الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهَذَا حَكَاهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ شَيْخِهِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَحَدِ سَلَاطِينِ الْعُلَمَاءِ.
[مَسْأَلَةٌ إذَا عَمِلَ الصَّحَابِيُّ بِخِلَافِ حَدِيثٍ رَوَاهُ]
ُ فَلَهُ أَحْوَالٌ أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عَامًّا فَيَخُصَّهُ بِأَحَدِ أَفْرَادِهِ وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِفُرُوعِهَا فِي بَابِ التَّخْصِيصِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا، فَيُقَيِّدَهُ، وَهُوَ كَتَخْصِيصِ الْعَامِّ بِلَا فَرْقٍ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ نَسْخَهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي آخَرِ بَابِ النَّسْخِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُحْتَمِلًا لِأَمْرَيْنِ مُتَنَافِيَيْنِ، فَيَحْمِلُهُ الرَّاوِي عَلَى أَحَدِهِمَا، فَاَلَّذِي ذَكَرَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَابْنُ فُورَكٍ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ، إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " أَنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا رَجَعَ إلَيْهِ فِيهِ، وَلِهَذَا رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إلَى تَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ التَّفَرُّقُ فِي خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِالْأَبْدَانِ، وَكَتَفْسِيرِهِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ بِبَيْعِهِ إلَى نِتَاجِ النَّتَاجِ، وَكَفِعْلِ عُمَرَ فِي هَاءٍ وَهَاءٍ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا تُفَارِقُهُ وَبَيْنَك وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، ثُمَّ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ:
«الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هَاءَ وَهَاءَ» عَلَى الْمَجْلِسِ دُونَ الْمُقَايَضَةِ عَلَى الْفَوْرِ، وَتَوَقَّفَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي، " اللُّمَعِ ".
هَذَا إنْ كَانَ صَحَابِيًّا، فَإِنْ كَانَ تَابِعِيًّا لَمْ يَلْزَمْ كَمَا سَبَقَ، وَقِيلَ: لَا فَرْقَ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَيَا فَكَالْمُشْتَرَكِ فِي حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ، وَإِنْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ غَيْرَهُمَا كَتَفْسِيرِ ابْنِ عُمَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«إذَا رَأَيْتُمُوهُ فَصُومُوا، وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ فَأَفْطِرُوا، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَقْدِرُوا لَهُ» ، عَادَةُ الشُّهُورِ مِنْ تِسْعِ وَعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ، فَأَوْجَبَ صِيَامَ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ إذَا لَمْ يُرَ الْهِلَالُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، وَكَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً، وَإِنَّمَا لَمْ يَرْجِعْ الشَّافِعِيُّ إلَى تَفْسِيرِهِ ذَلِكَ وَأَوْجَبَ اسْتِكْمَالَ الثَّلَاثِينَ سَوَاءٌ اللَّيْلَةَ الْمُغَيِّمَةَ أَوْ الْمُصْحِيَةَ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ لَمْ يَقُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا، بَلْ جَاءَتْ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُصَرِّحَةً بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ، كَخَبَرِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِكْمَالُهُنَّ ثَلَاثِينَ لَا الْعِدَّةُ الْمُعْتَادَةُ. وَأَطْلَقَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ أَنَّ تَأْوِيلَ الرَّاوِي أَوْلَى لِمُشَاهَدَةِ الْحَالِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَالْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ، كَمَا أَوْصَى أَبُو سَعِيدٍ أَنْ يُكَفَّنَ فِي ثِيَابٍ جُدُدٍ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:«يُحْشَرُ الْمُؤْمِنُ فِي ثَوْبِهِ» يُوَجَّهُ تَأْوِيلُهُ إلَى الثِّيَابِ، ثُمَّ إنَّ الدَّلِيلَ قَامَ عَلَى خِلَافِهِ مِنْ قَوْلِهِ:«يُحْشَرُ النَّاسُ عُرَاةً، فَأَوَّلُ مَنْ يَلْبَسُ إبْرَاهِيمُ» فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّوْبِ فِي الْحَدِيثِ الْعَمَلُ
مِنْ صَالِحٍ أَوْ طَالِحٍ. قَالَ: وَإِنَّمَا جَعَلَ تَأْوِيلَ الرَّاوِي أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَاهَدَ مِنْ الْأَمَارَاتِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى حِكَايَتِهِ، فَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ أَوْلَى، فَإِذَا انْكَشَفَ خِلَافُهُ صِرْنَا إلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: رُبَّمَا سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَدِيثَ، ثُمَّ يَسْمَعُ سَبَبَهُ، أَوْ يَسْمَعُ آخِرَ كَلَامِهِ، وَلَمْ يَسْمَعْ أَوَّلَهُ، وَعَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَحْكِيَ مَا سَمِعَ حَتَّى يَسْمَعَ خِلَافَهُ. اهـ.
قَالَ الْآمِدِيُّ: إذَا حَمَلَ الصَّحَابِيُّ مَا رَوَاهُ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ، فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ اللَّفْظَ الْمُشْتَرَكَ ظَاهِرٌ فِي جَمِيعِ مَحَامِلِهِ كَالْعَامِّ، فَتَعُودُ الْمَسْأَلَةُ إلَى التَّخْصِيصِ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَإِنْ قُلْنَا بِامْتِنَاعِ حَمْلِهِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا نَعْرِفُ خِلَافًا فِي وُجُوبِ حَمْلِ الْخَبَرِ عَلَى مَا حَمَلَهُ عَلَيْهِ الرَّاوِي؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يَنْطِقُ بِاللَّفْظِ الْمُجْمَلِ بِقَصْدِ التَّشْرِيعِ وَتَعْرِيفِ الْأَحْكَامِ، وَيُخَلِّيهِ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ تُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ، وَالصَّحَابِيُّ الرَّاوِي الْمَشَاهِدُ لِلْحَالِ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، فَوَجَبَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَوْرَدَ عَلَى جِهَةِ الِاحْتِمَالِ أَنَّ تَعْيِينَهُ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ تَعْيِينِ غَيْرِهِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، حَتَّى يُنْظَرَ فِيهِ، فَإِنْ انْقَدَحَ لَهُ وَجْهٌ يُوجِبُ تَعْيِينَ غَيْرِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالِ، وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَإِلَّا فَتَعْيِينُ الرَّاوِي صَالِحٌ لِلتَّرْجِيحِ، فَيَجِبُ اتِّبَاعُهُ. اهـ. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَعْيِينَ الصَّحَابِيِّ الْمَشَاهِدِ لِلْحَالِ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ أَوْ مَقَالِيَّةٍ شَاهَدَهَا، فَلَا يَعْدِلُ عَنْ الظَّاهِرِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ مَا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ لَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا.
وَقَدْ نَقَلَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَصَّ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا نَقَلَ خَبَرًا وَأَوَّلَهُ، وَذَكَرَ مُجْمَلَهُ فَتَأْوِيلُهُ مَقْبُولٌ. قَالَ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا أَظُنُّ إذَا أَوَّلَ الصَّحَابِيُّ أَوْ خَصَّصَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ دَلِيلٍ، وَإِلَّا فَالتَّأْوِيلُ الْمُعْتَضِدُ بِالدَّلِيلِ مَقْبُولٌ مِنْ كُلِّ إنْسَانٍ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ لَا اتِّبَاعُ ذَلِكَ الْمُؤَوَّلِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْإِفَادَةِ ": ذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إلَى تَعْيِينِ تَأْوِيلِ الرَّاوِي وَحَكَوْهُ عَنْ الشَّافِعِيِّ. وَمِنْهُمْ مَنْ مَنَعَ ذَلِكَ، وَبَنَى عَلَيْهِ مَنْعَ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ، لِقَوْلِ خُزَيْمَةَ: لَوْ مَضَى السَّائِلُ فِي مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا، فَقَالُوا: هَذَا ظَنٌّ، وَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْخَبَرِ. فَقَالَ: وَالصَّحِيحُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ قَصْدِهِ صلى الله عليه وسلم، فَالْوَاجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يُعْلَمُ مَا لِأَجْلِهِ صَارَ إلَى ذَلِكَ سِوَاهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا طَرِيقُهُ الِاسْتِدْلَال لَمْ يَلْزَمْ؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا طَرِيقُهُ اللُّغَةُ دُونَ الْأَحْكَامِ، فَيَلْزَمُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ؛ لِكَوْنِ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً فِي اللُّغَةِ. اهـ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ حَسَنٌ.
خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ ظَاهِرًا فِي شَيْءٍ، فَيَحْمِلُهُ الصَّحَابِيُّ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، إمَّا بِصَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ، أَوْ بِأَنْ يَصْرِفَهُ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ أَوْ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَى الْكَرَاهَةِ. فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَا يُخْرَجُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ عَمَلِ الصَّحَابِيِّ، وَقَوْلُهُ. هَكَذَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَابْنُ فُورَكٍ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَغَيْرُهُمْ. قَالَ الْآمِدِيُّ: وَفِيهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَيْفَ أَتْرُكُ الْخَبَرَ لِأَقْوَالِ أَقْوَامٍ لَوْ عَاصَرْتُهُمْ لَحَجَجْتُهُمْ [بِالْحَدِيثِ] . وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اتِّبَاعِ قَوْلِ الرَّاوِي فِي ذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ: إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْرَكَ إلَّا بِشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ، وَالْقَرَائِنِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ، وَلَيْسَ لِلِاجْتِهَادِ مَسَاغٌ فِي ذَلِكَ اُتُّبِعَ قَوْلُهُ، وَإِنْ كَانَ صَرْفُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِضَرْبٍ مِنْ الِاجْتِهَادِ تَعَيَّنَ الرُّجُوعُ إلَى ظَاهِرِ الْخَبَرِ، لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ اجْتِهَادُهُ مُطَابِقًا لِمَا فِي نَفْسِ
الْأَمْرِ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ بِالْمُحْتَمَلِ. حَكَاهُ عَنْهُمْ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ". وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْجَبَّارِ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ: إنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِمَذْهَبِ الرَّاوِي وَتَأْوِيلِهِ وَجْهٌ سِوَى عِلْمِهِ بِقَصْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِذَلِكَ التَّأْوِيلِ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ ذَلِكَ، بَلْ جُوِّزَ أَنْ يَكُونَ قَدْ صَارَ إلَيْهِ لِدَلِيلٍ ظَهَرَ لَهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ، وَجَبَ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ الدَّلِيلِ، فَإِنْ كَانَ مُقْتَضِيًا لِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالْخَبَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَةِ الصَّحَابِيِّ أَثَرٌ. سَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ الْمُخَالَفَةُ بِتَرْكِ الْحَدِيثِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ الْوُلُوغُ سَبْعًا، وَرَأْيُهُ بِالثَّلَاثِ وَهَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ مِثَالًا لِتَخْصِيصِ الرَّاوِي عُمُومَ الْخَبَرِ، وَلَيْسَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ أَلْفَاظَ الْعَدَدِ نُصُوصٌ لَا تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ. فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِرِوَايَتِهِ خِلَافًا لِلْحَنَفِيَّةِ.
وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ الْأَئِمَّةِ دَلَّ عَلَى نَسْخِ الْخَبَرِ. وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَابْنِ الْقُشَيْرِيّ أَنَّا إنْ تَحَقَّقْنَا نِسْيَانَهُ لِلْخَبَرِ الَّذِي رَوَاهُ، أَوْ فَرَضْنَا مُخَالَفَةً لِخَبَرٍ لَمْ يَرْوِهِ، وَجَوَّزْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ، فَالْعَمَلُ بِالْخَبَرِ، فَإِنْ رَوَى خَبَرًا مُقْتَضَاهُ رَفْعُ الْحَرَجِ، وَالْحَرَجُ فِيمَا سَبَقَ مِنْهُ تَحْرِيمٌ وَحَظْرٌ، ثُمَّ رَأَيْنَاهُ يَتَحَرَّجُ، فَالِاسْتِمْسَاكُ بِالْخَبَرِ أَيْضًا، وَعَمَلُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْوَرَعِ. وَإِنْ نَاقَضَ عَمَلُهُ رِوَايَتَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا فِي الْجَمْعِ، امْتَنَعَ التَّعَلُّقُ بِرِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَتَعَمَّدَ مُخَالَفَةَ مَا رَوَاهُ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ يُوجِبُ الْمُخَالَفَةَ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَعَلَى هَذَا فَلَا يُقْطَعُ بِأَنَّ
الْحَدِيثَ مَنْسُوخٌ، كَمَا صَارَ إلَيْهِ ابْنُ أَبَانَ، وَلَعَلَّهُ عَلِمَ شَيْئًا اقْتَضَى تَرْكَ الْعَمَلِ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، وَيُتَّجَهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ ثَمَّ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْخَبَرِ، لَوَجَبَ عَلَى هَذَا الرَّاوِي أَنْ يُبَيِّنَهُ، إذْ لَا يَجُوزُ تَرْكُ ذِكْرِ مَا عَلَيْهِ مَدَارُ الْأَمْرِ، وَالْمَحَلُّ مَحَلُّ الِالْتِبَاسِ، ثُمَّ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَهَذَا غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّحَابِيِّ، بَلْ لَوْ رَوَى بَعْضُ الْأَئِمَّةِ خَبَرًا عَمِلَ بِخِلَافِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَلَكِنْ قَدْ اعْتَرَضَ الْأَئِمَّةَ أُمُورٌ أَسْقَطَتْ آثَارُ أَفْعَالِهِمْ الْمُخَالِفَةَ لِرِوَايَتِهِمْ، وَهَذَا كَرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى مُخَالَفَتِهِ، فَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ غَيْرُ قَادِحَةٍ فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ مِنْ أَصْلِهِ تَقْدِيمُ الرَّأْيِ عَلَى الْخَبَرِ، فَمُخَالَفَتُهُ مَحْمُولَةٌ عَلَى قِيَاسِهِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ.
وَلِهَذَا قَالَ: أَرَأَيْت لَوْ كَانَا فِي سَفِينَةٍ، وَكَرِوَايَةِ مَالِكٍ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَعَ مَصِيرِهِ إلَى نَفْيِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَهَذِهِ الْمُخَالَفَةُ لَا تَقْدَحُ أَيْضًا فِي الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَى هَذَا فِيمَا أَظُنُّ تَقْدِيمُهُ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: لَا يَنْبَغِي تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِالرَّاوِي يَرْوِي ثُمَّ يُخَالِفُ، بَلْ تَجْرِي فِيمَنْ يَبْلُغُهُ خَبَرٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يُخَالِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ الرَّاوِيَ لِذَلِكَ الْخَبَرِ، حَتَّى إذَا وَجَدْنَا مَحْمَلًا وَقُلْنَا: إنَّمَا خَالَفَ؛ لِأَنَّهُ اتَّهَمَ الرَّاوِيَ فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يُتَّجَهُ وَجْهٌ لِمُخَالَفَتِهِ إلَّا وَلَهَا الْحَدِيثُ أَوْ الْمَصِيرُ إلَى اسْتِخْفَافِهِ بِالْخَبَرِ، فَحِينَئِذٍ يَتَعَيَّنُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا قَدْحٌ فِي الْخَبَرِ، وَعُلِمَ بِضَعْفِهِ. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا رَوَى الرَّاوِي خَبَرًا، وَكَانَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَمْ يُحِطْ بِمَعْنَاهُ، فَمُخَالَفَتُهُ لِلْخَبَرِ لَا تَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ، وَإِنْ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ نَاسٍ لِلْخَبَرِ، أَوْ ذَاكِرٌ لِمَا يُحْمَلُ بِخِلَافِهِ، فَيَتَعَلَّقُ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَنَحْنُ عَلَى تَرَدُّدٍ
فِيمَا يَدْفَعُ التَّعَلُّقَ بِهِ، فَلَا يُدْفَعُ الْأَصْلُ بِهَذَا التَّرَدُّدِ، بَلْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ خَالَفَ الْحَدِيثَ قَصْدًا وَلَمْ يَتَحَقَّقْهُ، فَهَذَا يُعَضِّدُ التَّأْوِيلَ، وَيُؤَيِّدُهُ وَيَحُطُّ مَرْتَبَةَ الظَّاهِرِ، وَيَخِفُّ الْأَمْرُ فِي الدَّلِيلِ الَّذِي عَضَّدَهُ التَّأْوِيلُ. قَالَ: وَلَوْ رَوَى خَبَرًا، ثُمَّ فَسَقَ، وَفِي زَمَانِ الْفِسْقِ خَالَفَ مَا رَوَاهُ، فَلَا يَقْدَحُ هَذَا فِي الْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مُجُونِهِ، لَا عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ ضَعْفَ الْحَدِيثِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: يُتَّجَهُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الصَّحَابِيَّ إذَا رَوَى وَخَالَفَ مَا رَوَى قَصْدًا، دَلَّ عَلَى ضَعْفِ الْحَدِيثِ؛ لِأَنَّهُمْ شَاهَدُوا الْوَحْيَ، وَعَرَفُوا مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا لَمْ نَعْرِفْهُ.
فَأَمَّا الْإِمَامُ الْآنَ إذَا خَالَفَ خَبَرًا رَوَاهُ، وَقَدْ عَمِلَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ، فَهَذَا الْخِلَافُ لَا يَقْدَحُ فِيهِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَإِذَا كُنَّا نَقُولُ: إذَا وَرَدَ خَبَرٌ، ثُمَّ خَالَفَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ مَعَ ذِكْرِهِ لَهُ، وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا يُقَوِّي ضَعْفَ الْحَدِيثِ أَوْ كَوْنَهُ مَنْسُوخًا، فَلَا عَمَلَ بِذَلِكَ الْخَبَرِ، فَلَوْ خَالَفَ أَقْضِيَةَ الصَّحَابَةِ أَوْ أَئِمَّةَ أَيِّ عَصْرٍ - فَرَضْنَا - الْخَبَرَ وَلَمْ نَجِدْ مَحْمَلًا مِمَّا ذَكَرْنَا، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا يَقْدَحُ فِي الْخَبَرِ إذْ لَا مَحْمَلَ لِتَرْكِ الْعَمَلِ بِالْخَبَرِ إلَّا الِاسْتِهَانَةُ، وَتَرْكُ الْمُبَالَاةِ بِهِ، وَالْعِلْمُ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا، وَلَيْسَ بَيْنَ التَّقْدِيرَيْنِ ثَالِثٌ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ تَنْزِيهِهِمْ عَنْ الِاسْتِهَانَةِ بِالْخَبَرِ. فَتَعَيَّنَ حَمْلُ الْأَمْرِ عَلَى عِلْمِهِمْ بِوُرُودِ النَّسْخِ، وَلَيْسَ هَذَا تَقْدِيمًا لِأَقْضِيَتِهِمْ عَلَى الْخَبَرِ، بَلْ هُوَ اسْتِمْسَاكٌ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ حَمْلِ عَمَلِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُ فِي الصَّوَابِ، فَكَانَ تَعَلُّقًا بِالْإِجْمَاعِ فِي مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْأَمْرِ أَنَّ مَذْهَبَ الصَّحَابِيِّ إذَا نُقِلَ مُفْرَدًا لَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَإِذَا نُقِلَ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى الْمُخَالَفَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ التَّأْوِيلَ، تَعَيَّنَ التَّعَلُّقُ بِقَوْلِ الصَّحَابِيِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ هَذَا تَعَلُّقًا بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ، بَلْ
هُوَ تَعَلُّقٌ بِمَا عَنْهُ صَدَرَ مَذْهَبُهُ، وَلِهَذَا طَرْدَنَا هَذَا الْكَلَامَ فِي أَمْرِ كُلِّ عَصْرٍ كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجْمَاعِ: إنَّ أَهْلَ الْعَصْرِ لَا يُجْمِعُونَ فِي مَظْنُونٍ عَنْ مَسْلَكٍ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ.
وَحَمَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إذْ قَالَ: التَّعْوِيلُ عَلَى الْخَبَرِ لَا عَلَى خِلَافِ الرَّاوِي عَلَى مَا لَوْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الرَّاوِيَ كَانَ نَاسِيًا لِلْخَبَرِ، أَوْ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّهُ قَصَدَ الْخِلَافَ عَنْ تَعَمُّدٍ، فَإِنَّ الْخَبَرَ مُقَدَّمٌ عِنْدَنَا أَيْضًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. وَأَمَّا إذَا غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْخَبَرَ بَلَغَهُمْ، وَلَكِنْ عَمِلُوا بِخِلَافِهِ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعَلُّقَ بِالْخَبَرِ؛ لِأَنَّهُ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ، فَلَا يَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ تَرَدَّدَ فِيهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ فِي كِتَابِ التَّرْجِيحِ هَذَا، وَقَالَ: إنْ لَمْ نَجِدْ فِي الْوَاقِعَةِ مُتَعَلَّقَا سِوَى الْخَبَرِ، وَقَوْلِ الرَّاوِي، وَهُوَ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَهُمَا عَلَى التَّنَاقُضِ فَيُتَمَسَّكُ بِالْخَبَرِ، وَإِنْ وَجَدْنَا مَسْلَكًا فِي الدَّلِيلِ سِوَى الْخَبَرِ، فَالتَّمَسُّكُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَوْلَى. قَالَ: وَلَوْ صَحَّ الْخَبَرُ، وَعَمِلَ بِهِ قَوْمٌ، وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَوْمٌ، وَالْفَرِيقَانِ ذَاكِرَانِ لِلْخَبَرِ، وَالْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةٌ حَيْثُ لَا احْتِمَالَ إلَّا النَّسْخَ، فَاَلَّذِي أَرَاهُ تَقْدِيمَ عَمَلِ الْمُخَالِفِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ.
وَيُحْمَلُ عَمَلُ الْعَامِلِينَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، ثُمَّ الْعُرْفُ يَقْضِي بِأَنْ يَتَّبِعَ الْمُخَالِفُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِوَفَاءِ الْحَدِيثِ، وَكُلُّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَوْ انْعَقَدَ عَلَى مُخَالَفَةِ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ إنْ تُصُوِّرَ ذَلِكَ، فَالتَّعَلُّقُ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَطْعِيَّةٌ، وَيَتَطَرَّقُ إلَى الْخَبَرِ النَّسْخُ، فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ قَطْعًا، وَيَسْتَحِيلُ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُكْمٍ مَعَ خَبَرٍ نَصَّ عَلَى مُنَاقَضَتِهِ مَعَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ، فَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ. قَالَ: وَاَلَّذِي أَرَاهُ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى مُنَاقَضَةِ الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ أَنْ يَلْهَجَ أَهْلُ الْإِجْمَاعِ بِكَوْنِهِ مَنْسُوخًا.
قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَقَدْ بَنَى
الْإِمَامُ جُمْلَةَ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ فِيمَا لَا يُقَاسَ وَفِي الْمُقَدَّرَاتِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَا يُخَالِفُهُ الْقِيَاسُ الْجَلِيُّ إلَّا عَنْ ثَبْتٍ. وَالْقَاضِي يَأْبَى هَذَا أَشَدَّ الْإِبَاءِ، وَيَقُولُ: رُبَّمَا ظَنَّ أَنَّهُ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ، وَرُبَّمَا زَلَّ إذْ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ.