الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَكَاةُ أُمِّهِ» ، وَلَوْ قَالَهُ ابْتِدَاءً لَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَكَاتُهُ مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُسْتَبَاحَ بِذَكَاةِ أُمِّهِ. فَإِذَا ذَكَرَ السُّؤَالَ صَارَ الْجَوَابُ مَحْمُولًا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، فَالْإِخْلَالُ بِالسُّؤَالِ نَقْصٌ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ ذِكْرُهُ. قَالَ: وَيَسْتَوِي فِي هَذِهِ الْحَالَةِ التَّابِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَذِكْرُ السَّبَبِ حَسَنٌ. وَلِهَذَا قَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ: أَكْثَرُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ بِسَبَبِ السَّبَبِ.
[نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى]
[نَقْلُ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: الْقُرْآنُ، وَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ نَقْلِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ. وَالثَّانِي: الْأَخْبَارُ فَيَجُوزُ لِلرَّاوِي نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى، وَإِذَا نَقَلَهَا بِالْمَعْنَى وَجَبَ قَبُولُهُ كَالنَّقْلِ بِاللَّفْظِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبَ عَشَرَةٍ سَتَأْتِي. وَنُقِلَ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَالْجُمْهُورِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ لَكِنْ بِشَرَائِطَ.
[شُرُوطُ جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى] أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الرَّاوِي عَارِفًا بِدَلَالَاتِ الْأَلْفَاظِ وَاخْتِلَافِ مَوَاقِعِهَا، فَإِنْ كَانَ جَاهِلًا بِمَوَاقِعِ الْكَلَامِ امْتَنَعَ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَهُ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ". قَالَ: وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ ": يَجِبُ أَنْ يَرْوِيَ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِحُرُوفِهِ كَمَا سَمِعَهُ، وَلَا يُحَدِّثَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَا يُحِيلُ مَعْنَاهُ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي لَعَلَّهُ يُحِيلُ الْحَلَالَ إلَى الْحَرَامِ، أَوْ الْحَرَامَ إلَى الْحَلَالِ، وَإِذَا أَدَّاهُ بِحُرُوفِهِ لَمْ نَجِدْ فِيهِ إحَالَةً. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُهُ تَحْرِيمُ ذَلِكَ عَلَى الْجَاهِلِ. قُلْت: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ ": الثَّابِتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ مَعَ مَا أَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ سَرَدَهُ. قَالَ الْأَصْحَابُ فَكَأَنَّ الشَّافِعِيَّ لَمْ يَحْضُرْهُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْحَدِيثِ، فَذَكَرَهُ بِالْمَعْنَى. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى عَنْهُ، وَقَالَ الْإِمَامُ فِي " النِّهَايَةِ ": يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَادَفَ أَوْ قَاصَّ الْغَنَمَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ فَلَمْ يَتَأَنَّقَ فِي نَقْلِ لَفْظِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَيَخْرُجُ مِنْهُ قَوْلٌ بَيْنَ أَنْ يَقْوَى بِدَلِيلٍ آخَرَ فَيَجُوزُ، وَإِلَّا فَيَمْتَنِعُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يُبَدِّلَ اللَّفْظَ بِمَا يُرَادِفُهُ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ، وَالِاسْتِطَاعَةِ
بِالْقُدْرَةِ، وَالْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ، وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ هَذَا مَحَلَّ وِفَاقٍ فِي الْجَوَازِ، وَلَيْسَ كَالْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهُ الْإِعْجَازُ، وَشَرْطُ هَذَا أَنْ لَا يَحْتَاجَ إلَى النَّظَرِ فِي التَّرَادُفِ إلَى نَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ، فَلَوْ اُحْتِيجَ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا. ثَالِثُهَا: أَنْ تَكُونَ التَّرْجَمَةُ مُسَاوِيَةً لِلْأَصْلِ فِي الْجَلَاءِ وَالْخَفَاءِ، فَيُبْدِلُ اللَّفْظَ بِمِثْلِهِ فِي الِاحْتِمَالِ وَعَدَمِهِ، وَلَا يُبْدِلُ الْأَجْلَى بِالْجَلِيِّ وَعَكْسُهُ، وَلَا الْعَامَّ بِالْخَاصِّ، وَلَا الْمُطْلَقَ بِالْمُقَيَّدِ، وَلَا الْأَمْرَ بِالْخَبَرِ، وَلَا الْعَكْسُ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ تَارَةً يَقَعُ بِالْمُحْكَمِ، وَتَارَةً يَقَعُ بِالْمُتَشَابِهِ، لِحِكَمٍ وَأَسْرَارٍ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا تُعُبِّدَ بِلَفْظِهِ، فَأَمَّا مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ بِاللَّفْظِ قَطْعًا، كَأَلْفَاظِ التَّشَهُّدِ. وَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى بِالِاتِّفَاقِ، نَقَلَهُ إلْكِيَا وَالْغَزَالِيُّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ بَرْهَانٍ، وَابْنُ فُورَكٍ وَغَيْرُهُمَا، وَعَبَّرَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ " عَنْ هَذَا بِأَنْ يَكُونَ سَامِعَ لَفْظِهِ عليه السلام عَالِمًا بِمَوْضُوعِ ذَلِكَ اللَّفْظِ فِي اللِّسَانِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ بِهِ مَا هُوَ مَوْضُوعٌ لَهُ، فَإِنْ عُلِمَ تَجَوُّزُهُ بِهِ، وَاسْتَعَارَ تَرْكَهُ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِاللَّفْظِ، لِيَنْظُرَ فِيهِ.
خَامِسُهَا:: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَابِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، أَمَّا هِيَ فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهَا بِالْمَعْنَى بِالْإِجْمَاعِ، حَكَاهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ وَغَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَحْتَمِلُهُ مَا أَطْلَقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ، لَا نَدْرِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ هَلْ يُسَاوِيهِ أَمْ لَا؟ قَالَ: وَكَذَلِكَ الْمُشَكِّكُ وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَنْقُلُهُ أَحَدٌ بِالْمَعْنَى؛ لِتَعَذُّرِ نَقْلِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ الْمُجْمَلُ. سَادِسُهَا:: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَإِنْ كَانَ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، «وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ،
«الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» ، «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» ، وَنَحْوُهُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَرْكُ جَمِيعِ مَعَانِي جَوَامِعِ الْكَلِمِ. حَكَاهُ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ. قَالَ: وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ الْجَوَامِعِ وَغَيْرِهَا إذَا كَانَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى كَغَيْرِهِ مِنْ الظَّوَاهِرِ. وَجَعَلَ الْإِبْيَارِيُّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ " لِلْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَ صُوَرٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُبْدِلَ اللَّفْظَ بِمُرَادِفِهِ كَالْجُلُوسِ بِالْقُعُودِ فَجَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَظُنَّ دَلَالَتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْطَعَ بِذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ فِي امْتِنَاعِ التَّبْدِيلِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَقْطَعَ بِفَهْمِ الْمَعْنَى، وَيُعَبِّرَ عَمَّا فَهِمَ بِعِبَارَةٍ يَقْطَعُ بِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي فَهِمَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَلْفَاظُ مُتَرَادِفَةً، فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ. فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الْقَطْعُ بِفَهْمِ الْمَعْنَى مُسْتَنِدًا إلَى اللَّفْظِ إمَّا بِمُجَرَّدِهِ أَوْ بِهِ مَعَ الْقَرَائِنِ الْتَحَقَ بِالْمُرَادِفِ، وَكَلَامُ أَبِي نَصْرِ بْنِ الْقُشَيْرِيّ يَدُلُّ لِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَالَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ عَلَى الِاتِّفَاقِ عَلَى الْجَوَازِ فِي الْأُولَى، وَعَلَى الْمَنْعِ فِي الثَّانِيَةِ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": يَجُوزُ لِلْعَالِمِ فِيمَا عَلِمَهُ قَطْعًا لَا فِي عِلْمِهِ بِنَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَفِي حَقِّ مَنْ يُقَلِّدُهُ مِنْ الْعَوَامّ خَاصَّةً.
قَالَ:
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ تَفْسِيرُ مَقَالِ الشَّرْعِ بِلُغَةِ الْعَجَمِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لَهُمْ. وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ حَتَّى يَنْقُلَ إلَيْهِ لَفْظَ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّهُ إنْ قَبِلَهُ بِالْمَعْنَى صَارَ مُقَلِّدًا، وَفِي الصَّحَابِيِّ إذَا نَقَلَهُ بِالْمَعْنَى فَلَا فَرْقَ. اهـ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي الْمَنْعُ مُطْلَقًا، بَلْ يَجِبُ نَقْلُ اللَّفْظِ بِصُورَتِهِ، سَوَاءٌ الْعَالِمُ وَغَيْرُهُ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ كَثِيرٍ مِنْ السَّلَفِ، وَأَهْلِ التَّحَرِّي فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ: إنَّهُ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَدِّثِينَ، وَبَعْضِ الْأُصُولِيِّينَ. وَحَكَاهُ غَيْرُهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، كَمَا نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْوَاضِحِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ (رضي الله عنهما) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ، مِنْهُمْ ابْنُ سِيرِينَ، وَبِهِ أَجَابَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَوَهَمَ صَاحِبُ " التَّحْصِيلِ "، فَعَزَاهُ لِلشَّافِعِيِّ وَحَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ ثَعْلَبٍ مِنْ النَّحْوِيِّينَ، أَيْ لِأَجْلِ إنْكَارِ أَصْلِ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ مَالِكٍ: لَا يُنْقَلُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمَعْنَى، بِخِلَافِ حَدِيثِ النَّاسِ، لَكِنْ قَالَ الْبَاجِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَعْنَى الْحَدِيثِ، فَقَدْ نَجِدُ الْحَدِيثَ عَنْهُ تَخْتَلِفُ أَلْفَاظُهُ اخْتِلَافًا بَيِّنًا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَهُ لِلْعَالِمِ النَّقْلُ عَلَى الْمَعْنَى.
وَالثَّالِثُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ، فَالْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى الْمَعْنَى، وَلَا يَجِبُ مُرَاعَاةُ اللَّفْظِ، وَأَمَّا الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْهَا، فَمِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِلَفْظِهِ، كَقَوْلِهِ عليه السلام:«تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» ، «خَمْسٌ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ» . حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ وَجْهًا لِبَعْضِ أَصْحَابِنَا. قَالَ: وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ بِكُلِّ حَالٍ. الرَّابِعُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا مَجَالَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا، فَيَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لِلتَّأْوِيلِ فِيهَا مَجَالٌ، فَلَمْ يَجُزْ إلَّا أَدَاءُ اللَّفْظِ، حَكَاهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَجَرَى عَلَيْهِ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ. وَالْخَامِسُ: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ يَحْفَظَ اللَّفْظَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْوِيَهُ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الرَّسُولِ مِنْ الْفَصَاحَةِ مَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِ غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ اللَّفْظَ جَازَ أَنْ يُورِدَ مَعْنَاهُ بِغَيْرِ لَفْظِهِ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ تَحَمَّلَ أَمْرَيْنِ: اللَّفْظَ وَالْمَعْنَى. فَإِذَا قَدَرَ عَلَيْهِمَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُمَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ اللَّفْظِ وَقَدَرَ عَلَى الْمَعْنَى لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ. وَبِهَذَا الْقَوْلِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي " الْحَاوِي " وَتَبِعَهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " وَجَعَلَ الْخِلَافَ مَخْصُوصًا بِغَيْرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. قَالَ: أَمَّا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، فَيَجُوزُ رِوَايَتُهُمَا بِالْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ:«لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ» ، وَرُوِيَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ. وَقَوْلُهُ:«اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ» وَرُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْأَسْوَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَا: فَهَذَا جَائِزٌ يَعْنِي بِلَا
خِلَافٍ؛ لِأَنَّ " افْعَلْ " أَمْرٌ، وَ " لَا تَفْعَلْ " نَهْيٌ، فَيَتَخَيَّرُ الرَّاوِي بَيْنَهُمَا، وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ خَفِيَّ الْمَعْنَى مُحْتَمِلًا، كَقَوْلِهِ:«لَا طَلَاقَ فِي إغْلَاقٍ» ، وَجَبَ نَقْلُهُ بِلَفْظِهِ، وَلَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِغَيْرِهِ. فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ جَلِيًّا وَلَا خَفِيًّا إلَّا لِلْمَصْلَحَةِ، وَلِيَكِلَ اسْتِنْبَاطَهُ إلَى الْعُلَمَاءِ، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى جَلِيًّا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ كَلَامَهُ مِنْ التَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُغَيِّرَ لَفْظَهُ، وَيَنْقُلَ مَعْنَاهُ. وَهَلْ يَجُوزُ لِمَنْ شَاهَدَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنْ يُورِدَ الْمَعْنَى بِغَيْرِ لَفْظِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنْ التَّابِعِينَ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِفَحْوَاهُ مِنْ غَيْرِهِ. اهـ.
وَحَاصِلُهُ تَخْصِيصُ الْخِلَافِ بِالصَّحَابِيِّ، وَبِالْجَلِيِّ مِنْ غَيْرِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْجَزْمُ فِي الْجَلِيِّ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا مِنْ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَهُوَ تَفْصِيلٌ غَرِيبٌ لَكِنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا: الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بِالنَّظَرِ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي مَعْرِفَةِ اللُّغَةِ الْجِبِلِّيَّةِ الذَّوْقِيَّةِ، وَأَمَّا مَنْ بَعْدَهُمْ فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إذْ الطِّبَاعُ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالْفُهُومُ قَدْ تَبَايَنَتْ، وَالْعَوَارِفُ قَدْ اخْتَلَفَتْ قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ. اهـ.
وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ مَذْهَبٌ آخَرُ هُوَ السَّابِعُ بِالنِّسْبَةِ لِمَا قَالَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَالثَّامِنُ: إنْ كَانَ مُحْكَمًا فَلَا يَجُوزُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى إلَّا لِلْعَارِفِ بِاللُّغَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا يَحْتَمِلُ الْغَيْرَ كَعَامٍّ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ، أَوْ حَقِيقَةٍ تَحْتَمِلُ الْمَجَازَ جَازَ لِلْمُجْتَهِدِينَ فَقَطْ. وَإِنْ كَانَ وَجَبَّارُ أَوْ مُشْتَرَكًا فَلَا يَجُوزُ فِيهِمَا النَّقْلُ بِالْمَعْنَى أَصْلًا، إذْ الْمُرَادُ بِهِمَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالتَّأْوِيلِ. وَأَمَّا الْمُجْمَلُ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ النَّقْلُ بِالْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَالْمُتَشَابِهُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّا اُبْتُلِينَا بِالْكَفِّ عَنْ طَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ بِالْمَعْنَى: قَالَهُ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ. قَالَ: وَأَمَّا مَا يَكُونُ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ كَقَوْلِهِ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» ، وَ «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» وَنَحْوُهُ، فَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا نَقْلَهُ بِالْمَعْنَى بِالشَّرْطِ السَّابِقِ فِي الظَّاهِرِ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِاخْتِصَاصِهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا النَّظْمِ، وَكَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:(ثُمَّ أَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا) ، وَذَكَرَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي كِتَابِهِ قَرِيبًا مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ أَيْضًا.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِهِ: اللَّفْظُ الْمَسْمُوعُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: لَا تَأْوِيلَ فِيهِ، كَقَوْلِهِ: لَا تَقْرَبْ كَذَا، وَافْعَلْ كَذَا، فَهَذَا وَنَحْوُهُ لَا يَجْهَلُهُ أَحَدٌ، يَنْكَرُهُمَا وَقَعَدَ، وَقَامَ وَمَضَى، وَذَهَبَ وَصَبَّ، وَأَرَاقَ، وَهَذَا يَجُوزُ تَأْدِيَتُهُ بِالْمَعْنَى. وَالثَّانِي: مُودَعٌ فِي جُمْلَةٍ لَا يَفْهَمُ الْعَامِّيُّ إلَّا بِأَدَاءِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ. وَيَكُونُ الِاحْتِمَالُ فِيمَا يَظُنُّهُ الْحَاكِي قَائِمًا، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمُتَعَلَّقِ بِذَلِكَ الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْمَعْنَى إلَى لَفْظٍ آخَرَ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: وَلَا يُقْبَلُ خَبَرٌ حَتَّى يَكُونَ رَاوِيهِ عَدْلًا عَاقِلًا مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا بَيْنَ الْمَعَانِي فَحُكْمُهُ فِي الْأَدَاءِ عَلَى