَشَرَ قَضَاءُ عُثْمَانَ فِي مِيرَاثِ الْمَبْتُوتَةِ. وَكَذَلِكَ قَتَلَ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ ابْنَ مُلْجِمٍ قِصَاصًا، مَعَ وُجُودِ الْوَرَثَةِ الصِّغَارِ، وَانْتَشَرَ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُقَدِّمُوا ذَلِكَ عَلَى الْقِيَاسِ. عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ مُخَالَفَةُ عُثْمَانَ، وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ لِابْنِ مُلْجِمٍ، فَفِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ؛ لِكَثْرَةِ الْفِتَنِ إذْ ذَاكَ. قَالَ: وَمِمَّا يُضَمُّ إلَى هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ الصَّادِرَ
مِنْ الْأَئِمَّةِ لَا يُمَاثِلُ الْفَتْوَى الصَّادِرَةَ مِنْ الْمُفْتِي، وَحِفْظُ الْأَدَبِ فِي تَرْكِ الِاعْتِرَاضِ عَلَى الْأَئِمَّةِ.
[الشَّرْطُ] السَّادِسُ عَكْسُهُ قَالَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْأَغْلَبَ أَنَّ الصَّادِرَ مِنْ الْحَاكِمِ يَكُونُ عَلَى مُشَاوَرَةٍ. وَهَذَا الْقَوْلُ حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَالصَّيْرَفِيِّ، إلَّا أَنَّهُ خَصَّهُ بِشَيْءٍ، وَعِبَارَتُهُ: إذَا سَكَتُوا عَنْ حُكْمِ الْأَئِمَّةِ حَتَّى انْقَرَضَ الْعَصْرُ، فَإِنَّ أَصْحَابَنَا اخْتَلَفُوا فِيهِ إذَا جَرَى عَلَى حُكْمِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إنَّهُ إجْمَاعٌ. انْتَهَى. ثُمَّ اخْتَارَ آخِرًا قَوْلَ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي هَذَا النَّقْلِ فَائِدَتَانِ. إحْدَاهُمَا: اشْتِرَاطُ انْقِرَاضِ الْعَصْرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ الْقَائِلَ بِالْأَوَّلِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، لَا الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْقَطَّانِ أَقْدَمُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْهِنْدِيَّ فِي نِهَايَتِهِ " نَقَلَهُ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي أَوْرَدَهَا ابْنُ كَجٍّ فِي كِتَابِهِ: إنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْفُتْيَا، فَهُوَ إجْمَاعٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْكُتُونَ عَنْ شَيْءٍ فِيهِ تَرْكُ الدِّينِ، وَهَلْ يُقْطَعُ عَلَى اللَّهِ عز وجل أَمْ لَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ كَانَ حُكْمًا وَانْقَرَضَ ذَلِكَ الْعَصْرُ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مُخَالِفٌ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ إجْمَاعٌ كَالْفُتْيَا، وَالثَّانِي: لَا.
الشَّرْطُ] السَّابِعُ إنْ وَقَعَ فِي شَيْءٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ مِنْ إرَاقَةِ دَمٍ، أَوْ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَفِي كَوْنِهِ إجْمَاعًا وَجْهَانِ. [الشَّرْطُ] الثَّامِنُ إنْ كَانَ السَّاكِتُونَ أَقَلَّ كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا وَاخْتَارَهُ الرَّازِيَّ، وَحَكَاهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ غَرِيبٌ لَا يَعْرِفُهُ أَصْحَابُهُ.
[الشَّرْطُ] التَّاسِعُ إنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ كَانَ إجْمَاعًا، وَإِلَّا فَلَا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي "، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": إنْ كَانَ فِي غَيْرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَا يَكُونُ انْتِشَارُ قَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مَعَ إمْسَاكِ غَيْرِهِ إجْمَاعًا وَلَا حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ قَوْلًا أَوْ حَكَمَ بِهِ فَأَمْسَكَ الْبَاقُونَ، فَهَذَا ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَإِرَاقَةِ دَمٍ، أَوْ اسْتِبَاحَةِ فَرْجٍ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اعْتَقَدُوا خِلَافَهُ لَأَنْكَرُوهُ، إذْ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَتَّفِقُوا عَلَى تَرْكِ إنْكَارِ مُنْكَرٍ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهُ كَانَ حُجَّةً؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَخْرُجُ عَنْ غَيْرِهِمْ. وَفِي كَوْنِهِ إجْمَاعًا يَمْنَعُ الِاجْتِهَادَ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ إجْمَاعًا لَا يَسُوغُ مَعَهُ الِاجْتِهَادُ، وَالثَّانِي: لَا يَكُونُ إجْمَاعًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَوْلُ فُتْيَا أَوْ حُكْمًا عَلَى الصَّحِيحِ. انْتَهَى. عَلَى أَنَّ الْمَاوَرْدِيَّ أَلْحَقَ التَّابِعِينَ بِالصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ. ذَكَرَهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ مِنْ الْحَاوِي "، وَأَنَّ الْحُكْمَ بِالْمُمَاثَلَةِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَمْنَعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِمَنْ بَعْدَهُمْ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْوَافِي " هُنَاكَ إلْحَاقَ تَابِعِي التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَثْنَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ» ، وَصَرَّحَ الرَّافِعِيُّ تَبَعًا لِلْقَاضِي الْحُسَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي بِأَنَّ غَيْرَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ كَذَلِكَ.
[الشَّرْطُ] الْعَاشِرُ أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَدُومُ وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهُ وَالْخَوْضُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ السُّكُوتُ إجْمَاعًا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي آخِرِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إذَا فُرِضَ السُّكُوتُ فِي الزَّمَنِ الْيَسِيرِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَنْخُولِ ": الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا فِي صُورَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: سُكُوتُهُمْ، وَقَدْ قَطَعَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَاطِعٌ، لَا فِي مَظِنَّةِ الْقَطْعِ، وَالدَّوَاعِي تَتَوَفَّرُ عَلَى الرَّدِّ عَلَيْهِ.
الثَّانِيَةُ: مَا يَسْكُتُونَ عَلَيْهِ عَلَى اسْتِمْرَارِ الْعَصْرِ، وَيَكُونُ الْوَاقِعُ بِحَيْثُ لَا يُبْدِي أَحَدٌ خِلَافًا، فَأَمَّا إذَا حَضَرُوا مَجْلِسًا، فَأَفْتَى وَاحِدٌ وَسَكَتَ آخَرُونَ، فَذَلِكَ اعْتِرَاضٌ؛ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَظْنُونَةً، وَالْأَدَبُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَعْتَرِضَ عَلَى الْقُضَاةِ وَالْمُفْتِينَ.
[الشَّرْطُ] الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ قَطْعِيٌّ أَوْ حُجَّةٌ ظَنِّيَّةٌ فَيُحْتَجُّ بِهِ عَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ، وَنَحْنُ مُتَرَدِّدُونَ فِي أَيِّهِمَا أَرْجَحُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي الصَّغِيرِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ حِكَايَةُ طَرِيقَيْنِ آخَرَيْنِ، فَإِنَّهُ حَكَى قَوْلًا أَنَّهُ إنْ كَانَ حُكْمًا، فَهُوَ إجْمَاعٌ، أَوْ فَتْوَى فَقَوْلَانِ، وَحَكَى عَكْسَهُ أَيْضًا.
[الشَّرْطُ] الثَّانِيَ عَشَرَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ بِشَرْطِ إفَادَةِ الْقَرَائِنِ الْعِلْمَ بِالرِّضَا أَيْ يُوجَدُ مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَى السَّاكِتِينَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ. وَاخْتَارَهُ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى ". وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّهُ أَحَقُّ الْأَقْوَالِ؛ لِأَنَّ إفَادَةَ الْقَرَائِنِ الْعِلْمُ بِالرِّضَا، كَإِفَادَةِ النُّطْقِ لَهُ، فَيَصِيرُ كَالْإِجْمَاعِ
الْقَطْعِيِّ مِنْ الْجَمِيعِ. وَسَيَأْتِي أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ مَوْطِنِ الْخِلَافِ. قَالَ فِي الْقَوَاطِعِ ": وَالْمَسْأَلَةُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الطَّيِّبِ فِي إثْبَاتِ الْإِجْمَاعِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَرْتِيبًا فِي الِاسْتِدْلَالِ اسْتَحْسَنَهُ، فَأَوْرَدْتُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِمْ. قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يَجُوزُ إجْمَاعُهُمْ عَلَى الْخَطَأِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَمَا عَدَاهُ بَاطِلٌ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ، فَلَا يَخْلُو الْقَوْلُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، فَإِنْ كَانَ حَقًّا وَجَبَ اتِّبَاعُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَلَا يَخْلُو عِنْدَ سَائِرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ. إمَّا أَنْ لَا يَكُونُوا اجْتَهَدُوا، أَوْ اجْتَهَدُوا وَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، أَوْ أَدَّى إلَى صِحَّةِ الَّذِي ظَهَرَ خِلَافُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتَهَدُوا؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ مُخَالِفَةٌ لِهَذَا؛ وَلِأَنَّ النَّازِلَةَ إذَا نَزَلَتْ فَالْعَادَةُ أَنَّ كُلَّ أَهْلِ النَّظَرِ يَرْجِعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاجْتِهَادِ؛ وَلِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى خُرُوجِ أَهْلِ الْعَصْرِ بَعْضُهُمْ بِتَرْكِ الِاجْتِهَادِ، وَبَعْضُهُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُجْمِعُونَ عَلَى الْخَطَأِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا فَلَمْ يُؤَدِّ اجْتِهَادُهُمْ إلَى شَيْءٍ يَجِبُ اعْتِقَادُهُ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى خَفَاءِ الْحَقِّ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ مُحَالٌ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُمْ اجْتَهَدُوا، فَأَدَّى اجْتِهَادُهُمْ إلَى خِلَافِهِ، إلَّا أَنَّهُمْ كَتَمُوا؛ لِأَنَّ إظْهَارَ الْحَقِّ
وَاجِبٌ، لَا سِيَّمَا مَعَ ظُهُورِ قَوْلٍ هُوَ بَاطِلٌ. وَإِذَا بَطَلَتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ إنَّمَا سَكَتُوا لِرِضَاهُمْ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الْقَوْلِ فَصَارَ كَالنُّطْقِ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: [قُيُودٌ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْإِجْمَاعِ السُّكُوتِيُّ] لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قُيُودٌ. الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ فِي مَسَائِلِ التَّكْلِيفِ، فَقَوْلُ الْقَائِلِ: عَمَّارٌ أَفْضَلُ مِنْ حُذَيْفَةَ، لَا يَدُلُّ السُّكُوتُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ إذْ لَا تَكْلِيفَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ. قَالَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَغَيْرُهُمْ. الْقَيْدُ الثَّانِي: أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ بَلَغَ جَمِيعَ أَهْلِ الْعَصْرِ، وَلَمْ يُنْكِرُوا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا. قَالَهُ الصَّيْرَفِيُّ وَغَيْرُهُ، وَوَرَاءَهُ حَالَتَانِ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ بُلُوغُهُمْ. فَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ إجْمَاعٌ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَهُ وَجَعَلَهُ دَرَجَةً دُونَ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَحْتَمِلَ بُلُوغُهُ وَعَدَمُهُ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَقِمْ لِلْحَنَفِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ فِي وَطْءِ الثَّيِّبِ، هَلْ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ؟ وَقِيلَ: حُجَّةٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَحَكَاهُ عَنْ مَالِكٍ، وَفَصَّلَ الرَّازِيَّ، وَالْبَيْضَاوِيُّ، وَالْهِنْدِيُّ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَوْلُ مِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى، كَنَقْضِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ، كَانَ كَالسُّكُوتِيِّ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ حُجَّةً.
وَإِذَا قُلْنَا: هُوَ حُجَّةٌ، فَلَيْسَ بِالْإِجْمَاعِ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: إجْمَاعٌ لِئَلَّا يَخْلُوَ الْعَصْرُ عَنْ قَائِمٍ بِالْحَقِّ.
وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ قَوْلًا، وَلَمْ يَنْتَشِرْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، قُدِّمَ عَلَى الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَهُ خَبَرٌ مُرْسَلٌ، فَإِنْ كَانَ مُتَجَرِّدًا عَنْ الْقِيَاسِ، فَهَلْ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ عَلَيْهِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ يُقَدَّمُ الْقِيَاسُ، وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ ": هَذَا إذَا بَلَغَ كُلَّ الصَّحَابَةِ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ فِي كُلِّهِمْ، وَلَمْ يَرَ فِيهِ خِلَافًا لِمَنْ بَعْدَهُمْ فَلَيْسَ بِإِجْمَاعٍ. وَهَلْ يَكُونُ حُجَّةً يُعْتَبَرُ بِمَا يُوَافِقُهُ مِنْ قِيَاسٍ أَوْ يُخَالِفُ؟ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسُ مُوَافِقًا، ثُمَّ يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً بِالْقِيَاسِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، فَالْقِيَاسُ أَوْلَى. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ، وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، فَقَوْلُهُ مَعَ الْقِيَاسِ أَوْلَى. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ قَوْلِهِ قِيَاسٌ خَفِيٌّ، وَيُخَالِفُهُ قِيَاسٌ جَلِيٌّ. قَالَ فِي الْقَدِيمِ: قَوْلُهُ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَوْلَى وَأَلْزَمُ مِنْ الْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ أَوْلَى بِالْعَمَلِ مِنْ قَوْلِهِ مَعَ الْقِيَاسِ الْخَفِيِّ.
وَقَالَ الرَّافِعِيُّ: هَذَا إذَا نُقِلَ السُّكُوتُ، فَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ قَوْلٌ وَلَا سُكُوتٌ، فَيَجُوزُ أَنْ لَا يُلْحَقَ بِهَذَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ شَيْئًا لَنُقِلَ كَمَا نُقِلَ اخْتِلَافُهُمْ فِي مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ. وَقَالَ فِي بَابِ الْفَرَائِضِ: إنَّهُ يُتْرَكُ لِلْقَوْلِ الْمُنْتَشِرِ - وَالْحَالَةُ هَذِهِ - الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ، وَيُعْتَضَدُ بِهِ الْخَفِيُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: الْمُخْتَارُ أَنَّ عَدَمَ النَّقْلِ، كَنَقْلِ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ. الْقَيْدُ الثَّالِثُ: كَوْنُ الْمَسْأَلَةِ مُجَرَّدَةً عَنْ الرِّضَى وَالْكَرَاهَةِ. فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الرِّضَا بِمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ فَهُوَ إجْمَاعٌ بِلَا خِلَافٍ. قَالَهُ الْقَاضِيَانِ الروياني
فِي الْبَحْرِ " وَعَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي "، وَجَرَى عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ.
وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ إنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ السُّخْطِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا قَطْعًا، وَكَلَامُهُمْ صَرِيحٌ فِي جَرَيَانِ الْخِلَافِ فِيهِ. أَمَّا إذَا اُسْتُصْحِبَ فِعْلٌ يُوَافِقُ الْفَتْوَى فَالْأُمَّةُ حِينَئِذٍ مُنْقَسِمَةٌ إلَى قَائِلٍ وَعَامِلٍ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ فَلَا نِزَاعَ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ ". الْقَيْدُ الرَّابِعُ: مَضَى زَمَنٌ يَسَعُ قَدْرَ مُهْلَةِ النَّظَرِ عَادَةً فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ، فَلَوْ احْتَمَلَ أَنَّ السَّاكِتِينَ كَانُوا فِي مُهْلَةِ النَّظَرِ لَمْ يَكُنْ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، ذَكَرَهُ الدَّبُوسِيُّ وَغَيْرُهُ. الْقَيْدُ الْخَامِسُ: أَنْ لَا يَتَكَرَّرَ ذَلِكَ مَعَ طُولِ الزَّمَانِ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ الْفُتْيَا، وَطَالَتْ الْمُدَّةُ مَعَ عَدَمِ الْمُخَالَفَةِ، فَإِنْ ظُنَّ مُخَالَفَتُهُمْ يَتَرَجَّحُ، بَلْ يُقْطَعُ بِهَا، ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَإِلْكِيَا. قَالَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ: لَا يُنْسَبُ إلَى سَاكِتٍ قَوْلٌ، أَرَادَ بِهِ مَا إذَا كَانَ السُّكُوتُ فِي الْمَجْلِسِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ السُّكُوتُ إلَّا كَذَلِكَ، وَفِي غَيْرِهِ لَا سُكُوتَ عَلَى الْحَقِيقَةِ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ أَيْضًا التِّلِمْسَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَعَالِمِ "، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ، بَلْ هُوَ إجْمَاعٌ وَحُجَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رحمه الله قَالَ: وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ عَلَى إثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْآحَادِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ فِي وَقَائِعَ. وَتَوَهَّمَ الْإِمَامُ فِي الْمَعَالِمِ " أَنَّ ذَلِكَ تَنَاقُضٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا لَمْ يَطُلْ الزَّمَانُ مَعَ تَكَرُّرِ الْوَقَائِعِ، فَإِنْ تَكَرَّرَتْ مَعَ الطُّولِ فَقَضِيَّةُ كَلَامِ الْقَاضِي جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ. الْقَيْدُ السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ. فَأَمَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِهَا فَلَا أَثَرَ لِلسُّكُوتِ قَطْعًا، كَإِفْتَاءِ مُقَلِّدٍ سَكَتَ عَنْهُ الْمُخَالِفُونَ لِلْعِلْمِ بِمَذْهَبِهِمْ
وَمَذْهَبِهِ، كَشَافِعِيِّ يُفْتِي بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ، فَلَا يَدُلُّ سُكُوتُ الْحَنَفِيِّ عَنْهُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ لِلْعِلْمِ بِاسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ، ذَكَرَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ. التَّنْبِيهُ الثَّانِي أَنَّ لَهُمْ فِي تَصْوِيرِ الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَيْنِ إحْدَاهُمَا: جَعْلُ ذَلِكَ عَامًّا فِي حَقِّ كُلِّ عَصْرٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ وَهُوَ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ فِي كُتُبِهِمْ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ "، وَالشَّيْخُ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَالرَّازِيَّ فِي كُتُبِهِ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ، وَالْآمِدِيَّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْقَرَافِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْوَسِيطِ ": إذَا انْتَشَرَ قَوْلُ التَّابِعِيِّ، وَلَمْ يُخَالَفْ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَالصَّحَابِيِّ. وَقِيلَ: لَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا. قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ إجْمَاعٌ. هَذَا هُوَ الَّذِي صَحَّحَهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ فِي الصَّحَابَةِ مَوْجُودٌ فِيهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَنْتَشِرْ قَوْلُ التَّابِعِيِّ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ بِلَا خِلَافٍ. انْتَهَى.
الثَّانِيَةَ: قَوْلُ مَنْ خَصَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ، مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي تَعْلِيقِهِ "، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي "، وَالصَّيْرَفِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابَيْهِمَا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ، وَابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " وَإِلْكِيَا، وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى " وَالْمَنْخُولِ " وَابْنُ بَرْهَانٍ،
وَالْخُوَارِزْمِيُّ فِي الْكَافِي "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ "، وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَاخْتَارَهُ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ، وَالْمُوَفَّقُ الْحَنْبَلِيُّ فِي الرَّوْضَةِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْأَلَةِ: وَخَصَّصَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِعَصْرِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا التَّابِعُونَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَلَا. قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ فَرْقٌ بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْأَوْلَى التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْجَمِيعِ. وَأَمَّا صَاحِبُ الْمَحْصُولِ "، فَأَطْلَقَ الْمَسْأَلَةَ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى إلَى فُرُوعِ انْتِشَارِ الْقَوْلِ وَاحْتِمَالِ بُلُوغِهِ لِلْبَاقِينَ خَصَّهُ بِالصَّحَابَةِ. وَتَوَهَّمَ الْبَيْضَاوِيُّ، وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ هَذَا الْقَيْدَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَأَنَّ الْفَرْعَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ نَقْلُ ابْنِ السَّمْعَانِيِّ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السُّكُوتَ دَلِيلُ الرِّضَا، فَانْتَهَضَ فِي الْإِجْمَاعِ. وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ هَذَا الْفَرْعُ يَخْتَصُّ بِهِمْ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْبَعْضِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ، فَلَا وَجْهَ لِهَذَا الْقَوْلِ إلَّا إذَا كَانَ الْقَائِلُ صَحَابِيًّا، فَيَقَعُ الْخِلَافُ نَاشِئًا عَنْ أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ، هَلْ هِيَ حُجَّةٌ؟ وَلِذَلِكَ أَشَارَ الْقَاضِي، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَغَيْرُهُمَا، إلَى أَنَّ هَذَا الْفَرْعَ هُوَ نَفْسُ الْكَلَامِ فِي أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ أَمْ لَا؟ وَأَجْرَوْا الْكَلَامَ فِيهِ إلَى مَوْضِعِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ عُرِفَ بُلُوغُهُ الْجَمِيعَ فَمَسْأَلَةُ السُّكُوتِيِّ، وَإِنْ ظُنَّ فَفِيهَا خِلَافٌ مُفَرَّعٌ عَلَى مَسْأَلَةِ السُّكُوتِيِّ، كَمَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا فَهِيَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْحُجِّيَّةِ فِيهَا إلَّا إنْ كَانَ مِنْ صَحَابِيٍّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ، وَمَنْ عَمَّمَ الْقَوْلَ فِيهَا لَمْ يُصِبْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَمَلًا أَصْلًا فَلَا وَجْهَ.