الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الشَّرْطُ الثَّالِثُ الْعَدَالَةُ فِي الدِّينِ]
ِ] فَالْفَاسِقُ لَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ كَمَا لَا يَوْثُقُ بِشَهَادَتِهِ، وَالْعَدْلُ هُوَ الْعَادِلُ تَوَسُّعًا، مَأْخُوذٌ مِنْ الِاعْتِدَالِ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ: مَنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيُحْكَمُ بِهَا. وَالْعَدَالَةُ فِي الْأَصْلِ هِيَ الِاسْتِقَامَةِ، يُقَالُ: طَرِيقٌ عَدْلٌ، لِطَرِيقِ الْجَادَّةِ، وَضِدُّهَا الْفِسْقُ، وَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي جُعِلَ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا تُقْبَلَ رِوَايَتُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَوَاهُ غَالِبٌ عَلَى تَقْوَاهُ، فَلَا تَصِحُّ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ، ثُمَّ ضَابِطُ الشَّرْعِ فِي ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ، فَلَوْ لَاحَ بِالْمَخَايِلِ صِدْقُهُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ رِوَايَتِهِ، فَإِنَّهُ يُخَالِفُ ضَابِطَ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَعْمَلَ بِكُلِّ ظَنٍّ، بَلْ ظَنٍّ لَهُ أَصْلٌ شَرْعًا. هَذَا إذَا رَجَعَ الْفِسْقُ إلَى الدِّيَانَةِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ رَجَحَ إلَى الْعَقِيدَةِ كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ فَقَدْ سَبَقَ حُكْمُهُ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَا تُقْبَلُ مِمَّنْ اُتُّفِقَ عَلَى فِسْقِهِ، وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا. [تَعْرِيفُ الْعَدَالَةِ] وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا، فَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِسْلَامِ مَعَ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْفِسْقِ، وَعِنْدَنَا مَلَكَةٌ فِي النَّفْسِ تَمْنَعُ عَنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ، وَالرَّذَائِلِ الْمُبَاحَةِ كَالْبَوْلِ فِي الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ جِنْسُ الْكَبَائِرِ وَالرَّذَائِلِ الصَّادِقِ بِوَاحِدَةٍ، لَا حَاجَةَ؛ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغِيرَةِ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ كَبِيرَةً. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَاَلَّذِي صَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَمْحُضُ الطَّاعَةَ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِمَعْصِيَةٍ، وَلَا فِي الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَمْحُضُ
الْمَعْصِيَةَ، فَلَا يَمْزُجُهَا بِالطَّاعَةِ. فَلَا سَبِيلَ إلَى رَدِّ الْكُلِّ، وَلَا إلَى قَبُولِ الْكُلِّ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ عَلَى الرَّجُلِ مِنْ أَمْرِهِ الطَّاعَةَ وَالْمُرُوءَةَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ الْمَعْصِيَةَ وَخِلَافَ الْمُرُوءَةِ رَدَدْتهَا. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَرْيِ الرِّوَايَةِ وَالشَّهَادَةِ مَجْرًى وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ جَرَى الْقَاضِي.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: مَنْ قَارَفَ كَبِيرَةً رُدَّتْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ اقْتَرَفَ صَغِيرَةً لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَلَا رِوَايَتُهُ. قَالَ: وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَمُقَارَفَةِ الْكَبِيرَةِ، وَقَالَ: لَوْ ثَبَتَ كَذِبُ الرَّاوِي رُدَّتْ رِوَايَتُهُ إذَا تَعَمَّدَ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ الْكَذِبَ مِنْ الْكَبَائِرِ؛ لِأَنَّهُ قَادِحٌ فِي نَفْسِ الْمَقْصُودِ بِالرِّوَايَةِ. وَقَالَ الْقَاضِي مَا مَعْنَاهُ: الْمَعْنِيُّ فِي الرِّوَايَةِ الثِّقَةُ، فَكُلُّ مَا لَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ لَا يَقْدَحُ فِي الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا الْقَادِحُ مَا يَخْرِمُ الثِّقَةَ. اهـ. وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": الْمُرَادُ بِالْعَدْلِ مَنْ كَانَ مُطِيعًا؛ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنْ الْمَعَاصِي إلَّا هَفَوَاتٍ وَزَلَّاتٍ، إذْ لَا يَعْرَى وَاحِدٌ مِنْ مَعْصِيَةٍ، فَكُلُّ مَنْ أَتَى كَبِيرَةً فَاسِقٌ، أَوْ صَغِيرَةً فَلَيْسَ بِفَاسِقٍ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وَمَنْ تَتَابَعَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ وَكَثُرَتْ وُقِفَ خَبَرُهُ، وَكَذَا مَنْ جُهِلَ أَمْرُهُ. قَالَ: وَمَا ذَكَرْتُ مِنْ مُتَابَعَةِ الْأَفْعَالِ لِلْعَاصِي أَنَّهَا عِلْمُ الْإِصْرَارِ؛ لِعِلْمِ الظَّاهِرِ، كَالشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ، وَعَلَى أَنِّي عَلَى حَقِّ النَّظَرِ لَا أَجْعَلُ الْمُقِيمَ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْمَعْفُوِّ عَنْهَا، مُرْتَكِبًا لِلْكَبِيرَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقِيمًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ الْمُخَالِفَةِ أَمْرَ اللَّهِ دَائِمًا. قَالَ: فَكُلُّ مَنْ ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ فَمَقْبُولٌ حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ يُحَاطُ بِهَا وَأَنَّهُ عَدْلٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَا يَكُونُ مَوْقُوفًا حَتَّى يُعْلَمَ الْجَرْحُ. اهـ.
وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": لَا بُدَّ فِي الْعَدْلِ مِنْ أَرْبَعِ شَرَائِطَ: 1 - الْمُحَافَظَةُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَاجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ.
وَأَنْ لَا يَرْتَكِبَ مِنْ الصَّغَائِرِ مَا يَقْدَحُ فِي دِينٍ أَوْ عِرْضٍ. 3 - وَأَنْ لَا يَفْعَلَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ مَا يُسْقِطُ الْقَدْرَ، وَيُكْسِبُ النَّدَمَ. 4 - وَأَنْ لَا يَعْتَقِدَ مِنْ الْمَذَاهِبِ مَا تَرُدُّهُ أُصُولُ الشَّرْعِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الثِّقَةُ مِنْ الْمُعْتَمَدِ عَلَيْهَا، فَمَتَى حَصَلَتْ الثِّقَةُ بِالْخَبَرِ قُبِلَ، وَهَذَا مَفْهُومٌ مِنْ عَادَةِ الْأُصُولِيِّينَ، وَهَذَا ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي، الرِّسَالَةِ " فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَيْسَ لِلْعَدْلِ عَلَامَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِ الْعَدْلِ فِي بَدَنِهِ وَلَا لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا عَلَامَةُ صِدْقِهِ بِمَا يُخْتَبَرُ مِنْ حَالِهِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ أَمْرِهِ ظَاهِرَ الْخَيْرِ قُبِلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ مِنْ بَعْضِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرَى أَحَدٌ رَأَيْنَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ، فَإِذَا خَلَطَ الذُّنُوبَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الِاجْتِهَادُ عَلَى الْأَغْلَبِ مِنْ أَمْرِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ حُسْنِهِ وَقُبْحِهِ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَدَالَةَ فِي الرِّوَايَةِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَنَا شَرْطًا بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَنْتَهِي إلَى الْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ عَبْدَانِ فِي شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تُعْتَبَرَ الْعَدَالَةُ مِمَّنْ يَقْبَلُهُ الْحَاكِمُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، أَوْ زَكَّاهُ مُزَكِّيَانِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي نَاقِلِ الْخَبَرِ، وَعَدَالَتِهِ مَا يُعْتَبَرُ فِي الدِّمَاءِ وَالْفُرُوجِ وَالْأَمْوَالِ، بَلْ إذَا كَانَ ظَاهِرُهُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ قُبِلَ خَبَرُهُ، هَذَا كَلَامُهُ. قُلْت: وَظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي اخْتِلَافِ الْحَدِيثِ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ أَوْرَدَهُ: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ شَهَادَتُهُمَا إذَا كَانَا عَدْلَيْنِ فِي الظَّاهِرِ. اهـ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ مَنْ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ بِشَهَادَتِهِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَوَاطِنَ.
[أَقْسَامُ الذُّنُوبِ] أَحَدُهَا: أَنَّ الذُّنُوبَ إلَى كَمْ تَنْقَسِمُ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: إلَى قِسْمَيْنِ صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، وَيُسَاعِدُهُمْ إطْلَاقَاتُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] فَجَعَلَ الْفُسُوقَ وَهُوَ الْكَبَائِرُ تَلِي رُتْبَةَ الْكُفْرِ، وَجَعَلَ الصَّغَائِرَ تَلِي رُتْبَةَ الْكَبِيرَةِ، وَقَدْ خَصَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْضَ الذُّنُوبِ بِاسْمِ الْكَبَائِرِ. الثَّانِي: هُوَ قِسْمٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْكَبَائِرُ وَهُوَ طَرِيقَةُ جَمْعٍ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ، مِنْهُمْ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، وَنَفْيُ الصَّغَائِرِ، وَجَرَى عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي، الْإِرْشَادِ "، وَابْنُ فُورَكٍ فِي كِتَابِهِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ "، فَقَالَ: الْمَعَاصِي عِنْدَنَا كَبَائِرُ، وَإِنَّمَا يُقَالُ لِبَعْضِهَا: صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، كَمَا يُقَالُ: الزِّنَا صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْكُفْرِ، وَالْقُبْلَةُ الْمُحَرَّمَةُ صَغِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا، وَكُلُّهَا كَبَائِرُ. قَالَ: وَمَعْنَى الْآيَةِ: إنْ اجْتَنَبْتُمْ كَبَائِرَ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ،
وَهُوَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ، كَفَّرْت عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ الَّتِي دُونَ الْكُفْرِ، إنْ شِئْت. ثُمَّ حَكَى انْقِسَامَ الذُّنُوبِ إلَى صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَلَّطَهُمْ، وَلَعَلَّ أَصْحَابَ هَذَا الْوَجْهِ كَرِهُوا تَسْمِيَةَ مَعْصِيَةِ اللَّهِ صَغِيرَةً؛ إجْلَالًا لِلَّهِ وَتَعْظِيمًا لِأَمْرِهِ، مَعَ أَنَّهُمْ وَافَقُوا فِي الْجَرْحِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ بِمُطْلَقِ الْمَعْصِيَةِ.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْحَلِيمِيِّ: إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ صَغِيرَةٍ، وَكَبِيرَةٍ وَفَاحِشَةٍ، فَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ كَبِيرَةٌ، فَإِذَا قَتَلَ ذَا رَحِمٍ فَفَاحِشَةٌ، فَأَمَّا الْخَدْشَةُ وَالضَّرْبَةُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَصَغِيرَةٌ. وَجَعَلَ سَائِرَ الذُّنُوبِ هَكَذَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ رُتْبَةَ الْكَبَائِرِ تَتَفَاوَتُ قَطْعًا.
[تَعْرِيفُ الْكَبِيرَةِ] الثَّانِي: إذَا قُلْنَا بِالْمَشْهُورِ فَاخْتَلَفُوا فِي الْكَبِيرَةِ، هَلْ تُعَرَّفُ بِالْحَدِّ أَوْ بِالْعَدِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَاخْتَلَفُوا عَلَى أَوْجُهٍ. قِيلَ: الْمَعْصِيَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَدِّ، وَقِيلَ: مَا لَحِقَ صَاحِبَهَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ، وَقِيلَ: مَا تُؤْذِنُ بِقِلَّةِ اكْتِرَاثِ مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَقِيلَ: مَا نَصَّ الْكِتَابُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، أَوْ وَجَبَ فِي جِنْسِهِ حَدٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ قَائِلٍ ذَكَرَ بَعْضَ أَفْرَادِهَا، وَيَجْمَعُ الْكَبَائِرَ جَمِيعُ ذَلِكَ. وَالْقَائِلُونَ بِالْعَدِّ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا هَلْ تَنْحَصِرُ؟ فَقِيلَ: تَنْحَصِرُ، وَاخْتَلَفُوا فَقِيلَ: مُعَيَّنَةٌ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي " الْبَسِيطِ ": الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْكَبَائِرِ حَدٌّ يَعْرِفُهُ
الْعِبَادُ، وَتَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الصَّغَائِرِ تَمْيِيزَ إشَارَةٍ، وَلَوْ عُرِفَ ذَلِكَ لَكَانَتْ الصَّغَائِرُ مُبَاحَةً، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْفَى ذَلِكَ عَلَى الْعِبَادِ لِيَجْتَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي اجْتِنَابِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِلْكَبَائِرِ، وَنَظِيرُهُ إخْفَاءُ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ، وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ. اهـ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةَ عَشْرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ إلَى سَبْعِينَ أَقْرَبُ مِنْهَا إلَى السَّبْعِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا لَا تَنْحَصِرُ، إذْ لَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ السَّمْعِ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَصْرُهَا، وَقَدْ أَنْهَاهَا الْحَافِظُ الذَّهَبِيِّ فِي جُزْءٍ صَنَّفَهُ إلَى السَّبْعِينَ. وَمِنْ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ: الْقَتْلُ، وَالزِّنَا وَاللِّوَاطُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَمُطْلَقُ السُّكْرِ، وَالسَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ وَالْقَذْفُ، وَالنَّمِيمَةُ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ، وَالْعُقُوقُ وَالْفِرَارُ، وَمَالُ الْيَتِيمِ وَخِيَانَةُ الْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ وَتَقَدُّمُ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرُهَا، وَالْكَذِبُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَضَرْبُ الْمُسْلِمِ، وَسَبُّ الصَّحَابَةِ وَكِتْمَانُ الشَّهَادَةِ، وَالرِّشْوَةُ وَالدِّيَاثَةُ، وَهِيَ الْقِيَادَةُ عَلَى أَهْلِهِ، وَالْقِيَادَةُ وَهِيَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ، وَالسِّعَايَةُ عِنْدَ السُّلْطَانِ، وَمَنْعُ الزَّكَاةِ وَالْيَأْسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَمْنُ الْمَكْرِ وَالظِّهَارُ، وَأَكْلُ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ، وَفِطْرُ رَمَضَانَ وَالْغُلُولُ، وَالْمُحَارَبَةُ وَالسِّحْرُ، وَالرِّبَا وَتَرْكُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَنِسْيَانُ الْقُرْآنِ بَعْدَ حِفْظِهِ، وَإِحْرَاقُ الْحَيَوَانِ بِالنَّارِ وَامْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا بِلَا سَبَبٍ.
وَتَوَقَّفَ الرَّافِعِيُّ فِي " تَرْكِ الْأَمْرِ " وَمَا بَعْدَهُ، وَنَقَلَ عَنْ صَاحِبِ الْعُدَّةِ
جَعْلَ الْغِيبَةِ مِنْ الصَّغَائِرِ، وَهُوَ يُخَالِفُ نَصَّ الشَّافِعِيِّ، كَيْفَ وَهِيَ أُخْتُ النَّمِيمَةِ، وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ حَدِيثَ الْمُعَذَّبَيْنِ فِي قَبْرِهِمَا، فَذَكَرَ الْغِيبَةَ بَدَلَ النَّمِيمَةِ وَمِنْهَا إدْمَانُ الصَّغِيرَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغَائِرِ حُكْمُهُ حُكْمُ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْقُضَاعِيُّ فِي كِتَابِ " تَحْرِيرِ الْمَقَالِ فِي مُوَازَنَةِ الْأَعْمَالِ ": إنَّ الْإِصْرَارَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَا أُصِرَّ بِهِ عَلَيْهِ، فَالْإِصْرَارُ عَلَى الصَّغِيرَةِ صَغِيرَةٌ. قَالَ: وَقَدْ جَرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الصُّوفِيَّةِ لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ، وَرُبَّمَا يَرْوِي حَدِيثًا، وَلَا يَصِحُّ، وَالْإِصْرَارُ يَكُونُ بِاعْتِبَارَيْنِ: أَحَدُهُمَا: حُكْمِيٌّ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى فِعْلِ تِلْكَ الصَّغِيرَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، فَهَذَا حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ كَرَّرَهَا فِعْلًا، بِخِلَافِ التَّائِبِ مِنْهَا، فَلَوْ ذَهَلَ مِنْ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى شَيْءٍ فَهَذَا هُوَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، وَالْجُمُعَةِ وَالصِّيَامِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ.
لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي هَذَا هَلْ شَرْطُ التَّكْفِيرِ عَدَمُ مُلَابَسَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ الْكَبَائِرِ أَوْ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«الصَّلَاةُ إلَى الصَّلَاةِ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهُمَا مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ» ، وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ عَنْ الْجُمْهُورِ الِاشْتِرَاطَ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ. قَالَ: وَالشَّرْطُ فِي الْحَدِيثِ بِمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالتَّقْدِيرُ: مُكَفِّرَاتُ مَا بَيْنَهُنَّ