الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإما لاستهجان ذكره؛ كقول عائشة رضى الله عنها: (ما رأيت منه؛ ولا رأى منّى)(1) أى: العورة.
وإما لنكتة أخرى.
وتقديم مفعوله، ونحوه عليه: لردّ الخطأ فى التعيين؛ كقولك: زيدا عرفت لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا، وإنه غير زيد، وتقول لتأكيده لا غيره؛ ولذلك لا يقال: ما زيدا ضربت ولا غيره خ خ، ولا: ما زيدا ضربت، ولكن أكرمته ".
ــ
حذف المفعول لاستهجان ذكره:
وإما لاستهجان ذكر المفعول كقول عائشة رضى الله عنها: ما رأيت منه ولا رأى منى.
حذف المفعول لنكتة أخرى:
(قوله: وإما لنكتة أخرى) أى: لمعنى آخر يقتضى الحذف، كخوف ذكره وإرادة الإنكار لدى الحاجة وجعل السكاكى من الحذف للاختصار قوله تعالى: وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ (2) وقال الزمخشرى: ترك المفعول؛ لأن الغرض الفعل لا المفعول، قال المصنف فى الإيضاح: قد يشتبه الحال فى الحذف وعدمه؛ لعدم تحصيل معنى الفعل كقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ (3) قد يتوهم أن معناه نادوا فلا حذف، ولا يصح، لأنه يلزم الاشتراك لو كان المسمى متعددا أو عطف الشئ على نفسه إن كان واحدا، بل هو بمعنى سموا فالحذف واقع والله تعالى أعلم.
تقديم المفعول على الفعل:
ص: (وتقديم مفعوله ونحوه عليه
…
إلخ).
(ش): تقديم مفعول الفعل عليه يكون لرد الخطأ فى التعيين، والمراد أن المخاطب يظن وقوع الفعل على مفعول
معين، والغرض أنه واقع على غيره: كقولك: زيدا عرفت، لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا غير زيد، وتؤكد هذا بقولك: لا غيره - كذا قاله
(1) أخرجه الطبرانى فى الصغير (ص 27) ومن طريقه أبو نعيم (8/ 247) والخطيب (1/ 225) وفى سنده بركة بن محمد الحلبى خ خ، ولا بركة فيه، فإنه كذاب وضاع. وقد ذكر الحافظ ابن حجر له هذا الحديث فى اللسان (2/ 13) وقال: تفرد به بركة، وعدّه من أباطيله. وقال ابن عدى فى مختصر الكامل ص 194: وسائر أحاديث بركة مناكير باطلة كلها، لا يرد بها غيره، وله من الأحاديث البواطل عن الثقات غير ما ذكرته، وهو ضعيف كما قال عبدان راجع آداب الزفاف للشيخ الألبانى ص 34.
(2)
سورة القصص: 23.
(3)
سورة الإسراء: 110.
وأما نحو: زيدا عرفته فتأكيد إن قدّر المفسّر قبل المنصوب؛ وإلا فتخصيص.
وأمّا نحو: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (1): فلا يفيد إلا التخصيص؛ وكذلك قولك: بزيد مررت خ خ.
والتخصيص لازم للتقديم غالبا؛
ــ
المصنف - وينبغى أن يقيد كونه تأكيدا بما إذا كان مرادا به الاختصاص، فإن لم يرد فيكون قولك: لا غيره تأسيسا لا تأكيدا، إلا أن يريد أنه تأكيد لتعلق الفعل بالمفعول السابق، وإن أفاد نفى غيره، قال المصنف: ولذلك لا يقال: ما زيدا ضربت ولا غيره لتناقض دلالة الأول والثانى؛ لأن ما زيدا ضربت، خاطبت به من يعلم أن إنسانا ضربته، ولكنه غلط فى تعيينه وأصاب فى معرفة إنسان فى الجملة، وقولك: ما زيدا ضربت ولا غيره، يخالف ذلك، ولك أن تقول: لم لا يقدم المفعول إذا كان الخطاب مع من يعتقد أنك ضربت زيدا وهو مخطئ فى أصله، وفى تعيينه بأن يكون الواقع أنك لم تضرب أحدا، ويصح حينئذ: ما زيدا ضربت ولا غيره، قال: وكذلك لا يجوز أن تعقب الفعل المنفى بإثبات ضده كقولك: ما زيدا ضربت ولكن أكرمته؛ لأن التقديم إنما يكون لرد الخطأ فى تعيين المفعول فيرد إليه بالتقديم لا لرفع الخطأ فى المسند، بل إنما يحسن الرد هنا بأن يقال: ما زيدا ضربت ولكن عمرا. وأما نحو قولك: زيدا عرفته، فإن قدر العامل قبل قولك: زيدا، فليس مما نحن فيه؛ لأن المفعول حينئذ غير مقدم، فلا يكون فيه إلا تأكيد بإعادة الجملة، وإن قدر بعد المنصوب كان مما نحن فيه، فيكون للتخصيص ما لم ينصرف عنه على أن التأكيد حاصل على التقديرين. وقوله تعالى:
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ للتخصيص؛ لأن عامل ثمود على قراءة النصب مؤخر؛ لأن أما بمعنى: مهما يكن من شئ، فهو
بمعنى فعل، فلا يليها فعل؛ لأنه يجتمع فعلان - كذا قالوه - وفيه نظر سيأتى قريبا.
وكذلك تقديم ما ليس مفعولا صريحا كقولك: بزيد مررت، وهو المراد بقوله:
ونحوه، على ما قيل، والمراد به نحو المفعول من الحال والظرف ونحوهما؛ فيكون تقديم المعمول مطلقا مفيدا للاختصاص.
قوله: (والتخصيص لازم
…
إلخ) أى: التخصيص لازم للتقديم، ويدخل فى قوله سائر المعمولات مع عواملها، فالظاهر أن ذلك لا اختصاص له بالمفعول، وقد صرح
(1) سورة فصلت: 17.
ولهذا يقال فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (1) معناه: نخصّك بالعبادة والاستعانة، وفى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (2) معناه: إليه لا إلى غيره.
ويفيد فى الجميع - وراء التخصيص - اهتماما بالمقدّم؛ ولهذا يقدّر فى (باسم الله) مؤخّرا.
وأورد: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ (3):
وأجيب: بأنّ الأهمّ فيه القراءة، وبأنّه متعلّق ب (اقرأ) الثانى، ومعنى الأول: أوجد القراءة.
ــ
ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما بأن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص. وقال صاحب الفلك الدائر: إن هذا لم يقل به أحد وزاد ابن الأثير فقال: تقدم الظرف فى الكلام المثبت يفيد الاختصاص، نحو: إن إلىّ مصير هذا الأمر، وقوله تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (4)، وكذلك تقديم الحال على صاحبها مثل: جاء راكبا زيد.
(قلت): هذا والذى قبله ليس من تقديم المعمول على عامله، بل من تقديم بعض المعمولات على بعض، وسيأتى أنه لا يفيد الاختصاص.
وقوله: (لازم للتقديم غالبا) يعنى: أن الغالب أن التقديم يكون للتخصيص، وقد يخرج عن ذلك لغرض غيره كما تقدم فى تقديم المسند إليه، فإن قلت: قوله: غالبا، كيف يجتمع مع قوله: لازم؟ قلت: لا يعنى بقوله: لازم للتقديم أنه لا يفارقه، بل يعنى أنه لازم الإمكان ولكون التقديم مفيدا للاختصاص تقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ معناه نخصك بالعبادة والاستعانة، وفى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ معناه: إليه لا إلى غيره، وكذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً (5) أخرت الصلة فى الشهادة الأولى وقدمت فى الثانية؛ لأن الغرض فى الأول إثبات شهادتهم، والغرض فى الثانى إثبات اختصاصهم بشهادة النبى عليهم، ثم ذكر أنه يفيد
وراء التخصيص شيئا آخر، وهو الاهتمام بالمعمول المقدم؛ ولذلك كان الأولى عند الجمهور تقدير العامل فى (باسم الله) متأخرا فيقدم (باسم الله اقرأ) وأورد أنه يتعين أن يكون مقدما ليوافق قوله سبحانه وتعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأجيب بأن الأهم ثم ذكر القراءة لأنها أول سورة نزلت وبأن بِاسْمِ رَبِّكَ يتعلق باقرأ المذكور ثانيا، ومعنى اقرأ الأولى أوجد
(1) سورة الفاتحة: 5.
(2)
سورة آل عمران: 158.
(3)
سورة العلق: 1.
(4)
سورة الغاشية: 25.
(5)
سورة البقرة: 143.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
القراءة بتنزيل الفعل المتعدى منزلة اللازم، وأورد عليه أنه يلزم الفصل بين المؤكد والمؤكد؛ لأن اقرأ الثانى تأكيد لاقرأ الأول وفصل بينهما بِاسْمِ رَبِّكَ وقد يجاب بأمور، منها: أن هذا ليس بتأكيد، فإن اقرأ الأول نزل منزلة اللازم كما سبق، وإن جعل تأكيدا للأول لم يصح؛ لأن الثانى أخص ولا يكون الأخص تأكيدا للأعم بخلاف العكس، ومنها أن الممتنع الفصل فى التأكيد الاصطلاحى، وهذا تأكيد لغوى بيانى لا يمتنع معه الفصل. ومنها: التزام جواز الفصل فى مثله كقوله سبحانه وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ (1) فقد فصل بين يرضين وكلهن بالجار والمجرور، هذا وهو ليس معمولا للمؤكد، فما كان معمولا أولى، وادعى الزمخشرى أن الاختصاص فى وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (2) أبلغ منه فى إِيَّاكَ نَعْبُدُ والظاهر أن يريد لما فيه من تكرير المفعول المستدعى لتكرير الجملة، وفيما ذكره نظر، والذى يظهر العكس، فإن وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ لا دلالة فيه على التقديم حتى يفيد الاختصاص؛ لأن عامل إياى جاز أن يكون متأخرا عن إياى، وأن يكون متقدما عليه، فلا يكون المفعول مقدما، فلا اختصاص لا يقال: لا يصح ذلك فإنه لو تقدم العامل لما انفصل الضمير كما ذكره شيخنا أبو حيان فى تفسير هذه الآية رادا على من زعم ذلك؛ لأنا نقول: من أسباب الانفصال حذف العامل كما ذكره ابن مالك، وأما إِيَّاكَ نَعْبُدُ (3) فلا ضرورة فيه، ولا دليل على حذف عامل إياك ومفعول نعبد، بل إياك معمول نعبد المذكور، فيتحقق فيه التقديم المفيد للاختصاص.
واعلم أن ابن الحاجب قال فى شرح المفصل: إن الاختصاص الذى يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (4) ثم قال تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ (5) وهو استدلال
ضعيف؛ لأن مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أغنى عن إرادة الحصر فى الآية الأولى، ولو لم يكن فما الذى يمنع من ذكر المحصور فى محل بغير صيغة الحصر، كما تقول: عبدت الله، وتقول: ما عبدت إلا الله، كل سائغ.
قال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ (6) وقال تعالى:
(1) سورة الأحزاب: 51.
(2)
سورة البقرة: 40.
(3)
سورة الفاتحة: 5.
(4)
سورة الزمر: 2.
(5)
سورة الزمر: 66.
(6)
سورة الحج: 77.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (1) بل قوله تعالى: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ (2) من أقوى أدلة الاختصاص فإن قبلها لَئِنْ أَشْرَكْتَ (3) فلو لم تكن للاختصاص، وكان معناها أعبد الله لما حصل الإضراب الذى هو معنى (بل). وقد رد الشيخ أبو حيان على مدعى الاختصاص بنحو قوله سبحانه وتعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (4) وجوابه أنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة، ورد صاحب الفلك الدائر الاختصاص بقوله تعالى: كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ (5) وجوابه أنا لا ندعى اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشئ عن الحقيقة، وكذلك الجواب عن قوله تعالى: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ (6) إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ، وقوله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (7) وربما يستدل له بقوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ (8) فإن المقصود منه إنما يحصل بادعاء الاختصاص، ويشهد له: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (9)، وكذلك يدل على الاختصاص قوله تعالى: قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا (10)، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا (11).
(تنبيه): يشترط فى كون التقديم مفيدا للاختصاص على القول به أن لا يكون المعمول مقدما وضعا؛ فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة، وذلك كأسماء الاستفهام، وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره وأن لا يكون التقديم لمصلحة التركيب مثل: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ (12) على قراءة النصب، خلافا لما فى الإيضاح فى الثانى من إفادة الاختصاص.
(تنبيه): وقد اجتمع الاختصاص وعدمه فى آية واحدة، وهى قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ (13) فإن التقديم فى الأول قطعا ليس للاختصاص، وفى إياه قطعا للاختصاص، كما يظهر بالتأمل.
(1) سورة يوسف: 40.
(2)
سورة الزمر: 66.
(3)
سورة الزمر: 65.
(4)
سورة الزمر: 64.
(5)
سورة الأنعام: 84.
(6)
سورة إبراهيم: 10.
(7)
سورة التوبة: 9.
(8)
سورة التوبة: 66.
(9)
سورة يونس: 41.
(10)
سورة الملك: 29.
(11)
سورة يونس: 84.
(12)
سورة فصلت: 17.
(13)
سورة الأنعام: 40، 41.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
(تنبيه): سلك الوالد رضى الله عنه فى الاختصاص حيث وقع إما بتقديم الفاعل المعنوى، أو بتقديم المعمول مسلكا غير ما هو ظاهر كلام البيانيين.
وها أنا أذكر تصنيفا لطيفا له فى ذلك سماه الاقتناص، وهو:" قد اشتهر كلام الناس فى أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ومن الناس من ينكر ذلك، ويقول: إنما يفيد الاهتمام، وقد قال سيبويه فى كتابه: وهم يقدمون ما هم به أعنى، والبيانيون على إفادته الاختصاص، ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر فإذا قلت: زيدا ضربت، يقول: معناه ما ضربت إلا زيدا، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شئ والحصر شئ آخر، والفضلاء لم يذكروا فى ذلك لفظة الحصر، وإنما قالوا: الاختصاص. قال الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (1): وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (2)، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا (3) والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة، وقال فى قوله تعالى: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ معناه أفغير الله أعبد بأمركم وقال فى قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا: الهمزة للإنكار، أى: منكرا أن أبغى ربا غيره، وقال فى قوله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (4): إنه أمر بالإخبار بأنه يخص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، وقال فى قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ (5): قدم المفعول الذى هو غير دين الله على فعله، لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذى هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل، وقال فى قوله تعالى:
أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (6) إنما قدم المفعول على الفعل للعناية، وقدم المفعول له على المفعول به، لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل فى شركهم، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به يعنى أتريدون إفكا ثم فسر الأول بقوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ على أنها إفك فى أنفسها، ويجوز أن يكون حالا، فهذه الآيات كلها لم يذكر الزمخشرى لفظ الحصر فى شئ منها، ولا يصح إلا فى الآية الأولى فقط، والقدر المشترك فى الآيات الاهتمام، ويأتى الاختصاص، فى أكثرها، ومثل قوله تعالى:
(1) سورة الفاتحة: 5.
(2)
سورة الزمر: 64.
(3)
سورة الأنعام: 164.
(4)
سورة الزمر: 14.
(5)
سورة آل عمران: 83.
(6)
سورة الصافات: 86.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَإِفْكاً آلِهَةً قوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (1) وما أشبهها لا يأتى فيه إلا الاهتمام، لأن ذلك منكر من غير اختصاص، وقد يتكلف لمعنى الاختصاص فى ذلك كما فى بقية الآيات، وأما الحصر فلا، فإن قلت: فما الفرق بين الاختصاص والحصر؟
قلت: الاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين أحدهما عام مشترك بين شيئين أو أشياء، والثانى معنى منضم إليه يفصله عن غيره، كضرب زيد فإنه أخص من مطلق الضرب، فإذا قلت: ضربت زيدا أخبرت بضرب عام وقع منك على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصا لما انضم إليه منك ومن زيد، وهذه المعانى الثلاثة، أعنى: مطلق الضرب، وكونه واقعا منك، وكونه واقعا على زيد، قد يكون قصد
المتكلم لها ثلاثتها على السواء، وقد يترجح قصده لبعضها على بعض، ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه؛ فإن الابتداء بالشئ يدل على الاهتمام به وأنه هو الأرجح فى غرض المتكلم، فإذا قلت: زيدا ضربت، علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود، ولا شك أن كل مركب من خاص وعام له جهتان؛ فقد يقصد من جهة عمومه، وقد يقصد من جهه خصوصه، فقصده من جهه خصوصه هو الاختصاص وأنه هو الأعم عند المتكلم وهو الذى قصد إفادته للسامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفى، وأما الحصر فمعناه نفى غير المذكور وإثبات المذكور يعبر عنه بما وإلا أو بإنما، فإذا قلت: ما ضربت إلا زيدا، كنت نفيت الضرب عن غير زيد وأثبته لزيد، وهذا المعنى زائد على الاختصاص، وإنما جاء هذا فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (2) للعلم بأنه لا يعبد غير الله، ولا يستعان بغيره، ألا ترى أن بقية الآيات لم يطرد فيها ذلك فإن قوله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ (3) لو جعل غير دين الله يبغون فى معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، ولا شك أن مجرد بغيهم غير دين الله منكر، وكذلك بقية الآيات إذا تأملتها ألا ترى أن: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ (4) وقع الإنكار فيه على عبادة غير الله من غير حصر، وأن أبغى ربا غيره منكر
(1) سورة سبأ: 40.
(2)
سورة الفاتحة: 5.
(3)
سورة آل عمران: 83.
(4)
سورة الزمر: 64.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
من غير حصر، ولكن الخصوص وهو غير الله هو المنكر وحده ومع غيره وكذلك:
إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (1) وعبادتهم إياهم منكرة من غير حصر، وكذلك قوله: آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (2) المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر، فمن هذا كله يعلم أن الحصر فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (3) من خصوص المادة لا من موضوع اللفظ، بل أقول: إن المصلى قد يكون مقبلا على الله وحده، لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه، وغيره أحقر فى عينه من أن يشتغل به فى ذلك الوقت يبغى عبادته وإنما قصد الإخبار بعبادة الله وأول ما حضر بذهنه عظمة من هو واقف بين يديه، فقال:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ليطابق اللفظ المعنى، ويقدم ما يقدم حضوره فى القلب وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم بناء عليه ما أخبر به من عبادته فمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالإخبار بعبادته، وغيره من الأكوان لم
يخبر عنه بشئ، بل هو معرض عنها، وإذا تأملت مواقع ذلك فى الكتاب والسنة وأشعار العرب تجده كذلك ألا ترى قول الشاعر:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ
…
ونار توقد بالليل نارا
لو قدرت فيه الحصر بما وإلا هل يصح المعنى الذى أراده؟ وقد قال الزمخشرى فى تفسير قوله تعالى: وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4): وفى تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن: بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ * وهذا الذى قاله الزمخشرى فى غاية الحسن، وقد اعترض بعض الناس عليه فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها، وهذا الذى قاله هذا القائل بناه على فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك لما بيناه، ثم قال هذا القائل: وتقديم هم أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها حيث قالوا: لَنْ يَدْخُلَ ولَنْ تَمَسَّنَا (5) وهذا من هذا القائل استمرار على ما فى ذهنه من الحصر، أى: أن المسلمين لا يوقنون إلا
(1) سورة سبأ: 40.
(2)
سورة الصافات: 86.
(3)
سورة الفاتحة: 5.
(4)
سورة البقرة: 4.
(5)
سورة البقرة: 80.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها، وهذا فهم عجيب: ثم قال هذا القائل: ثم إن التعريض فى قوله: (يأهل الكتاب) وبما كانوا، وأن قولهم ظاهر معنى قول الزمخشرى قال هذا القائل: وأما فى قوله: وأن اليقين مشكل؛ لأنه ليس فيه تعريض بأن اليقين ما عليه من آمن، بل تصريح، قلت: مراد الزمخشرى أن التصريح بأن من آمن يوقنون، تعريض بأن أهل الكتاب لا يوقنون فكيف يرد عليه هذا؟! ثم قال هذا القائل: فالوجه أن يقال: وأن اليقين عطف على قوله: تعريض لا على معمولاته من يأهل الكتاب إلخ، وكأنه قال: وفى تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض، وأن اليقين، قلت: مراد الزمخشرى أنه تعريض بنفى اليقين عن أهل الكتاب، فكأنه قال:
دون غير من آمن، فلا يرد عليه ولا يحتاج إلى تقدير العطف على ما ذكره هذا القائل، وهو إما أن يقدر دون غيرهم،
أو لا فإن قدر فهو تعريض لا تصريح، وإن لم يقدر فلا يحتاج إلى بناء يوقنون على هم، فحمل كلام الزمخشرى على ما زعمه هذا القائل لا يصح بوجه من الوجوه، وهذا القائل فاضل، وإنما ألجأه إلى ذلك فهمه الحصر، وهو ممنوع، وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام:
أحدها: بما وإلا كقولك: ما قام إلا زيد، صريح فى نفى القيام عن غير زيد، ويقتضى إثبات القيام لزيد، قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، وهذا هو الصحيح، لكنه أقوى المفاهيم، لأن إلا موضوعة للاستثناء وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام، ليس هو عين القيام بل قد يستلزمه؛ فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك فقال: إنه بالمنطوق.
والثانى: الحصر بإنما وهو قريب من الأول فيما نحن فيه، وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر، فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت: إنما قام زيد، بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم.
القسم الثالث: الحصر الذى قد يفيده التقديم، وليس هو على تقدير تسليمه، مثل:
الحصرين الأولين، بل هو فى قوة جملتين إحداهما ما صدر به الحكم نفيا كان أو إثباتا، وهو المنطوق، والأخرى ما فهم من التقديم والحصر يقتضى نفى المنطوق فقط دون ما دل عليه من المفهوم، لأن المفهوم لا مفهوم له، فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه، وقد قال سبحانه وتعالى:
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً (1) أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية، فقال سبحانه وتعالى بعده: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ بيانا لما سكت عنه فى الأولى، فلو قال: بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (2) أفاد بمنطوقه إيقانهم بها، ومفهومه عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصودا بالذات: والمقصود بالذات، قوة إيقانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حصر مجازى، وهو دون قولنا:" يوقنون بالآخرة" لا بغيرها فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره: لا يوقنون إلا بالآخرة. إذا عرفت هذا فتقديم هم أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا التقدير: لا يوقنون إلا بالآخرة، كان المقصود المهم النفى، فيتسلط المفهوم عليه فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم هذا القائل، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة، ولا شك أن هذا ليس بمراد، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة ليتسلط المفهوم عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر، ولم يدل عليه بجملة واحدة، مثل: ما وإلا، ومثل: إنما، وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيدا بالآخر، حتى نقول: إن
المفهوم أفاد نفى الإيقان المحصور، بل أفاد نفى الإيقان مطلقا عن غيرهم، وهذا كله إنما احتجنا إليه على تقدير تسليم ما ادعاه هذا القائل من الحصر، وقد سبق إلى فهم كثير من الناس، ونحن قد منعنا ذلك أولا، وبينا أنه لا حصر فى ذلك، وإنما هو اختصاص، وفرقنا بين الاختصاص والحصر، وقول هذا القائل:
تقديم هم، من أين له أن هذا تقديم؟ فإنك إذا قلت: هو يفعل، احتمل أن يكون مبتدأ خبره يفعل، واحتمل أن يكون أصله: يفعل هو، ثم قدمت وأخرت. والزمخشرى لم يصرح بالتقديم، وإنما قال: بناء يوقنون على هم، ولكنا مشينا مع هذا الفاضل على كلامه، وكل ذلك أوجبه الوهم والتباس الاختصاص بالحصر، والله عز وجل أعلم.
(1) سورة النور: 3.
(2)
سورة البقرة: 4.