الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْهِنْدِيُّ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِفَاضَةَ مِنْ جُمْلَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ.
[مَسْأَلَةٌ أَقْسَامُ خَبَرِ الْوَاحِدِ]
ِ] قَسَّمَ الْأَقْدَمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي كِتَابِهِ، وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ، خَبَرَ الْوَاحِدِ إلَى أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِيهِ إجْمَاعًا كَالشَّهَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَلَا خِلَافَ فِي قَبُولِهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} [الأحزاب: 53] قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَمَنْ بَعْدَهُ: وَلَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الْمُخْبِرِ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فِيهَا سُكُونُ النَّفْسِ إلَى خَبَرِهِ، فَيُقْبَلُ مِنْ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، فَإِذَا قَالَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ: هَذِهِ هَدِيَّةُ فُلَانٍ إلَيْك، أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةُ وَهَبَهَا فُلَانٌ إلَيْك، أَوْ كُنْت أَمَرْته بِشِرَائِهَا فَاشْتَرَاهَا، كُلِّفَ الْمُخْبَرُ قَبُولَ قَوْلِهِ إذَا وَقَعَ فِي نَفْسِهِ صِدْقُهُ، وَيَحِلُّ لَهُ اسْتِمْتَاعٌ بِالْجَارِيَةِ وَالتَّصَرُّفُ فِي الْهَدِيَّةِ، وَكَذَا الْإِذْنُ فِي دُخُولِ الدَّارِ، وَهَذَا شَيْءٌ مُتَعَارَفٌ فِي الْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَيَلْتَحِقُ بِهِ خَبَرُ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ. وَأَمَّا خَبَرُ الشَّهَادَاتِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ شَرْطَانِ بِالْإِجْمَاعِ: الْعَدَالَةُ، وَالْعَدَدُ. قَالَ الْقَفَّالُ: وَقَدْ وَرَدَ الْكِتَابُ وَالْإِجْمَاعُ بِقَبُولِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ
اُخْتُلِفَ فِي شَرْطِ بَعْضِهَا الْأَكْثَرُونَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي عَلِيٍّ وَأَبِي هَاشِمٍ وَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ إلَى نَفْيِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ الطُّوسِيِّ مِنْ الْإِمَامِيَّةِ. وَذَهَبَ الْأَقَلُّونَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ كَابْنِ سُرَيْجٍ وَالصَّيْرَفِيِّ، وَالْقَفَّالِ مِنَّا، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ، إلَى أَنَّ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا؛ لِاحْتِيَاجِ النَّاسِ إلَى مَعْرِفَةِ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ، وَمِنْ بَعْدِهَا أَعْظَمَ الضَّرَرِ إذْ لَا يُمْكِنُهُمْ التَّلَافِي بِأَجْمَعِهِمْ. وَنُقِلَ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَفَصَّلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ بَيْنَ الْخَبَرِ الدَّالِّ عَلَى مَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ، وَمَا لَا يَسْقُطُ بِهَا، فَمَنَعَهُ فِي الْأَوَّلِ وَجَوَّزَهُ فِي الثَّانِي. حَكَاهُ فِي الْأَحْكَامِ "، وَقَدْ بَسَطَ الشَّافِعِيُّ كَلَامَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ ". وَقَدْ احْتَجُّوا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات: 6] وَبِقَوْلِهِ: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] وَهَذَا لَا يُفِيدُ إلَّا الظَّنَّ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالثَّانِيَةِ أَضْعَفُ مِنْ الْأُولَى.
قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَالْحَقُّ عِنْدَنَا فِي الدَّلِيلِ بَعْدَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عِلْمِيَّةٌ أَنَّا قَاطِعُونَ بِعَمَلِ السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَبِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ وَرَدَ مِنْهُ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَهَذَا الْقَطْعُ حَصَلَ لَنَا مِنْ تَتَبُّعِ الشَّرِيعَةِ، وَبُلُوغِ جُزَيْئَاتٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهَا، وَمَنْ تَتَبَّعَ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَجُمْهُورِ الْأُمَّةِ مَا عَدَا هَذِهِ الْفِرْقَةَ الْيَسِيرَةَ عَلِمَ ذَلِكَ قَطْعًا. اهـ. وَلَنَا عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ ثَلَاثَةُ مَسَالِكَ. الْأَوَّلُ: مَا تَوَاتَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ إنْفَاذِ وُلَاتِهِ وَرُسُلِهِ آحَادًا إلَى أَطْرَافِ الْبِلَادِ النَّائِيَةِ؛ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الدِّينَ، وَلِيُوقِفُوهُمْ عَلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَمَنْ طَالَعَ كُتُبَ السِّيَرِ ارْتَوَى بِذَلِكَ. وَالثَّانِي: مَا عُلِمَ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ عَمَلِ الصَّحَابَةِ وَرُجُوعِهِمْ إلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنْ الْحَوَادِثِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْعَمَلَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ يَقْتَضِي دَفْعَ ضَرَرٍ مَظْنُونٍ فَكَانَ الْعَمَلُ بِهِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ إذَا أَخْبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَمَرَ بِكَذَا، حَصَلَ ظَنٌّ أَنَّهُ وُجِدَ الْأَمْرُ، وَأَنَّا لَوْ تَرَكْنَاهُ لَصِرْنَا إلَى الْعَذَابِ، وَبِهَذَا الدَّلِيلِ اسْتَدَلَّ ابْنُ سُرَيْجٍ وَمُتَابِعُوهُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عَقْلًا. وَنَقُولُ: سَبَبُ الِاضْطِرَارِ إلَى الْعَمَلِ بِهِ، أَمَّا فِي الشَّهَادَاتِ وَالْفَتْوَى وَالْأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ كَالْإِذْنِ فِي دُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا فَظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ الرُّجُوعُ فِي ذَلِكَ وَنَحْوِهِ إلَى الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَوُقُوفِهِمْ عِنْدَهَا، وَقَدْ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى ذَلِكَ بَيْنَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ لِيُعَلِّمَهَا النَّاسَ، وَهُوَ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، مُضْطَرٌّ إلَى تَبْلِيغِ النَّاسِ كُلِّهِمْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ، وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِمُشَافَهَةِ الْجَمِيعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَعْثِ الرُّسُلِ إلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَيِّرَ إلَى كُلِّ بُقْعَةٍ عَدَدًا مُتَوَاتِرًا، فَلَزِمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّبْلِيغَ يَكُونُ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ.
وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِهَا، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْ الْمَبْعُوثَ إلَيْهِمْ الْعَمَلُ بِمَا يَقُولُهُ الرُّسُلُ، فَبَطَلَ فَائِدَتُهُمْ. هَذَا إذَا كَانَ أَكْثَرَ عَنْهُ مِمَّا يُكْتَفَى فِيهِ بِالظَّنِّ. أَمَّا مَا يُطْلَبُ فِيهِ الْيَقِينُ كَالْعِلْمِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهِ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ، وَالظَّنُّ فِي ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. فَكَيْفَ يُمْكِنُ تَبْلِيغُ هَذِهِ إلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَنَقُولُ: إنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ بِأَنْ يُرْسَلَ فِيهَا الْآحَادُ أَيْضًا، وَلَكِنَّهُ يُشِيرُ فِي كَلَامِهِ إلَى الْبُرْهَانِ الْعَقْلِيِّ مِمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِمَّنْ يَكُونُ لَهُ فَطَانَةٌ، فَيَتَنَبَّهُ بِذَلِكَ الْخَبَرِ إلَى ذَلِكَ الْبُرْهَانِ بِطَرِيقِ الْعَقْلِ، وَمَنْ لَا فَطَانَةَ لَهُ فَقَدْ يَتَعَلَّمُ عَلَى الطُّولِ، وَقَدْ يُسَافِرُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِيَسْتَقْصِيَ بِهِ ذِهْنُهُ شَرْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا فَعَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، فَكَانَتْ كُلُّهَا عِلْمِيَّةً؟ قُلْنَا: هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ. أَمَّا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْأَحْكَامَ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالْعَقْلِ، فَتَكْلِيفُ النَّاسِ الْوُقُوفَ عَلَى بَرَاهِينِ جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِمَّا يَشُقُّ جِدًّا، وَيَشْغَلُهُمْ عَنْ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فِي عِمَارَةِ الْبَلَدِ، فَلِذَلِكَ اكْتَفَى الشَّارِعُ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِالظَّنِّ. فَكَفَتْ فِيهَا أَخْبَارُ الْآحَادِ، وَإِشَارَاتُ الْبَرَاهِينِ الْعَقْلِيَّةِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الْيَقِينِ، وَهِيَ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْإِيمَانُ فَيَتِمُّ بِذَلِكَ تَبْلِيغُهُ النَّاسَ كُلَّهُمْ جَمِيعَ الْأَحْكَامِ.
تَنْبِيهَاتٌ. الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: إنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي الْعِبَارَةِ تَسَاهُلٌ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَبَرِ لَوْ أَوْجَبَ الْعَمَلَ لَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُثْمِرُ عِلْمًا، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْعَمَلُ عِنْدَ سَمَاعِهِ بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ يَجِبُ الْعَمَلُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، وَهَذَا سَهْلٌ.