الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْمَذَاهِبُ فِي قَبُولِ رِوَايَةِ الْمُرْسَلِ]
ِ] وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِهِ وَكَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فِي الْمُرْسَلِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مَذْهَبًا: أَحَدُهَا: عَدَمُ قَبُولِ رِوَايَةِ مُرْسَلِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مُطْلَقًا، وَقَبُولُ مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ. قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ فِي " الْمُعْتَمَدِ ": وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، وَحَكَى الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ النَّبِيُّ كَذَا قُبِلَ، إلَّا إنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. وَالثَّانِي: قَبُولُهُ مِنْ الْعَدْلِ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ. وَالثَّالِثُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابِيِّ فَقَطْ حَكَاهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ فِي " شَرْحِ الْعُدَّةِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: وَأَمَّا مَرَاسِيلُ التَّابِعِينَ، فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِالشُّرُوطِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُ. وَالرَّابِعُ: لَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ أَيْضًا، وَحُكِيَ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، وَأَغْرَبَ ابْنُ بَرْهَانٍ فَقَالَ فِي " كِتَابِ الْأَوْسَطِ ": إنَّهُ الْأَصَحُّ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ فِي " شَرْحِ الْبُخَارِيِّ " تَصْرِيحًا عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ. وَالْخَامِسُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ هُوَ أَئِمَّةُ النَّقْلِ دُونَ غَيْرِهِمْ. وَالسَّادِسُ: لَا تُقْبَلُ إلَّا إنْ اُعْتُضِدَ بِأَمْرٍ خَارِجٍ بِأَنْ يُرْسِلَهُ صَحَابِيٌّ آخَرُ، أَوْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ يُرْسِلُهُ، أَوْ يُرْسِلَهُ رَاوٍ آخَرُ يَرْوِي عَنْ غَيْرِ شُيُوخِ
الْأَوَّلِ، أَوْ عَضَّدَهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ أَوْ فِعْلُهُ، أَوْ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَوْ الْقِيَاسُ، أَوْ عُرِفَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي عَنْ غَيْرِ عَدْلٍ، فَهُوَ حُجَّةٌ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ، وَوَافَقَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ.
السَّابِعُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ مَنْ صَغُرَ عَنْهُمْ. وَالثَّامِنُ: أَنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا عُرِفَ بِصَرِيحِ خَبَرِهِ، أَوْ عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ قُبِلَ مُرْسَلُهُ، وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ فَلَا يُقْبَلُ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى قَبُولِ رَدِّ الْمُرْسَلِ. وَالتَّاسِعُ: تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ مَنْ عُرِفَ مِنْهُ النَّظَرُ فِي أَحْوَالِ شُيُوخِهِ وَالتَّحَرِّي فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُعْرَفْ بِذَلِكَ. وَالْعَاشِرُ: يُقْبَلُ مُرْسَلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالْحَادِيَ عَشَرَ: مِنْ الْقَائِلِينَ بِقَبُولِهِ يُقَدَّمُ مَا أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلَى مَنْ لَيْسَ فِي دَرَجَتِهِمْ. حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الثِّقَاتِ أَوْلَى مِنْ الْمُسْنَدَاتِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيْءٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مُرْسَلُ الْإِمَامِ أَوْلَى مِنْ مُسْنَدِهِ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَيْسَ الْمُرْسَلُ أَوْلَى مِنْ الْمُسْنَدِ، بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الْحُجَّةِ وَالِاسْتِعْمَالِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لِلْمُسْنَدِ مَزِيَّةُ فَضْلٍ لِوَضْعِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْسَلُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ. الْخَامِسَ عَشَرَ: مِنْهُمْ مَنْ يُفَرِّقُ، فَيَقْبَلُ مَرَاسِيلَ بَعْضِ التَّابِعِينَ دُونَ بَعْضٍ. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مَرَاسِيلُ سَعِيدٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ.
السَّادِسَ عَشَرَ: مِنْ الْمُنْكَرِينَ لِلْمُرْسَلِ مَنْ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ عَنْ الصَّحَابَةِ. السَّابِعَ عَشَرَ: كَانَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ يَخْتَارُ الْأَحَادِيثَ الْمَوْقُوفَةَ عَلَى الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُرْسَلَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. الثَّامِنَ عَشَرَ: لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يُعَضِّدَهُ إجْمَاعٌ فَيُسْتَغْنَى بِذَلِكَ عَنْ الْمُسْنَدِ. قَالَهُ ابْنُ حَزْمٍ فِي كِتَابِ " الْإِحْكَامِ ". هَذَا حَاصِلُ مَا قِيلَ، وَفِي بَعْضِهَا تَدَاخُلٌ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمُرْسِلَ إذَا كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ لَا يُقْبَلُ إرْسَالُهُ، فَإِنْ كَانَ ثِقَةً، وَعُرِفَ أَنَّهُ يَأْخُذُ عَنْ الضُّعَفَاءِ، فَلَا يُحْتَجُّ بِمَا أَرْسَلَهُ سَوَاءٌ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَكَذَا مَنْ عُرِفَ بِالتَّدْلِيسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِالتَّحْدِيثِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ فَمُرْسَلُهُ وَتَدْلِيسُهُ، هَلْ يُقْبَلُ؟ فِيهِ الْخِلَافُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ - وَهُوَ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ - تَخْصِيصُ مَحَلِّ الْخِلَافِ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ مِنْهُمْ: الْمُرْسَلُ عِنْدَنَا إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ. وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ مَنْ عَلِمْنَا مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُرْسِلُ الْحَدِيثَ عَمَّنْ لَا يَوْثُقُ بِرِوَايَتِهِ، لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَنْهُ، فَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِيمَنْ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الثِّقَاتِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لِيُعْلَمَ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ ثِقَةً مُتَحَرِّزًا بِحَيْثُ لَا يَأْخُذُ عَنْ غَيْرِ الْعُدُولِ قَالَ: وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيَّ، وَالْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ الْقَوْلُ بِالْمُرْسَلِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّهُمَا قَبِلَا التَّعْدِيلَ بِالْمُطْلَقِ، وَالْمُرْسِلُ إذَا عُلِمَ
مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ عَدْلٍ قُبِلَ مِنْهُ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِاسْمِهِ. اهـ. وَعَلَى هَذَا فَيَرْتَفِعُ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَبِهِ صَرَّحَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فَقَالَ: إذَا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَنْ رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ عَلَى تَعْدِيلِهِ صَارَ حُجَّةً، وَادَّعَى أَنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ فِيهَا خِلَافٌ، فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُوجِبُ التَّقْلِيدَ، وَلَا يُنْكِرُ اخْتِلَافَ الْمَذَاهِبِ فِي التَّعْدِيلِ، وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَيْرَ أَهْلِ مَذْهَبِهِ قَبُولُهُ. وَإِنَّمَا قَالَ الْأَصْحَابُ: مَذْهَبُهُ وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ، وَمَذْهَبُهُ فِي التَّعْدِيلِ مَذْهَبُهُمْ. اهـ.
وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَا خِلَافَ أَنَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ حُجَّةٌ، فَأَمَّا مَرَاسِيلُ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَحُجَّةٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا بِشُرُوطٍ. ثُمَّ قَالَ: فَأَمَّا مَرَاسِيلُ مَنْ بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، فَكَانَ الْكَرْخِيّ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مَرَاسِيلِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ: مَنْ اُشْتُهِرَ فِي النَّاسِ بِحَمْلِ الْعِلْمِ تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ مُرْسِلًا وَمُسْنِدًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ وَأَمْثَالَهُ مِنْ الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ، وَمَنْ لَمْ يَشْتَهِرْ يَحْمِلُ النَّاسُ الْعِلْمَ عَنْهُ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا اُشْتُهِرَ بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ، فَإِنَّ مُسْنَدَهُ يَكُونُ حُجَّةً، وَمُرْسَلُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يُعْرَضَ عَلَى مَنْ اُشْتُهِرَ بِحَمْلِ الْعِلْمِ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ فِي هَذَا مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ: أَنَّ مُرْسَلَ مَنْ كَانَ مِنْ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ (لَيْسَ) حُجَّةً، إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ مُطْلَقًا إذَا كَانَ الْمُرْسِلُ عَدْلًا يَقِظًا، وَكَذَا حَكَاهُ عَنْهُ أَبُو الْفَرَجِ، فَأَمَّا الْبَغْدَادِيُّونَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَالْقَاضِي إسْمَاعِيلَ، وَالشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْمَنْعِ، فَإِنَّ كُتُبَهُمْ تَقْتَضِي مَنْعَ الْقَوْلِ بِهِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ صَاحِبِ الْمَذْهَبِ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ.
فَصْلٌ [تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِي الْعَمَلِ بِالْمُرْسَلِ] وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ النَّقْلَ قَدْ اضْطَرَبَ عَنْهُ، فَنَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرَى الْعَمَلَ بِالْمَرَاسِيلِ إلَّا عِنْدَ شَرِيطَةِ أَنْ يُسْنِدَهُ عَمَّنْ أَرْسَلَهُ، أَوْ يَعْمَلَ بِهِ صَاحِبُهُ، أَوْ الْعَامَّةُ، أَوْ أَنَّ الْمُرْسِلَ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، وَلَكِنْ يَتَطَلَّبُ فِيهِ مَزِيدَ تَأْكِيدٍ، لِيَحْصُلَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي الثِّقَةِ، وَاسْتُنْبِطَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِهِ فِي قَبُولِ مَرَاسِيلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَاسْتِحْسَانِهِ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ، وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَرَأَى أَنَّ الرَّاوِيَ الْمَوْثُوقَ بِهِ، الْعَالِمَ بِالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إذَا قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ وَأَرْضَاهُ، يُوجِبُ الثِّقَةَ بِحَدِيثِهِ، وَإِنْ قَالَ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ، تَوَقَّفَ عَنْهُ. وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْإِمَامُ الرَّاوِي: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذَا بَالِغٌ فِي ثِقَةِ مَنْ رَوَى لَهُ. قَالَ: وَقَدْ عَثَرْت فِي كَلَامِ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ إلَّا الْمُرْسَلَ مَعَ الْإِقْرَارِ بِالتَّعْدِيلِ عَلَى الْإِجْمَالِ، فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِهِ، فَكَانَ إضْرَابُهُ عَنْ الْمُرْسَلِ فِي حُكْمِ تَقْدِيمِ الْمَسَانِيدِ عَلَيْهَا. اهـ. وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ الْإِمَامُ عَنْ الشَّافِعِيِّ غَرِيبٌ، وَهُوَ شَيْءٌ ضَعِيفٌ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ أَيْضًا. وَقَدْ تَنَاهَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِ. وَقَالَ: هَذَا عِنْدِي خِلَافُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَقَلَ عَنْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَالْخُرَاسَانِيِّينَ أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَا يَكُونُ الْمُرْسَلُ حُجَّةً مَعَهُ بِحَالٍ. قَالَ: وَأَنَا لَا أَعْجَبُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ إنْ كَانَ يَنْصُرُ الْقَوْلَ بِالْمُرْسَلِ
فَإِنَّهُ كَانَ مَالِكِيَّ الْمَذْهَبِ، وَمِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ. اهـ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ ": الْمُرْسَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِخَبَرِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، فَقِيلَ: لِأَنَّهُ عُرِفَ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إلَّا عَنْ الصَّحَابَةِ. وَقِيلَ: إنَّ الْمُسْنَدَ وَغَيْرَهُ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِقَوْلِهِ عَمَّا أَسْنَدَهُ غَيْرُهُ. قَالَ: وَبِهَذَا قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا. وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ فِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: لَيْسَ الْمُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ، مَا عَدَا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَعْنِي مَا عَدَا مُنْقَطِعَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ. اهـ. فَلَمْ يَحْمِلْ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَجُّ بِمُرْسَلِ سَعِيدٍ، بَلْ عَلَى أَنَّهُ يَعْتَبِرُ بِهِ خَاصَّةً. وَأَمَّا الْغَزَالِيُّ فَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَصْفَى " أَنَّ الْمُرْسَلَ مَرْدُودٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَالْقَاضِي. قَالَ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
وَقَالَ فِي الْمَنْخُولِ " الْمَرَاسِيلُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْمُرْسَلَ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ. ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ أَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ قَبُولُ الْمَرَاسِيلِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ " أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِعَيْنِهِ، وَقَدْ أَوْرَدَهُ بِنَقْلٍ عَنْهُ وَيَعْتَقِدُهُ، فَيَعْتَمِدُ مَذْهَبَهُ، وَعَنْ هَذَا قَبِلَ مَرَاسِيلَ سَعِيدٍ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ الْإِمَامَ الْعَدْلَ إذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ أَخْبَرَنِي الثِّقَةُ قُبِلَ، فَأَمَّا الْفُقَهَاءُ وَالْمُتَوَسَّعُونَ فِي كَلَامِهِمْ، فَقَدْ يَقُولُونَهُ لَا عَنْ ثَبْتٍ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ.
وَمَنْ قَبِلَ هَذَا قَالَ: هَذَا مَقْبُولٌ مِنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، فَلَا يُقْبَلُ فِي زَمَانِنَا هَذَا، وَقَدْ كَثُرَتْ الرِّوَايَةُ، وَطَالَ الْبَحْثُ، وَاتَّسَعَتْ الطُّرُقُ، فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، إلَّا فِي هَذَا الْأَخِيرِ، فَإِنَّا لَوْ صَادَفْنَا فِي زَمَانِنَا مُتْقِنًا فِي نَقْلِ الْأَحَادِيثِ مِثْلَ مَالِكٍ قَبِلْنَا قَوْلَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْأَعْصَارِ. اهـ.
وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي غَرِيبٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " لَهُ التَّصْرِيحَ بِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْمُرْسَلَ مُطْلَقًا، حَتَّى مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، لَا لِأَجْلِ الشَّكِّ فِي عَدَالَتِهِمْ، وَلَكِنْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدْ يَرْوُونَ عَنْ تَابِعِيٍّ، إلَّا أَنْ يُخْبِرَ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمُرْسَلِهِ، وَنُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ رَدَّ الْمَرَاسِيلَ، وَقَالَ بِهَا بِشُرُوطٍ أُخَرَ. وَقَالَ فِي آخِرِ الشُّرُوطِ: فَاسْتُحِبَّ قَبُولُهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ، قَالَ: وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ بِهَا ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، فَنَصَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَبُولَهَا عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. هَذَا لَفْظُهُ.
وَقَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: قَبِلَ الشَّافِعِيُّ مُرْسَلَ سَعِيدٍ دُونَ غَيْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: إذَا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَنْ رَجُلٍ تَتَّفِقُ الْمَذَاهِبُ عَلَى تَعْدِيلِهِ، صَارَ حُجَّةً. قَالَ: وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: أَقْبَلُ مِنْ الْمَرَاسِيلِ مَا أَرْسَلَهُ كُلُّ مُعْتَبَرٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا قُلْنَاهُ. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمَرَاسِيلَ لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا إلَّا مَرَاسِيلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَمَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَمَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُرْسَلَ بِنَفْسِهِ
لَا يَكُونُ حُجَّةً، وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ إنَّمَا رَدَّ الْمُرْسَلَ، لِدُخُولِ التُّهْمَةِ فِيهِ. فَإِنْ اقْتَرَنَ بِهِ مَا يُزِيلُ التُّهْمَةَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُوَافِقَ مُرْسَلُهُ مُسْنَدَ غَيْرِهِ، أَوْ تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ أَوْ انْتَشَرَ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ نَكِيرٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَذَلِكَ إذَا اُشْتُرِطَ فِي إرْسَالِهِ عَدْلَانِ فَأَكْثَرُ، فَيَقْوَى بِهِ حَالُ الْمُرْسَلِ، أَوْ يَكُونُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ. قَالَ: وَعِنْدِي أَنَّ الْمُرَجَّحَ إنَّمَا هُوَ فِي مُسْنَدٍ آخَرَ، أَوْ تَلَقِّي الْأُمَّةِ لَهُ بِالْقَبُولِ، أَوْ اشْتِهَارِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ الْمُرْسَلِ. انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الْمُعْتَمَدِ ": حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ خَصَّ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ بِالْقَبُولِ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا، قَبِلَتْ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ. اهـ. وَلْنَذْكُرْ كَلَامَ الشَّافِعِيِّ فِي الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْهُ مَذْهَبُهُ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَدْخَلِ ": أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَعْنِي فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ": الْمُنْقَطِعُ يَخْتَلِفُ، فَمَنْ شَاهَدَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَوَى حَدِيثًا مُنْقَطِعًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اُعْتُبِرَ عَلَيْهِ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا أَرْسَلَهُ مِنْ الْحَدِيثِ، فَإِنْ شَرَكَهُ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ فَأَسْنَدُوهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى، كَانَتْ هَذِهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى صِحَّةِ مَنْ قَبِلَ عَنْهُ، وَحَفِظَهُ، وَإِنْ انْفَرَدَ بِهِ مُرْسَلًا لَمْ يُشْرِكْهُ فِيهِ مَنْ يُسْنِدُ قُبِلَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَيُعْتَبَرُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُنْظَرَ هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ، فَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ قَوِيَ، وَهِيَ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى.
وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ نَظَرَ إلَى بَعْضِ مَا يُرْوَى عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلًا لَهُ، فَإِنْ وَجَدْنَا مَا يُوَافِقُ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ شَاهِدَةَ دَلَالَةٍ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ مُرْسَلَهُ إلَّا عَنْ أَصْلٍ يَصِحُّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ إنْ وُجِدَ عَوَامُّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفْتُونَ بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رُوِيَ لَمْ يُعْتَبَرْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا، فَيُسْتَدَلُّ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ، وَيَكُونُ إذَا شَرَكَ أَحَدًا مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ، وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ كَانَتْ فِي هَذِهِ دَلَائِلُ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ. وَمَتَى خَالَفَ مَا وَصَفْت أَضَرَّ بِحَدِيثِهِ، حَتَّى لَا يَسَعَ أَحَدًا قَبُولُ مُرْسَلِهِ.
قَالَ: وَإِذَا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وُصِفَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَقْبَلَ مُرْسَلَهُ، وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَزْعُمَ أَنَّ الْحُجَّةَ تَثْبُتُ بِهِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الْمُنْقَطِعِ مَغِيبٌ، يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حُمِلَ عَمَّنْ يُرْغَبُ فِي الرِّوَايَةِ عَنْهُ إذَا سُمِّيَ، وَأَنَّ بَعْضَ الْمُنْقَطِعَاتِ، وَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ مِثْلُهُ، فَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَرِّجُهُمَا وَاحِدًا مِنْ حَيْثُ لَوْ سُمِّيَ لَمْ يُقْبَلْ، وَأَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ إذَا قَالَ بِرَأْيِهِ لَوْ وَافَقَهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ دَلَالَةً قَوِيَّةً إذَا نَظَرَ فِيهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا غَلَطَ بِهِ حِينَ سَمِعَ قَوْلَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بِمُوَافِقِهِ.
قَالَ: فَأَمَّا مِنْ بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ فَلَا أَعْلَمُ وَاحِدًا يَقْبَلُ مُرْسَلَهُ، لِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَشَدُّ تَجَوُّزًا مِمَّنْ يَرْوُونَ عَنْهُ، وَالْآخَرُ أَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدْ عَلَيْهِمْ الدَّلَائِلُ فِيمَا أَرْسَلُوا لِضَعْفِ مُخَرِّجِهِ، وَالْآخَرُ كَثْرَةُ الْإِحَالَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَإِذَا كَثُرَتْ الْإِحَالَةُ كَانَ أَمْكَنَ لِلْوَهْمِ وَضَعْفِ مَنْ يُقْبَلُ عَنْهُ. انْتَهَى كَلَامُ الشَّافِعِيِّ.
وَقَدْ تَضَمَّنَ كَلَامُهُ رضي الله عنه أُمُورًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرْسَلَ إذَا أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الْمُرْسَلِ، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ اشْتِرَاطُ صِحَّةِ ذَلِكَ الْمُسْنَدِ. الثَّانِي: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ نُظِرَ، هَلْ يُوَافِقُهُ مُرْسَلٌ آخَرُ، فَإِنْ وَافَقَهُ مُرْسَلٌ آخَرُ قَوِيٌّ، لَكِنَّهُ يَكُونُ أَنْقَصَ دَرَجَةً مِنْ الْمُرْسَلِ الَّذِي أُسْنِدَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: إنْ كَانَ الْوَجْهُ الْآخَرُ إسْنَادًا، فَالْعَمَلُ حِينَئِذٍ عَلَى الْمُسْنَدِ، وَإِنْ كَانَ إرْسَالًا فَضَمُّ غَيْرِ مَقْبُولٍ إلَى غَيْرِ مَقْبُولٍ، كَانْضِمَامِ الْمَاءِ النَّجِسِ إلَى مِثْلِهِ، وَشَهَادَةِ الْفَاسِقِ مَعَ مِثْلِهِ، لَا يُفِيدُ الطَّهَارَةَ وَالْقَبُولَ، وَهَذَا اعْتَرَضَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَتَبِعُوهُ، وَهُوَ مَرْدُودٌ، لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمُسْنَدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ بِالْمُسْنَدِ يَتَبَيَّنُ صِحَّةُ إسْنَادِ الْإِرْسَالِ، حَتَّى تَحْكُمَ لَهُ مَعَ إرْسَالِهِ بِأَنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَأَيْضًا لَوْ عَارَضَ الْمُسْنَدَ الَّذِي دُونَ الْمُرْسَلِ مُسْنَدٌ آخَرُ يَتَرَجَّحُ صَاحِبُ الْمُرْسَلِ، إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ، وَأَيْضًا فَالِاحْتِجَاجُ بِالْمُسْنَدِ إنَّمَا يَنْتَهِضُ إذَا كَانَ بِنَفْسِهِ حُجَّةً، وَلَعَلَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ هُنَا بِالْمُسْنَدِ مَا لَا يَنْتَهِضُ بِنَفْسِهِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ فِي الْمَحْصُولِ، وَإِذَا ضُمَّ إلَى الْمُرْسَلِ قَامَ بِهِ الْمُرْسَلُ، وَصَارَ حُجَّةً، وَهَذَا لَيْسَ عَمَلًا بِالْمُسْنَدِ، بَلْ بِالْمُرْسَلِ لِزَوَالِ التُّهْمَةِ عَنْهُ، وَلَا نُسَلِّمُ عَدَمَ قَبُولِهِ إذَا كَانَ الْقَوِيُّ مُرْسَلًا، لِجَوَازِ تَأْكِيدِ أَحَدِ الظَّنَّيْنِ بِالْآخَرِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ مُرْسَلٌ آخَرُ لَمْ يُسْنَدْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَلَكِنَّهُ وُجِدَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَوْلٌ لَهُ يُوَافِقُ هَذَا الْمُرْسَلَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَلَا يُطْرَحُ، وَلَا يُرَدُّ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي بِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، لِأَنَّ مُرَادَهُ التَّقْوِيَةُ بِهِ، لَا الِاسْتِقْلَالُ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ إذَا وُجِدَ جَمْعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ بِمَا يُوَافِقُ هَذَا الْمُرْسَلَ،
دَلَّ عَلَى أَنَّ لَهُ أَصْلًا، وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْأَكْثَرِ الْأُمَّةَ فَهُوَ إجْمَاعٌ، وَالْحُجَّةُ حِينَئِذٍ فِيهِ لَا فِي الْمُرْسَلِ، وَإِنْ أَرَادَ بَعْضَ الْأُمَّةِ فَقَوْلُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّهُ أَرَادَ الثَّانِيَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظَّنَّ يَقْوَى عِنْدَهُ، وَكَذَا قَوْلُ الصَّحَابِيِّ، وَإِذَا قَوِيَ الظَّنُّ وَجَبَ الْعَمَلُ بِالْمُرْسَلِ، فَمُجَرَّدُهُ ضَعِيفٌ، وَكَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحَالَةُ الِاجْتِمَاعِ قَدْ يَقُومُ مِنْهَا ظَنٌّ غَالِبٌ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ ضَعِيفَيْنِ اجْتَمَعَا. الْخَامِسُ: أَنَّهُ يُنْظَرُ فِي حَالِ الْمُرْسَلِ، فَإِنْ كَانَ إذَا سَمَّى شَيْخَهُ سَمَّى ثِقَةً لَمْ يُحْتَجَّ بِمُرْسَلِهِ، وَإِنْ كَانَ إذَا سَمَّى لَمْ يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا وَلَا وَاهِيًا، كَانَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ الْمُرْسَلِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مَحَلُّ وِفَاقٍ، لَكِنَّهُ دُونَ مَا قَبْلَهُ.
السَّادِسُ: أَنْ يَنْظُرَ إلَى هَذَا الْمُرْسَلِ لَهُ، فَإِنْ كَانَ إذَا أَشْرَكَ غَيْرَهُ مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثٍ وَافَقَهُ فِيهِ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ، دَلَّ عَلَى حِفْظِهِ، وَإِنْ خَالَفَهُ وَوُجِدَ حَدِيثُهُ أَنْقَصَ إمَّا فِي الْإِسْنَادِ أَوْ الْمَتْنِ، كَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَصْلًا، فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى حِفْظِهِ وَتَحَرِّيهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُخَالَفَتُهُ بِزِيَادَتِهِ، فَإِنَّ هَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ وَالِاعْتِبَارَ، وَهَذَا دَلِيلٌ مِنْ الشَّافِعِيِّ (رضي الله عنه) عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ الثِّقَةِ عِنْدَهُ لَيْسَتْ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا كَمَا يَظُنُّ جَمَاعَةٌ، فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ حَدِيثُ هَذَا الْمُخَالِفِ أَنْقَصَ مِنْ حَدِيثِ مَنْ خَالَفَهُ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ الْمُخَالِفَ بِالزِّيَادَةِ، وَجَعَلَ نُقْصَانَ هَذَا الرَّاوِي مِنْ الْحَدِيثِ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ مَخْرَجِ حَدِيثِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَتَى خَالَفَ مَا وُصِفَ أَضَرَّ ذَلِكَ بِحَدِيثِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ مَقْبُولَةً مُطْلَقًا، لَمْ تَكُنْ مُخَالَفَتُهُ بِالزِّيَادَةِ مُضِرًّا بِحَدِيثِهِ. السَّابِعُ: هَذَا الْحُكْمُ لَا يَخْتَصُّ عِنْدَهُ بِمُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَزَعَمَ
بَعْضُ الْأَصْحَابِ اخْتِصَاصَهُ بِسَعِيدٍ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْأُمِّ " فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ وَقَدْ قِيلَ لَهُ: كَيْفَ قَبِلْتُمْ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ مُنْقَطِعًا، وَلَمْ تَقْبَلُوهُ عَنْ غَيْرِهِ؟ قُلْنَا: لَا نَحْفَظُ لِسَعِيدٍ مُنْقَطِعًا إلَّا وَجَدْنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَسْدِيدِهِ، وَلَا يَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ فِيمَا عَرَفْنَاهُ عَنْهُ إلَّا عَنْ ثِقَةٍ مَعْرُوفٍ. انْتَهَى. وَهَذَا الْقَائِلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: فَمَنْ كَانَ مِثْلَ حَالِهِ قَبِلْنَا مُنْقَطِعَهُ.
وَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ كِبَارِ التَّابِعِينَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا، وَمِمَّنْ وَافَقَ الشَّافِعِيَّ عَلَى مُرْسَلِ سَعِيدٍ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. فَقَالَا: أَصَحُّ الْمَرَاسِيلِ مُرْسَلُ سَعِيدٍ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ. فَقِيلَ: إنَّ مَرَاسِيلَ التَّابِعِينَ كُلِّهِمْ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الشَّافِعِيُّ نَصَّ عَلَى مُرْسِلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: لَا يَكُونُ حُجَّةً، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: مُرْسَلُ سَعِيدٍ حَسَنٌ، فَقِيلَ حَسَنٌ فِي التَّرْجِيحِ بِهِ، لَا فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ ضَعْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِمَرَاسِيلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقِيلَ: إنَّمَا قَبِلَهَا؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مَسَانِيدَ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ لَمَّا رَوَى حَدِيثَهُ الْمُرْسَلَ فِي النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ. قَالَ: وَإِرْسَالُ سَعِيدٍ عِنْدَنَا حَسَنٌ، وَجَعَلَ الْخَبَرَ أَصْلًا؛ لِأَنَّ مَرَاسِيلَهُ مُتَّبَعَةٌ، فَوُجِدَتْ كُلُّهَا عَنْ الصَّحَابَةِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ.
وَرَدَّ الْخَطِيبُ هَذَا بِأَنَّ مِنْهَا مَا لَمْ يُوجَدْ مُسْنَدًا بِحَالٍ مِنْ وَجْهٍ يَصِحُّ، وَقِيلَ: إنَّهُ فِي الْجَدِيدِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرِهِ فِي الرَّدِّ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ فِي الْقَدِيمِ قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَكَذَا نَقَلَ التَّسْوِيَةَ عَنْ الْجَدِيدِ الْخَطِيبُ فِي الْكِفَايَةِ " وَفِيهِ نَظَرٌ، لِقَوْلِ الرُّويَانِيِّ: إنَّ الشَّافِعِيَّ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ الصَّغِيرِ مِنْ الْأُمِّ " زَعَمَ أَنَّ
مُرْسَلَ سَعِيدٍ حُجَّةٌ فَقَطْ، وَيَشْهَدُ لَهُ عِبَارَةُ الْمُخْتَصَرِ " أَنَّهُ حَسَنٌ، لَكِنْ أَشَارَ ابْنُ الرِّفْعَةِ إلَى أَنَّ الرَّهْنَ الصَّغِيرَ مِنْ الْقَدِيمِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ كُتُبِ الْأُمِّ "، قَالَ: وَلِذَلِكَ نَسَبَ الْمَاوَرْدِيُّ قَبُولَ رِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ إلَى الْقَدِيمِ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا، فَلَا خِلَافَ بَيْنَ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيِّ وَالرُّويَانِيِّ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي كِتَابِ الرِّبَا فِي تَعْلِيقِهِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي مُرْسَلِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، وَكَانَ فِي الْقَدِيمِ يَقُولُ بِهِ، وَفِي الْجَدِيدِ يُحَسِّنُهُ وَيُقَوِّي بِهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأُصُولُ، وَإِنَّمَا قَالَ بِهِ فِي الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا تُتُبِّعَ وُجِدَ مُتَّصِلًا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ: لَا يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّ إرْسَالَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ كَشَفَ عَنْ حَدِيثِهِ، فَوَجَدَهُ مُتَّصِلًا، فَاكْتَفَى عَنْ طَلَبِ كُلِّ حَدِيثٍ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ، وَيَتَقَوَّى بِهِ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: وَاعْتَمَدَ الشَّافِعِيُّ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، وَأَنْ لَا يَكُونَ إلَى آخِرِهِ، فَاقْتَضَى كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ عِنْدَهُ فِي الْجَدِيدِ فِي رَدِّهِ مُطْلَقًا، وَأَنَّهُ فِي الْقَدِيمِ اسْتَثْنَى سَعِيدًا وَفِيهِ مَا سَبَقَ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: وَأَمَّا مُرْسَلُ سَعِيدٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ بِهِ فِي كُتُبِهِ الْقَدِيمَةِ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ تَخْصِيصَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ دُونَ غَيْرِهِ مَنْ مَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي ذَلِكَ، لَكِنْ ظَهَرَ لِلشَّافِعِيِّ مَذْهَبُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ حَدِيثًا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْمُتَّصِلِ، وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مِثْلُ هَذَا فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ عُرِفَ هَذَا فِي مُرْسَلِ غَيْرِهِ كَمُرْسَلِ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالنَّخَعِيِّ، وَمَكْحُولٍ، كَانَ الْكَلَامُ فِيهِمْ كَذَلِكَ. وَقَالَ الْخَفَّافَ فِي كِتَابِ الْخِصَالِ ": لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْمُرْسَلِ عِنْدَنَا إلَّا فِي صُورَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَرْوِيَ الصَّحَابِيُّ عَنْ صَحَابِيٍّ، وَلَا يُسَمِّيهِ، فَذَلِكَ وَالْمُسْنَدُ سَوَاءٌ. وَالثَّانِي: التَّابِعِيُّ إذَا أَرْسَلَ وَسَمَّى، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا أَنْ لَا يَرْوِيَ إلَّا عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، فَإِرْسَالُهُ وَإِسْنَادُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ. انْتَهَى.
وَهَذَا مَعْنًى آخَرُ فِي قَبُولِ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَنَحْوِهِ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ ": مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَيْسَ يُغْنِي، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ فِي أَنَّهُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ أَبَدًا، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي جَعَلَهُ، أَرَادَ بِهِ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِ الدَّلِيلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: الْمُرْسَلُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: وَإِرْسَالُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عِنْدَنَا حَسَنٌ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ فِي الْجَدِيدِ فِي مَسَائِلَ مَعْدُودَةٍ، مِنْهَا بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عِنْدَنَا: " إرْسَالُهُ حَسَنٌ "، أَنَّهُ تَتَبَّعَ أَخْبَارَهُ كُلَّهَا، فَوَجَدَهَا أَوْ أَكْثَرَهَا مُتَّصِلَةً، فَاكْتَفَى بِذَلِكَ عَنْ تَطَلُّبِ كُلِّ حَدِيثٍ بَعْدَ مُرَادِهِ مِنْ الْجُمْلَةِ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَخْصِيصَهُ عَنْ سَائِرِ الْمَرَاسِيلِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ: قَدْ كَانَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ يَسْتَحْسِنُ إرْسَالَ سَعِيدٍ، وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إلَى أَنَّ عَامَّةَ مَرَاسِيلِهِ إذَا انْعَقَدَتْ وُجِدَ لَهَا فِي الرِّوَايَاتِ الْمَوْصُولَةِ أَصْلٌ، وَإِنَّا لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا مِنْ الضُّعَفَاءِ أَرْسَلَ عَنْهُ، وَلَا رَوَى عَنْهُ، بَلْ جُمْلَةُ رِوَايَاتِهِ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالثِّقَاتِ، مِنْ أَهْلِ النَّقْلِ. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الرِّسَالَةِ الْجَدِيدَةِ " أَنَّ الْحَدِيثَ يُعْتَبَرُ بِأُمُورٍ: مِنْهَا: أَنْ يُنْظَرَ إلَى مَا أَرْسَلَ فَإِنْ شَرَكَهُ فِيهِ الْحُفَّاظُ الْمَأْمُونُونَ، فَأَسْنَدَ
قَوْلَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى مَا رَوَى كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يُسْنِدُ. وَمِنْهَا: مَا يُؤْخَذُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ وَمَا يُوَافِقُ الْخَبَرَ الْمُرْسَلَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إذَا سَمَّى مَنْ رَوَى عَنْهُ، لَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، وَلَا مَرْغُوبًا عَنْهُ فِي الرِّوَايَةِ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ إذَا أَشْرَكَ أَحَدًا مِنْ الْحُفَّاظِ فِي حَدِيثِهِ لَمْ يُخَالِفْهُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الشَّرَائِطِ: وَإِذَا وُجِدَتْ الدَّلَائِلُ بِصِحَّةِ حَدِيثِهِ بِمَا وَصَفْت أَحْبَبْنَا أَنْ يُقْبَلَ مُرْسَلُهُ، وَلَا نَزْعُمُ أَنَّ الْحُجَّةَ ثَبَتَتْ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ.
وَقَالَ: فَأَمَّا مَنْ بَعْدِ كِبَارِ التَّابِعِينَ الَّذِينَ كَثُرَتْ مُشَاهَدَتُهُمْ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ، فَلَا أَعْلَمُ مِنْهُمْ وَاحِدًا يُقْبَلُ مُرْسَلُهُ، وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا ذُكِرَ.
قَالَ: وَأَشَارَ إلَى قُوَّةِ مَرَاسِيلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ عَلَى مَرَاسِيلِ مَنْ دُونَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحُجَّةُ بِالْمُنْقَطِعِ ثُبُوتَهَا بِالْمُتَّصِلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمَرَاسِيلِ عِنْدَهُ ضَعِيفٌ، وَمَشْهُورٌ عَلَى لِسَانِ الْمُوَافِقِ وَالْمُخَالِفِ تَضْعِيفُهُ لِلْمَرَاسِيلِ، وَالْوَجْهُ فِي تَضْعِيفِهِ مَا أَوْمَأْنَا إلَيْهِ مِنْ جَهَالَةِ الْوَاسِطَةِ. انْتَهَى كَلَامُ الْقَفَّالِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي بَابِ النَّفَقَةِ مِنْ الْحَاوِي " إنَّ مُرْسَلَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَسَنٌ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاهِدُ أَوْ بَعْضُهَا يُسَوَّغُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَلَا يَلْزَمُ لُزُومَ الْحُجَّةِ بِالْمُتَّصِلِ، وَكَأَنَّهُ رضي الله عنه يُسَوِّغُ الِاحْتِجَاجَ بِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَةِ ": لَمْ نَجِدْ حَدِيثًا ثَابِتًا مُتَّصِلًا خَالَفَهُ جَمِيعُ أَهْلِ الْعِلْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا، وَقَدْ وَجَدْنَا مَرَاسِيلَ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى خِلَافِهَا، وَذَكَرَ مِنْهَا حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ الْآتِي قَرِيبًا، وَظَنَّ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ
فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " أَنَّ الشَّافِعِيَّ أَرَادَ بِالِاسْتِحْبَابِ قَسِيمَ الْوُجُوبِ. قَالَ: فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْقَبُولَ عِنْدَ تِلْكَ الشُّرُوطِ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِالِاسْتِحْبَابِ أَنَّ الْحُجَّةَ فِيهَا ضَعِيفَةٌ، وَلَيْسَتْ بِحُجَّةِ الْمُتَّصِلِ، فَإِذَا انْتَهَضَتْ الْحُجَّةُ، وَجَبَ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا عَارَضَهُ مُتَّصِلٌ كَانَتْ التَّقْدِمَةُ مُقَدَّمَةً عَلَيْهِ، إذْ لَيْسَتْ الْأَدِلَّةُ مَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ مُسْتَحَبًّا أَبَدًا، وَلَكِنَّ فِيهَا مَا يَتَفَاوَتُ، وَيَنْفَعُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعَارُضِ. وَقَالَ الرَّبِيعِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَأَحْبَبْنَا أَنْ تُقْبَلَ مُرْسَلُهُ، أَرَادَ بِهِ: اخْتَرْنَا، وَيُوَافِقُهُ قَوْلُ الْقَفَّالِ فِي شَرْحِ التَّلْخِيصِ " فِي بَابِ اللُّقَطَةِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ يَقُولُ: أُحِبُّ وَأُرِيدُ بِهِ الْإِيجَابَ، وَزَعَمَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، إذَا لَمْ يُوجَدْ دَلَالَةٌ سِوَاهُ. وَقَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْكِفَايَةِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مُرْسَلِ سَعِيدٍ وَغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا رَجَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهِ، وَالتَّرْجِيحُ بِالْمُرْسَلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً بِمُفْرَدِهِ.
التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُرْسَلَ الْعَارِيَ مِنْ هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ وَالشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرَهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ. وَلِهَذَا قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ لِي مَالًا وَعِيَالًا وَإِنَّ لِأَبِي مَالًا وَعِيَالًا، فَيُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي فَيُطْعِمَ عِيَالَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . قَالَ الشَّافِعِيُّ: مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ غَايَةٌ فِي الثِّقَةِ وَالْفَضْلِ، وَالدِّينِ وَالْوَرَعِ، وَلَكِنْ لَا نَدْرِي عَمَّنْ قَبِلَ هَذَا الْحَدِيثَ.
الْعَاشِرُ: أَنَّ مَأْخَذَ رَدِّ الْمُرْسَلِ عِنْدَهُ إنَّمَا هُوَ احْتِمَالُ ضَعْفِ الْوَاسِطَةِ، وَأَنَّ الْمُرْسَلَ لَوْ سَمَّاهُ لَبَانَ أَنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ، وَعَلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ مِنْ عَادَةِ الْمُرْسِلِ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ إلَّا ثِقَةً، وَلَمْ يُسَمِّ مَجْهُولًا، كَانَ مُرْسَلُهُ حُجَّةً، وَإِنْ كَانَ يَرْوِي عَنْ الثِّقَةِ وَغَيْرِهِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيُّ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، فَقَالَ - وَذَكَرَ حَدِيثَ الزُّهْرِيِّ فِي الضَّحِكِ فِي الصَّلَاةِ مُرْسَلًا - قَالَ: يَقُولُونَ: يُحَابِي، وَلَوْ حَابَيْنَا حَابَيْنَا الزُّهْرِيَّ، وَإِرْسَالُ الزُّهْرِيِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَذَاكَ أَنَّا نَجِدُهُ يَرْوِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَرْقَمَ، وَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ، وَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ الثِّقَةِ عَنْ غَيْرِهِ، هَلْ هِيَ تَعْدِيلٌ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ التَّفْصِيلُ، وَهُوَ أَنَّ الثِّقَةَ إنْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ كَانَتْ تَعْدِيلًا وَإِلَّا فَلَا، كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ هُنَا ظَنَّ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي قَبُولِ الشَّافِعِيِّ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ كَوْنُهُ اعْتَبَرَهَا فَوَجَدَهَا مَسَانِيدَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِلَّا كَانَ الِاحْتِجَاجُ حِينَئِذٍ بِالْمُسْنَدِ فِيهَا، وَيَجِيءُ اعْتِرَاضُ الْقَاضِي السَّابِقِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ حَالُ صَاحِبِهَا أَنَّهُ لَا يَرْوِي إلَّا عَنْ ثِقَةٍ، حُمِلَ هَذَا الْمُرْسَلُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ صَحِيحٌ بِهِ، وَلِهَذَا تُقْبَلُ مَرَاسِيلُ الصَّحَابَةِ، وَإِنْ اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ عَنْ تَابِعِيٍّ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُمْ لَا يَرْوُونَ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ، لَا سِيَّمَا حَالَةَ الْإِطْلَاقِ فَحُمِلَ عَلَى الْغَالِبِ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ مُرْسَلَ مَنْ بَعْدَ التَّابِعِينَ لَا يُقْبَلُ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ قَبُولُهُ لِتَعَدُّدِ الْوَسَائِطِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ مُرْسَلُ الْمُحَدِّثِ الْيَوْمَ، وَبَيْنَهُ.
وَبَيْنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَفَاوِزُ، وَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ إلَّا مَا سَبَقَ عَنْ الْغَزَالِيِّ فِي الْمَنْخُولِ " وَقَدْ رَدَدْنَاهُ.
الثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ ظَاهِرَهُ قَبُولُ مُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ دُونَ صِغَارِهِمْ، وَلِهَذَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ " بَعْدَ النَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ بِكَلَامٍ: وَمَنْ نَظَرَ فِي الْعِلْمِ بِخِبْرَةٍ وَقِلَّةِ غَفْلَةٍ، اسْتَوْحَشَ مِنْ مُرْسَلِ كُلِّ مَنْ دُونَ كِبَارِ التَّابِعِينَ بِدَلَائِلَ ظَاهِرَةٍ فِيهَا. قَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَلِمَ فَرَّقْت بَيْنَ كِبَارِ التَّابِعِينَ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ شَاهَدُوا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَنْ شَاهَدَ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ (رحمه الله) : فَقُلْت: لِبُعْدِ إحَالَةِ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ أَكْثَرَهُمْ قَالَ: فَلِمَ يُقْبَلُ الْمُرْسَلُ مِنْهُمْ وَمِنْ كُلِّ ثِقَةٍ دُونَهُمْ؟ فَقُلْت: لِمَا وَصَفْت انْتَهَى. فَلْيُعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَيَكُونُ لَهُ قَوْلَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ لِمُرْسَلِ كِبَارِ التَّابِعِينَ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ دُونَهُمْ كَمَا جَعَلَ لِمُرْسَلِ سَعِيدٍ مَزِيَّةً عَلَى مَنْ سِوَاهُ مِنْهُمْ، لَكِنْ هَذَا كُلُّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ كَلَامِهِ.
ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ (رضي الله عنه) فِي الرِّسَالَةِ ": فَكُلُّ حَدِيثٍ كَتَبْته مُنْقَطِعًا، فَقَدْ سَمِعْته مُتَّصِلًا، أَوْ مَشْهُورًا عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ بِنَقْلِ عَامَّةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَعْرِفُونَهُ عَنْ عَامَّةٍ، وَلَكِنْ كَرِهْت وَضْعَ حَدِيثٍ لَا أُتْقِنُهُ حِفْظًا خَوْفَ طُولِ الْكِتَابِ، وَغَابَ عَنِّي بَعْضُ كُتُبِي. انْتَهَى. فَنَبَّهَ (رضي الله عنه) عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُورِدُهُ مِنْ الْمُنْقَطِعَاتِ فَهُوَ مُتَّصِلٌ، سَوَاءٌ ابْنُ الْمُسَيِّبِ أَوْ غَيْرُهُ، وَاسْتَفَدْنَا مِنْ هَذَا أَنَّ مَا وَجَدْنَاهُ فِي كُتُبِهِ مِنْ الْمَرَاسِيلِ لَا يَقْدَحُ فِي مَذْهَبِهِ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا، فَأَبَانَ بِهَذَا أَنَّ مَا نَجِدُهُ