الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ وَكَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ] [
نَقْلِ الصَّحَابِيِّ]
ِ وَيَنْقَسِمُ النَّظَرُ فِيهِ إلَى نَقْلِ الصَّحَابِيِّ وَغَيْرِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَلْفَاظِ الصَّحَابِيِّ مَرَاتِبُ: الْأُولَى: وَهِيَ أَقْوَاهَا: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ كَذَا، أَوْ حَدَّثَنِي، أَوْ أَخْبَرَنِي، أَوْ شَافَهَنِي؛ لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَجَعَلَ ابْنُ الْقَطَّانِ قَوْلَ الْمُحَدِّثِ " سَمِعْت " آكَدَ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى حَدَّثَنَا: حَدَّثَ قَوْمَنَا، كَقَوْلِ الْحَسَنِ خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّانِيَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَذَا. وَإِنَّمَا كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ لِاحْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ فِي قَوْلِهِ: قَالَ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ لَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى احْتِمَالِ الْوَاسِطَةِ وُقُوعُهُ، وَذَلِكَ كَسَمَاعِ أَبِي هُرَيْرَةَ مِنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ» ، ثُمَّ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: قَالَ، وَكَسَمَاعِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» ، ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ، وَلَمَّا سُئِلَ
أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ حَدِيثِهِمَا بَيَّنَا مِمَّنْ سَمِعَاهُ، وَهُوَ حُجَّةٌ أَيْضًا، وَنَقَلَ الْآمِدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ عَنْ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى سَمَاعِهِ، بَلْ هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَهُوَ وَهْمٌ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " التَّصْرِيحَ، وَالْجَزْمَ بِأَنَّهُ عَلَى السَّمَاعِ. وَأَغْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمًا الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " حَكَاهُ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَأَنَّ الشَّيْخَ أَبَا إِسْحَاقَ حَكَاهُ فِي " التَّبْصِرَةِ " عَنْ الْأَشْعَرِيِّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو الْخَطَّابِ مِنْ الْحَنَابِلَةِ، وَنَسَبَهُ لِلْأَشْعَرِيَّةِ أَيْضًا، وَنَحْوُهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ مَرَاسِيلَ الصَّحَابَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ السَّمَاعَ، وَلَيْسَ الْمُسْتَنَدُ هَذَا اللَّفْظَ، بَلْ اسْتِقْرَاءُ عَادَتِهِمْ فِي النَّقْلِ.
الثَّالِثَةُ: أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا، أَوْ نَهَى عَنْ كَذَا، أَوْ قَضَى بِكَذَا، فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالُ الْوَاسِطَةِ مَعَ احْتِمَالِ ظَنِّهِ مَا لَيْسَ بِأَمْرٍ أَمْرًا. لَكِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الصَّحَابِيِّ خِلَافُهُ، فَلِذَلِكَ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ. وَخَالَفَ دَاوُد الظَّاهِرِيُّ، فَقَالَ: لَا يُحْتَجُّ بِهِ حَتَّى يَنْقُلَ لَفْظَ الرَّسُولِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هَكَذَا سَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا الْحَسَنِ الْحَرِيرِيَّ يَقُولُهُ وَيَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ دَاوُد، وَسَمِعْت ابْنَ بَيَانٍ الْقَصَّارَ وَكَانَ دَاوُد يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، هَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ
وَتَرْجَمَ الْمَسْأَلَةَ بِقَوْلِهِ: أَمَرَنَا، وَاحْتَجَّ فِي أَثْنَائِهَا بِأَنَّهُ إذَا قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حُمِلَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ: أَمَرَنَا عَلَى الْوُجُوبِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُسَاعِدَتِهِمْ فِي النَّهْيِ، وَمِمَّا يُسَاعِدُ مَا نَقَلَهُ عَنْ الْحَرِيرِيِّ مَا رَأَيْته فِي كِتَابِ " الْإِعْذَارِ الرَّادِّ عَلَى كِتَابِ الْإِنْذَارِ " لِأَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ السِّرَاجِ عَنْ الظَّاهِرِيَّةِ أَوْ مَنْ ذَهَبَ مِنْهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ الْحَدِيثَ إلَّا إذَا قَالَ رَاوِيهِ: سَمِعْت وَأَخْبَرَنَا، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ حَزْمٍ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا أَوْ أُمِرْنَا بِكَذَا لَيْسَ بِمُسْنَدٍ. وَتَكَلَّمَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي مَقَامَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّحَابِيَّ عَلِمَ كَوْنَ ذَلِكَ أَمْرًا بِذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ مُحْتَمَلٍ عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ، وَحُكِيَ فِي هَذِهِ خِلَافُ بَعْضِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. قَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي طَرِيقِ عِلْمِ الرَّاوِي بِكَوْنِ الْفِعْلِ أَمْرًا، فَقِيلَ بِقَوْلِهِ: افْعَلُوا، وَأَمَرْتُكُمْ، وَقِيلَ: لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ كَوْنَهُ مُرِيدًا الِامْتِثَالَ الْمَأْمُورَ بِهِ. قَالَ: وَالْمُخْتَارُ أَنْ يَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: أَمَرْتُكُمْ بِكَذَا، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ كَذَا، وَبِقَوْلِهِ: افْعَلُوا. وَيَقْتَرِنُ بِهِ مِنْ الْأَحْوَالِ مَا يُعْلَمُ بِهِ قَصْدُ الرَّسُولِ إلَى الْأَمْرِ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَا صِيغَةَ لِلْأَمْرِ. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ "، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " فِي هَذَا الْمَقَامِ قَوْلًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّاقِلُ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِاللُّغَةِ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ كَنَقْلِهِ لَفْظَةَ الْأَمْرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفًا بِاللُّغَةِ فَلَا يُجْعَلُ كَذَلِكَ. قَالَ: فَقَالَ الْقَاضِي: وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمَنْقُولِ بِحَيْثُ تَعْتَوِرُ عَلَيْهِ الْعِبَارَاتُ الْمُخْتَلِفَةُ فَلَا يُجْعَلُ نَقْلُهُ
فِي ذَلِكَ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَا يَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الْعِبَارَةُ، وَلَا تَحُولُ فِيهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ هَلْ يُحْمَلُ عَلَى التَّعْمِيمِ عَلَى كَافَّةِ أَهْلِ الْأَعْصَارِ؟ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى ذَلِكَ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي الْوَقْفَ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى خُصُوصٍ وَلَا عُمُومٍ إلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ مِنْ حَالِ الرَّاوِي مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا بَنَى الْقَاضِي عَلَى مُعْتَقَدِهِ فِي الْوَقْفِ. ثَالِثُهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى السَّمَاعِ، إذْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رُوِيَ لَهُ عَنْهُ خِلَافٌ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَقِيلَ: بِالْوَقْفِ وَمَالَ إلَيْهِ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ، وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " عَنْ دَاوُد.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَبْنِيَ الصِّيغَةَ لِلْمَفْعُولِ فَيَقُولُ: أُمِرْنَا بِكَذَا، أَوْ نُهِينَا عَنْ كَذَا، فَهَذَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ مَا يَتَطَرَّقُ لِ " قَالَ "، وَ " أَمَرَ "، وَيَزِيدُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ وَالنَّاهِي بَعْضَ الْخُلَفَاءِ أَوْ الْأُمَرَاءِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَصُرِفَ الْفِعْلُ إلَى مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ، وَخَالَفَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ
وَالْإِسْمَاعِيلِيّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنَّا، وَالْكَرْخِيُّ وَالرَّازِيَّ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، وَأَكْثَرُ مَالِكِيَّةِ بَغْدَادَ، وَمَنَعُوا إضَافَةَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِعَدَمِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ غَيْرُهُ قَطْعًا، فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ. وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ فِي الْجَدِيدِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ، وَفِي الْقَدِيمِ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ.
وَحَكَى ابْنُ السَّمْعَانِيِّ قَوْلًا ثَالِثًا بِالْوَقْفِ، وَحَكَى ابْنُ الْأَثِيرِ الْجَزَرِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ " جَامِعِ الْأُصُولِ " قَوْلًا رَابِعًا بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقَائِلُ ذَلِكَ الصِّدِّيقَ فَمَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَأَمَّرْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ دَقِيقِ الْعِيدِ خَامِسٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي " شَرْحِ الْإِلْمَامِ ": إنْ كَانَ قَائِلُهُ مِنْ أَكَابِرِ الصَّحَابَةِ كَالْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ غَلَبَةً قَوِيَّةً أَنَّ الْآمِرَ هُوَ الرَّسُولُ، وَفِي مَعْنَاهُمْ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَفِي مَعْنَاهُمْ مَنْ كَثُرَ إلْمَامُهُ بِالنَّبِيِّ وَمُلَازَمَتُهُ كَأَنَسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ آحَادِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ [تَأَخَّرَ] الْتِحَاقُهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ يَفِدُونَ إلَيْهِ، ثُمَّ يَعُودُونَ إلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنَّ الِاحْتِمَالَ فِيهِمْ قَوِيٌّ. انْتَهَى. وَحَاصِلُهُ تَفَاوُتُ الرُّتَبِ فِي ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ فِيمَا قَالَ. وَالْأَظْهَرُ قَبُولُهُ مُطْلَقًا، وَإِضَافَتُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ مُرَادَ الصَّحَابِيِّ إنَّمَا هُوَ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ: أُمِرْنَا، فَيَجِبُ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى صُدُورِهِ مِمَّنْ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ، وَهُوَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إذْ غَيْرُهُ لَا حُجَّةَ فِي أَمْرِهِ.
قَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ الصَّحَابِيُّ ذَلِكَ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَبَيْنَ قَوْلِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَفِي الزَّمَنِ الَّذِي ثَبَتَتْ فِيهِ حُجِّيَّةُ الْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّا لَا نَعْرِفُ أَحَدًا فَصَّلَ ذَلِكَ فِي الصَّحَابِيِّ، وَأَمَّا إذَا قَالَهُ مَنْ بَعْدَهُ، فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَمْرَ الْأَئِمَّةِ، وَتَرَدَّدَ الْغَزَالِيُّ فِي أَنَّ قَوْلَ التَّابِعِيِّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ، أَوْ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ، وَجَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ مِنْ الْحَنَابِلَةِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ.
الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ يَقُولَ رَخَّصَ لَنَا. الْمَرْتَبَةُ السَّادِسَةُ: أَنْ يَقُولَ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ سُنَّةُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ حُجَّةً. قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بِصَلَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عُبَادَةَ وَقَرَأَ بِهَا وَجَهَرَ، وَقَالَ: إنَّمَا فَعَلْت لِتَعْلَمُوا أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الظَّاهِرِ، وَإِنْ جَازَ خِلَافُهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى سُنَّةِ الْبَلَدِ، وَسُنَّةِ الْأَئِمَّةِ فَلَا نَجْعَلُهُ أَصْلًا حَتَّى يُعْلَمَ، وَلَمَّا عَدَلَ الصَّحَابِيُّ عَنْ الْحِكَايَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَفْظًا إلَى كَلَامٍ آخَرَ، عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَدُلَّنَا عَلَى أَنَّهُ فَهِمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مِنْ صَرِيحِ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وَقَالَ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ ": إنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ فِي الْجَدِيدِ، فَقَالَ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ،
وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، وَهَكَذَا حَكَاهُ الْمَازِرِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي " شَرْحِ الْبُرْهَانِ "، فَقَالَ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: هُوَ مَرْفُوعٌ فِي الظَّاهِرِ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: هُوَ مُحْتَمَلٌ، وَلَمْ يَرَهُ مُسْنَدًا. وَهَكَذَا قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِ الرَّاوِي: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَكَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ: إنَّهُ يُرِيدُ سُنَّةَ النَّبِيِّ. قَالَ: وَعَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ: أُمِرْنَا وَنُهِينَا؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ خِلَافُهُ قَالَ ذَلِكَ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَاحْتَجَّ بِأَنْ قَالَ: وَرَجَعَ عَنْ هَذَا فِي الْجَدِيدِ، فَقَالَ: قَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سُنَّةُ الْبَلَدِ، وَسُنَّةُ الْأَمِيرِ، وَأَمَرَنَا الْأَمِيرُ، وَأَمَرَنَا الْأَئِمَّةُ. فَلَا يُجْعَلُ أَصْلًا، حَتَّى يُعْلَمَ جُمْلَتُهُ، وَقَالَ عُمَرُ لِلصَّبِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ: هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ الْحَقَّ مِنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. انْتَهَى.
وَهَكَذَا قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي " شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيّ " فِي بَابِ أَسْنَانِ إبِلِ الْخَطَأِ: إنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى الْقَوْلِ الْقَدِيمِ، وَالْجَدِيدُ أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فَعَلَى هَذَا: الْمَسْأَلَةُ عِنْدَهُمْ مِمَّا يُفْتَى فِيهَا عَلَى الْقَدِيمِ، وَهُوَ نَوْعٌ غَرِيبٌ فِي الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ، وَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ. قُلْت: لَكِنْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَهُوَ مِنْ الْكُتُبِ الْجَدِيدَةِ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، فَقَالَ فِي بَابِ عَدَدِ الْكَفَنِ بَعْدَ ذِكْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ مَا نَصُّهُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ رَجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. لَا يَقُولَانِ السُّنَّةُ إلَّا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. اهـ. وَحِينَئِذٍ
فَيَصِيرُ فِي الْجَدِيدِ قَوْلَانِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ مَعًا، وَقَدْ سَبَقَ كَلَامُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَيْضًا، وَقَدْ جَزَمَ بِهِ الْإِمَامُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ التَّيَمُّمِ فِي شَرْحِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مُقَدَّمَةِ " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ ": إنَّهُ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُودُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْآمِدِيُّ وَالْإِمَامُ وَالْمُتَأَخِّرُونَ. وَشَرَطَ الْحَاكِمُ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي عُلُومِهِمَا كَوْنَ الصَّحَابِيِّ مَعْرُوفًا بِالصُّحْبَةِ، وَفِيهِ إشْعَارٌ أَنَّ مَنْ قَصُرَتْ صُحْبَتُهُ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَذَهَبَ الْكَرْخِيّ وَالرَّازِيَّ وَالصَّيْرَفِيُّ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ؛ لِأَنَّ الْمُتَلَقَّى مِنْ الْقِيَاسِ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ سُنَّةٌ لِإِسْنَادِهِ إلَى الشَّرْعِ، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " الْبُرْهَانِ " أَنَّ عَلَيْهِ الْمُحَقِّقِينَ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْوُقُوفِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيِّ. أَمَّا لَوْ قَالَ التَّابِعِيُّ: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، فَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ السَّابِقِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي بَابِ الْإِعْسَارِ بِالنَّفَقَةِ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، فَحُمِلَ
قَوْلُ سَعِيدٍ: سُنَّةً، عَلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ أَخَذَ فِي الْقَدِيمِ فِي الْمَرْأَةِ تُقَابِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ بِقَوْلِ سَعِيدٍ: مِنْ السُّنَّةِ. فَقَدْ تَضَافَرَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ عَلَى ذَلِكَ، لَكِنْ قَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ فِي الْجِنَايَاتِ: إنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ مَرْفُوعٌ إذَا صَدَرَ مِنْ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُطْلِقُونَهُ، وَيُرِيدُونَ سُنَّةَ الْبَلَدِ. انْتَهَى. فَتَلَخَّصَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ. وَأَطْلَقَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي: مِنْ السُّنَّةِ كَذَا، حُجَّةٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ: ثُمَّ إنْ كَانَ الرَّاوِي صَحَابِيًّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا كَانَتْ رِوَايَتُهُ مُرْسَلَةً، فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَرَاسِيلِ، وَكَذَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي " شَرْحِ الْكِفَايَةِ ": قَوْلُ التَّابِعِيِّ مِنْ السُّنَّةِ كَذَا فِي حُكْمِ الْمَرَاسِيلِ، إنْ كَانَ قَائِلُهُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَلَا.
وَعَنْهُ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ مِنْ تَعْلِيقِهِ حِكَايَةَ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مَرْفُوعٌ مُرْسَلٌ. وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ " اللُّمَعِ ": إنْ كَانَ قَائِلُهُ صَحَابِيًّا فَهُوَ حُجَّةٌ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ التَّابِعِينَ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ. وَكَذَا حَكَى ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي الْعُدَّةِ " الْوَجْهَيْنِ فِي قَوْلِ سَعِيدٍ خَاصَّةً الْخِلَافُ فِي قَبُولِ مُرْسَلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي " التَّقَصِّي ": إذَا أَطْلَقَ الصَّحَابِيُّ السُّنَّةَ، فَالْمُرَادُ بِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ إذَا أَطْلَقَهَا غَيْرُهُ مَا لَمْ تُضَفْ إلَى صَاحِبِهَا، كَقَوْلِهِمْ: سُنَّةُ الْعُمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
الْمَرْتَبَةُ السَّابِعَةُ: أَنْ يَقُولَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ بِظُهُورِهِ فِي أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَكُونُ حُجَّةً، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَعَلَيْهِ الْبَيْضَاوِيُّ
وَالْهِنْدِيُّ. وَقِيلَ: بَلْ ظَاهِرٌ فِي الْوَاسِطَةِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ شَيْئًا.
الْمَرْتَبَةُ الثَّامِنَةُ: أَنْ يَقُولَ: كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم، أَوْ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا. فَأَطْلَقَ الْآمِدِيُّ، وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَالْهِنْدِيُّ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَإِنْ لَمْ يُضِفْهُ لِعَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَالتَّحْرِيرُ أَنَّ لِهَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَلْفَاظًا. أَحَدُهَا: أَنْ يَقُولَ: كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم فَلَا يُتَّجَهُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً خِلَافٌ لِتَصْرِيحِهِ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ الْمُعْتَضَدِ بِتَقْرِيرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَثَانِيهَا: أَنْ يَقُولَ كُنَّا نَفْعَلُ فِي عَهْدِهِ صلى الله عليه وسلم، فَهَذِهِ دُونَ مَا قَبْلَهَا لِاحْتِمَالِ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي كُنَّا إلَى طَائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. قَالَ: فَقَبِلَهُ أَبُو الْفَرَجِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَرَدَّهُ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الْأَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ: وَالْوَجْهُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ
مَا يَكُونُ شَرْعًا مُسْتَقِرًّا، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ:«كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» ، الْحَدِيثَ. فَمِثْلُ هَذَا لَا يَسْتَحِيلُ خَفَاؤُهُ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ خَفَاؤُهُ، فَلَا يُقْبَلُ، كَقَوْلِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى رَوَى لَنَا بَعْضُ عُمُومَتِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: لَعَلَّ الْأَوْلَى فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابِيَّ إنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ الْحُجَّةِ حُمِلَ عَلَى الرَّفْعِ، وَإِلَّا فَلَا أَثَرَ. وَمَا حَكَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ، وَاَلَّذِي رَأَيْته فِي كَلَامِ الْقَاضِي أَبِي مُحَمَّدٍ يَعْنِي عَبْدَ الْوَهَّابِ إنَّمَا هُوَ التَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَصْحَبًا يَخْفَى مِثْلُهُ، فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى عَمَلِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرِهِ بِهِ، كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَنِدُ إلَى عَادَةٍ يَفْعَلُونَهَا فَمُحْتَمَلٌ، حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ الِاحْتِمَالَ، كَأَنْ يُورِدَهُ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِجَاجِ. وَقَالَ الْقَاضِي فِي " التَّقْرِيبِ ": إنْ أَضَافَ فِعْلَهُمْ إلَى زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِيقَاعُهُ عَلَى وَجْهٍ يُعْلَمُ عليه السلام تَكَرُّرُ وُقُوعِهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ لِتَقْرِيرِهِ، وَإِلَّا فَلَا.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَقُولَ كَانَ النَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَلَا يُصَرِّحُ بِعَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَهَذِهِ دُونَ الثَّانِيَةِ، لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ، وَفَوْقَهَا الْإِضَافَةُ إلَى
جَمِيعِ النَّاسِ وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي " التَّقْرِيبِ " فِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِذَلِكَ قَوْلَيْنِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَقُولَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ، أَوْ كُنَّا نَفْعَلُ، وَهُوَ دُونَ الْكُلِّ؛ لِعَدَمِ التَّصْرِيحِ بِالْعَهْدِ، وَبِمَا يَعُودُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ، قِيلَ: وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إذَا قَالَ التَّابِعِيُّ كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَلَا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُصَرِّحَ بِنَقْلِ الْإِجْمَاعِ، وَفِي ثُبُوتِ الْإِجْمَاعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي " الْقَوَاطِعِ ": إذَا قَالَ الصَّحَابِيُّ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مِمَّا لَا يَخْفَى مِثْلُهُ، يُحْمَلُ عَلَى إقْرَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ شَرْعًا لَنَا. وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَخْفَى بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ذِكْرُهُ حُمِلَ عَلَى إقْرَارِهِ، لِأَنَّ الْأَغْلَبَ فِيمَا يَكْثُرُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ:«كُنَّا نُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَاعًا مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ» ، وَعَلَى هَذَا إذَا أَخْرَجَ الرَّاوِي الرِّوَايَةَ مَخْرَجَ التَّكْثِيرِ بِأَنْ قَالَ: كَانُوا يَفْعَلُونَ كَذَا، حُمِلَتْ الرِّوَايَةُ عَلَى عَمَلِهِ وَإِقْرَارِهِ، فَصَارَ الْمَقُولُ شَرْعًا. وَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ لَفْظِ التَّكْثِيرِ كَقَوْلِهِ: فَعَلُوا كَذَا فَهُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا يَثْبُتُ شَرْعٌ بِاحْتِمَالٍ.
الثَّانِي: أَنْ يُضِيفَهُ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَيُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ مَعَ بَقَاءِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ انْقِرَاضِ عَصْرِهِمْ. فَهُوَ حِكَايَةٌ عَنْ إجْمَاعِهِمْ فَيَكُونُ حُجَّةً.
الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَا يُضِيفَهُ إلَى أَحَدِ الْعَصْرَيْنِ، فَإِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بَاقِيًا فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ مُنْقَرِضًا، فَهُوَ مُضَافٌ إلَى عَصْرِ الصَّحَابَةِ؛ لِأَنَّ الْحِكَايَةَ عَنْ مَاضٍ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ، فَالْمَاضِي قَبْلَهُ عَصْرُ الصَّحَابَةِ. تَنْبِيهٌ [فَائِدَةُ رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ] فَائِدَةُ رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ، فَمَا لَا يُحْتَمَلُ أَرْجَحُ مِمَّا يُحْتَمَلُ، وَمَا يَحْتَمِلُ احْتِمَالًا وَاحِدًا أَرْجَحُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِاثْنَيْنِ، وَهَكَذَا فِي الْبَاقِي.