الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وفى كليهما نظر أما الأول فلما سيأتى، وأما الثانى فلا خلاف التعظيم مستفاد من البناء للمرة ومن نفس الكلمة، لأنها إما من قولهم: نفحت الريح إذا هبت أى هبة، أو من قولهم: نفح الطيب، إذا فاح أى فوحة، كما يقال: شمة، واستعماله بهذا المعنى فى الشر استعارة؛ إذ أصله أن يستعمل فى الخير يقال له: نفحة طيبة أى هبة من الخير، وذهب أيضا إلى أن قوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ (1) نكر العذاب فيه للتهويل، أو لخلافه والظاهر أنه لخلافه، وإليه مال الزمخشرى، فإنه ذكر أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يخل هذا الكلام من حسن الأدب مع الله؛ حيث لم يصرح فيه أن العذاب لا حق له لاصق به؛ لكنه قال: إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فذكر الخوف والمس، ونكر العذاب. اه كلامه وهو ضعيف، وأما قوله: فلما سيأتى فسنتكلم عليه فى موضعه، وأما قوله أن خلاف التعظيم مستفاد من المرة قد يمنع دلالة المرة على التحقير، فإنه لا ملازمة بين الوحدة والتقليل، بل بين صدقهما عموم وخصوص من وجه، وأما التقليل فيحتمل أن يقال: لا يستفاد من المرة بل المستفاد من المرة الإفراد، وهو غير التقليل، فالشئ العظيم الواقع مرة واحدة لا يقال له: قليل، وقوله: إنه مستفاد من نفس الكلمة ذكره الزمخشرى، وليس له فى كلمة النفح وفعلها ما يدل على ذلك؛ بل هو مستفاد من المس، ولا نسلم أن معنى فاح وهب وشم نفحة وهبة وشمة، بل الأعم من ذلك، وإنما الذى قد يقال: إنه يدل على الوحدة هو النفحة، وقوله: إنه استعارة، لأنه إنما يستعمل فى الخير محتاج لنقل ذلك عن أهل اللغة، وكون التنكير للتهويل أو خلافه ينبنى عليهما استعمال الرحمن، فعلى الأول تكون الحكمة فيه الإشارة إلى أن من هو كثير الرحمة لا يعذب إلا عن ذنب عظيم لا مجال للعفو فيه وعلى الثانى يكون ذكره للتلطف.
(تنبيهان):
الأول: ما تقدم فى تنكير الوحدة والتقليل والتعظيم والتحقير، ليس معناه أن مع كل نكرة صفة محذوفة، فإذا قلت: أكرم رجلا تريد واحدا، فقد أطلقت الرجل، وأردت تقييده بالوحدة، وليس فى اللفظ صفة واحد وقد حذفت اكتفاء عنها
(1) سورة مريم: 45.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بالموصوف، وإنما نبهت على ذلك، لأن من النحاة من جعل المسوغ للابتداء بالنكرة فى قولهم: شر أهر ذا ناب، أن تقديره شر عظيم، فالمسوغ الصفة المحذوفة وليس كذلك.
الثانى: قال ابن الزملكانى وغيره: إن النكرة فى الإثبات قد تكون للعموم لسياق امتنان أو غيره أخذا من قول البيانيين أن النكرة تأتى للتكثير، وظنا أن التكثير هو التعميم أو يلازمه، وليس كما ظنه فليس بين التكثير والتعميم اتحاد ولا ملازمة، إلا أن استعمال النكرة فى سياق الامتنان للتعميم محتمل، وفى كلام الشيخ تقى الدين القشيرى ما يقتضيه.
(قاعدة) تتعلق بالتعريف والتنكير كثيرة النفع فى كل علم إذا ذكر الاسم مرتين فإن كانا معرفتين، أو الثانى معرفة والأول نكرة، فالثانى هو الأول، وإن كانا نكرتين فالثانى غير الأول، وإن كان الأول معرفة والثانى نكرة فقولان، فالأول والثانى كالعسر واليسر فى قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (1) لذلك ورد:" لن يغلب عسر يسرين"(2)، والثالث: كقوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ (3).
والرابع كقوله:
عفونا عن بنى ذهل
…
وقلنا القوم إخوان
عسى الأيّام أن يرجعن قوما كالّذى كانوا (4)
(1) سورة الشرح: 5، 6.
(2)
" ضعيف" أخرجه الحاكم فى مستدركه، والبيهقى فى شعب الإيمان وعبد الرزاق فى مصنفه، وابن جرير فى تفسيره، عن الحسن مرسلا، وانظر ضعيف الجامع (ح 4787).
(3)
سورة المزمل: 15، 16.
(4)
البيتان من الهزج، وهما للفند الزمانى (شهل بن شيبان) فى أمالى القالى 1/ 32، وحماسة البحترى ص 56، والحيوان 6/ 415، وخزانة الأدب 3/ 431، وسمط اللآلى ص 578، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 32، وشرح شواهد المغنى 2/ 944، والمقاصد النحوية 3/ 122، وبلا نسبة فى مغنى اللبيب 2/ 656.
ويروى بلفظ:" صفحنا عن
…
".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقال ابن الحاجب فى أماليه فى قوله تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ (1) الفائدة فى إعادة لفظ الشهر الإعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح، والألفاظ التى تأتى مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار، ولو أضمر فالضمير إنما
يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته، فإذا لم يكن له وجب العدول عن المضمر إلى الظاهر، ألا ترى أنك لو أكرمت رجلا وكسوته كانت العبارة عنه أكرمت رجلا وكسوته، ولو أكرمت رجلا وكسوت غيره كانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا، فتبين أن هذا ليس من جعل الظاهر موضع المضمر، لأنه لو أتى بالمضمر لم يستقم، وشرط الطيبى فى هذه القاعدة أن لا يقصد التكرير وجعل من قصد التكرير قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (2) فإن فيه نكرتين والثانى هو الأول، وأجاب عنه بأنه باب التكرير لإناطة أمر زائد، ويدل عليه تكرير ذكر الرب فيما قبله من قوله سبحانه وتعالى: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (3) والذى استدعى هذا التكرير مقام تنزيهه عز وجل عن نسبة الولد إليه، وهذه القاعدة يكثر ذكرها فى كتب الحنفية قال فى الهداية: من قال: سدس مالى لفلان، ثم قال فى ذلك المجلس أو غيره: سدس مالى لفلان، فله سدس واحد، لأن السدس ذكر معرفا بالإضافة، والمعرفة متى أعيدت يراد بالثانى عين الأول، هذا المعهود فى اللغة، وقال فى النهاية: من كتبهم أيضا فيما لو قال: أنت طالق نصف تطليقة، وربع تطليقة المنكر إذا أعيد منكرا، فالثانى غير الأول، وإن قال: أنت طالق نصف تطليقة وثلثها أو سدسها لم تطلق إلا واحدة للإضافة، وفى شرح المنار لحافد الدين النكرة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية الأولى لدلالة العهد (قلت): وهذه القاعدة الظاهر أنها غير محرورة، والتحقيق أن يقال: إن كان الاسم عاما فى الموضعين فالثانى هو الأول، لأن من ضرورة العموم أن لا يكون الثانى غير الأول ضرورة استيفاء عموم الأول للأفراد، وسواء كانا معرفتين عامتين، أم نكرتين عامتين كوقوعهما فى حيز النفى، أما إذا كانا عامين وهما معرفة ونكرة فسيأتى وإن كان الثانى فقط عاما، فالأول داخل فيه
(1) سورة سبأ: 12.
(2)
سورة الزخرف: 84.
(3)
سورة الزخرف: 82. وقد حرفت الآية فى الأصل فقال:" سبحان رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ضرورة استغراق العام لذلك الفرد سواء كان معرفا أم منكرا، وسواء كان الأول معرفا بالألف واللام العهدية أم منكرا، ويلتحق بهذا الاسم فى دخول الأول فى الثانى إذا كانا عامين والأول نكرة كقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ (1) أى لا يملكون شيئا من الرزق، فابتغوا عند الله كل رزق وكذا عكسه وإن كانا خاصين بأن يكونا معرفتين بأداة عهدية فذلك بحسب القرينة الصارفة إلى المعهود، فإن صرفتها إليه انصرفت وإن
صرفت الأول منهما فالظاهر أن الثانى مثله، وإن كانا مشتملين على الألف واللام الجنسية، فالأول هو الثانى لأن الجنس لا يقبل التعدد، قال التنوخى فى قوله تعالى: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (2) إنما كان معنى العسر واحدا، لأن اللام طبيعية والطبيعية لا ثانى لها، يعنى أن الجنس كلى والكلى لا يوصف بوحدة ولا تعدد، وإن كانا نكرتين فالظاهر أن الثانى غير الأول، لأنه لو كان إياه، لكان إعادة النكرة وضعا للظاهر موضع المضمر، وهو خلاف الأصل ويحتمل خلافه، ولأجل الاحتمالين ورد فى حديث الاستسقاء (3) ثم جاء رجل من ذلك الباب، فأعاد ذكر الرجل منكرا، كما بدأ به منكرا مع تردده فى أنه الأول أو غيره كما ورد مصرحا به فى الرواية الأخرى؛ حيث قال: ثم جاء رجل، ولا أدرى الأول أو غيره، وإن كان معرفتين بأداة جنسية فالثانى هو الأول، لأن الجنس غير متعدد، وإن كان الثانى خاصا والأول عاما فهو داخل فى الأول ضرورة اشتمال العام على الخاص، كما يشتمل الأخص على الأعم هذا هو التحقيق فيها، ولو مشينا على إطلاق القاعدة لورد عليهم ما يعسر جوابه، فمن ذلك ما يرد على قولهم إذا كانا معرفتين فالثانى هو الأول، وهو قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ (4) فإنهما معرفتان، والثانى الثواب، والأول العمل والثانى غير الأول، لأنهما عهديتان لمعهودين أو جنسيتان وقوله تعالى: حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها (5) سأتكلم عليه فى
(1) سورة العنكبوت: 17.
(2)
سورة الشرح: 5.
(3)
الحديث أخرجه البخارى فى" الاستسقاء" باب: الاستسقاء فى المسجد الجامع (2/ 582، 581)، (ح 1013)، ومسلم، (ح 897).
(4)
سورة الرحمن: 60.
(5)
سورة الكهف: 77.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وضع الظاهر موضع المضمر، وقوله تعالى: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ (1) معرفتان والثانى عام، والأول خاص فالأول داخل فى الثانى، وقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (2) أى القاتلة بالمقتولة، وقوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ (3) الآية وقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (4) ثم قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فهما وإن اختلفا بكون الأول خاصا والثانى عاما متفقان بالجنس، وكذلك: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (5) ولذلك استدل بها على أن الأصل إلغاء الظن مطلقا، ومن ذلك من يرد على قولهم: إذا كان الثانى معرفة فالثانى هو الأول: وذلك قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ (6) فإن
الناس مطبقون على الاستدلال بالآية استحباب كل صلح، فالأول داخل فى الثانى وليس عينه، وكذلك: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (7)، وكذلك: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ (8) الفضل الأول العمل، والثانى الثواب، وكذلك: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ (9) وكذلك: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ (10)، وكذلك: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ (11) بقرينة أن المزيد غير المزيد عليه، وكذلك:" ولا يزال فى الصلاة ما انتظر الصلاة"(12)، ومن ذلك ما يرد عليهم فى النكرتين قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ (13) فإن الثانى هو الأول، إلا أن يقال: أحدهما محكى من كلام السائل، والثانى محكى من كلام النبى صلى الله عليه وسلم وإنما الكلام فى وقوعهما من متكلم واحد، وكذلك: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ (14)، ومن مجئ الثانى
(1) سورة يوسف: 53.
(2)
سورة المائدة: 45.
(3)
سورة البقرة: 178.
(4)
سورة البقرة: 185.
(5)
سورة النجم: 28.
(6)
سورة النساء: 128.
(7)
سورة يونس: 36.
(8)
سورة هود: 3.
(9)
سورة هود: 52.
(10)
سورة الفتح: 4.
(11)
سورة النحل: 88.
(12)
أخرجه بنحوه فى الصحيحين من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(13)
سورة البقرة: 217.
(14)
سورة الروم: 54.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
نكرة قوله صلى الله عليه وسلم:" التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(1) فالمراد التائب من كل ذنب كمن لا ذنب له،
ولا يستقيم أن يراد التائب من ذنب ما كمن لا ذنب له، إلا أن يراد بالذنب الثانى الخصوص فحاصله أنه لا بد من تساويهما عموما وخصوصا فى هذا المثال، وقوله تعالى: فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ (2) بعد قوله تعالى: قالَتْ إِحْداهُما (3) يحتمل أن تكون الأولى هى الثانية وأن لا تكون، وقد تقوم قرينة على أن الثانى غير الأول كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ (4)، وكذلك قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ (5)، وأما قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ (6)، فليس الجواب عنه ما قاله الطيبى بل إن إله بمعنى معبود، والاسم المشتق إنما يقصد به ما تضمنه من الصفة فأنت إذا قلت: زيد ضارب عمر، أو ضارب بكر، ألا يتخيل أن الثانى هو الأول، وإن أخبر بهما عن ذات واحدة، فإن المذكور بالحقيقة إنما هو الضربان لا الضاربان، ولا شك أن الضربين مختلفان، ومن أمثلة إعادة المعرفة نكرة وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ هُدىً (7) قال الزمخشرى:
المراد بالهدى جميع ما آتاه من الدين والمعجزات والشرائع وبهدى الإرشاد، وأنشد فى الأساس:
دع عنك سلمى قد أتى الدّهر دونها
…
وليس على دهر لشئ معوّل (8)
ومنه: (إذا الناس ناس والزمان زمان) ومما نحن فيه قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر"(9)، قيل: الثانى غير الأول، وإنما هو مصدر بمعنى الفاعل؛ أى الله هو الدهر المتصرف، وقال الراغب: معناه الله فاعل ما يضاف إلى الدهر، فإذا سببتم الذى تعتقدون أنه فاعل ذلك فقد سببتم الله تعالى، والحق أن المراد لا تسبوا الفاعل الحقيقى
(1)" ضعيف" وراجع الضعيفة (ح 615، 616).
(2)
سورة القصص: 25.
(3)
سورة القصص: 26.
(4)
سورة الروم: 55.
(5)
سورة النساء: 153.
(6)
سورة الزخرف: 84.
(7)
سورة غافر: 53.
(8)
البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى كتاب العين 2/ 248، 138، وأساس البلاغة (عول).
(9)
بهذا اللفظ أخرجه مسلم فى:" الألفاظ من الأدب وغيرها"، باب: النهى عن سب الدهر (ح 2246).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الذى تعتقدون أنه الدهر، فإن الله هو الفاعل الحقيقى، فحينئذ الدهر فى الموضعين واحد، فهو على القاعدة وهذا الذى قاله الراغب حسن، إلا أن الجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم حين بلغه سب المشركين له:" إنهم يسبون مذمما وأنا محمد"(1)، يحتاج إلى تأمل، ومما أعيدت فيه المعرفة معرفة والثانى غير الأول بالقرائن قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ (2) ومن ذلك قوله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ (3) فالملك الذى يؤتيه الله العبد لا يمكن أن يكون نفس ملكه فقد اختلفا وهما معرفان؛ لكن يصدق أنه إياه باعتبار أصل الاشتراك فى الاسم كما صرح بنحوه فى قوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ (4) فقد أعاد الضمير فى الفضل المستغرق باعتبار أصل الفضل، ومما ذكرناه يعلم أن قول بعض البيانيين أن تؤتى الملك من يشاء لا يمكن أن يكون من وضع الظاهر موضع المضمر لا تحقيق له، ونظيرها قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (5) إلا أن العزة الأولى نظير الملك الثانى، والعزة الثانية نظير الملك الأول وأما قوله تعالى فى سورة البقرة: بِالْمَعْرُوفِ (6) وقوله تعالى فيه أيضا: مِنْ مَعْرُوفٍ (7) فهى من إعادة النكرة معرفة، لأن من معروف وإن كان فى التلاوة بعد المعرف فهو فى الإنزال متقدم عليه، وهذه القاعدة تعرض لها الأصوليون فى نحو: صل ركعتين، هل يكون أمرين والثانى تأسيس أو لا وفيها خلاف مشهور، ومما ينبنى على هذه القاعدة، إذا قال: إن رأيت رجلا فأنت طالق، وإن رأيت رجلا فعبدى حر، الظاهر أنه لا يجب أن يكون الثانى غير الأول بل إذا رأت رجلا حصل العتق والطلاق، ولو تخللت رؤية رجل بين التعليقين، ثم وجدت رؤية ذلك الرجل بعد التعليق الثانى عتق العبد بلا توقف، ذكر الفرعين الوالد فى بعض تعاليقه، ومما يجب التنبه له، أن المراد بذكر الاسم مرتين كونه مذكورا فى كلام واحد، أو كلامين بينهما
(1) أخرجه البخارى فى" المناقب"، باب: ما جاء فى أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم (6/ 641)، (ح 3533). من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(2)
سورة العنكبوت: 47.
(3)
سورة آل عمران: 26.
(4)
سورة آل عمران: 73.
(5)
سورة النساء: 139.
(6)
سورة البقرة: 178، 241.
(7)
سورة البقرة: 240.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
تواصل بأن يكون أحدهما معطوفا على الآخر أو له به تعلق ظاهر، وتناسب واضح، فإن قلت: لما نزل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ (1) حزنت الصحابة رضى الله عنهم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، ففسره النبى صلى الله عليه وسلم بالشرك وقرأ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (2) فهذان نكرتان فى كلامين متفاصلين، وفسر أحدهما بالآخر فهو ينقض قولكم: إن النكرتين تكون إحداهما هى الأخرى، وينقض قولكم: إن من شرط كون إحداهما الأخرى فى المعرفتين أو فى النكرة مع المعرفة أن يكونا فى كلام متصل بعضه ببعض، قلت: النكرتان فى كلامين متباعدين لا يمنع أحد أن يراد بإحداهما الأخرى بدليل يقوم عليه، وهذا الحديث دليل على أن المراد بأحد الظلمين الآخر، وإنما المدعى هنا أن النكرتين المتواصلتين دون قرينة تصرف إحداهما لغير الأخرى، أما المتباعدتان فلا يحكم عليهما أن إحداهما هى الأخرى أو غيرها إلا بدليل، هذا عند الإطلاق، أما الظلم وَلَمْ يَلْبِسُوا فإنه عام دلت السنة على تخصيصه بالآية الأخرى، وينبغى أن تتنبه إلى أن هذا التفسير النبوى قطع مادة النظر، فليس لسائل أن يسأل عن دليل لفظى فى إحدى الآيتين خصص الأخرى، ولا أن يقيس على ذلك، فيقول فى نحو: لا تضرب رجلا مع أكرم الرجل أو رجلا يريد زيدا أن المراد بالأول زيد فقط، ولا أن يقول فى قوله تعالى: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ (3): إن المراد الشرك، وإن كان وزان وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، ولا أن يقول فى نحو: الإنسان حيوان أنه يقتضى أن كل حيوان إنسان، بل القرآن يفسر بعضه بعضا؛ حيث لا تعارض والسنة دلت على ذلك إما بوحى أو دليل لفظى، فليتأمل وكان خطر لى قديما أن فى الآية الكريمة ما يشير إلى أن المراد بالظلم فيها الكفر، وقوله تعالى: وَلَمْ يَلْبِسُوا لأن الذى يلبس الإيمان هو الشرك، فإنه كالممازج له فإن عبادة الله إيمان، وعبادة غيره ظلم، بخلاف الظلم بالمعاصى غير الكفر، فإنها لا تمتزج ولا تلتبس بالإيمان، وعرضت هذا المعنى على والدى بدرس الشامية بدمشق فارتضاه وفرح به،
(1) سورة الأنعام: 82.
(2)
أخرجه البخارى فى" التفسير"، باب: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، (8/ 372)، (ح 4776)، ومسلم فى" الإيمان"، (ح 124)، والآية فى سورة لقمان:13.
(3)
سورة غافر: 17.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومما يتعلق بما نحن فيه قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (1) فإن كانت إحداهما الثانية مفعولا
فالاسم الأول هو الثانى على قاعدة المعرفتين، وإن كانت فاعلا فهما واحد باعتبار الجنس كما سبق، وأكثر النحاة على أن الإعراب إذا لم يظهر فى واحد من الاسمين تعين أن يكون الأول فاعلا خلافا لما ذكره الزجاج فى قوله تعالى: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ (2) وقد رأيت لابن الحاجب فى أماليه كلاما فى ذلك غالبا حسن، وفى بعضه مشاحة وها أنا أذكره بلفظه فاعتبره، قال: قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى (3) فيه إشكالان، أحدهما أن قوله: أن تضل ذكر تعليلا لاستشهاد المرأتين موضع رجل، ولا يستقيم فى الظاهر أن يكون الضلال تعليلا للاستشهاد، وإنما العلة التذكير والإشكال الثانى قال: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، وقياس الكلام فى مثل ذلك أن يقال: فتذكرها الأخرى، لأنه قد تقدم الذكر فلم يحتج إلى إعادة الظاهر، والجواب عن الأول أن التعليل فى التحقيق هو التذكير، ومن شأن لغة العرب إذا ذكروا علة، وكان للعلة علة قدموا ذكر علة العلة، وجعلوا العلة معطوفة بها بالفاء لتحصل الدلالتان معا بعبارة واحدة، كقولك: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمها، فالإدعام هو العلة فى إعداد الخشبة، والميل هو سبب الإدعام، فذكر على نحو ما ذكرناه، فقيل: أن يميل الحائط فأدعمها، ولو قيل: إن الميل فى المثال والضلال فى الآية هو السبب، لم يكن ذلك ببعيد، لأن الضلال والمعلوم من إحداهما يكثر وقوعه، فصلح أن يكون علة فى استشهادهما مقام رجل، وإنما يجئ اللبس هاهنا إذا توهم أن وقوع الضلال هو السبب، فيؤدى إلى أن يكون مقصودا وقوعه باستشهادهما، وليس التعليل واجبا فيه أن يكون مقصودا وقوعه، بل العلة هى المقتضية لذلك المعلوم، ألا ترى إلى قولك: قعدت عن الحرب من أجل الخوف فالخوف هاهنا ليس مرادا وقوعه فى قصد المتكلم حتى يكون سببا للقعود، فكذلك هاهنا المقصود أن الضلال المعلوم هو السبب المقتضى فى المعنى استشهادهما فى موضع رجل، وذلك مستقيم على هذا التأويل، وكذلك يمكن أن يقال فى ميل الحائط: إنه أيضا هو السبب على الوجه الذى ذكرناه فى الآية، وهذا الوجه الثانى يصلح أن
(1) سورة البقرة: 282.
(2)
سورة الأنبياء: 15.
(3)
سورة البقرة: 282.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يكون الأول ليجئ الثانى بعده بعد تقديم التسليم، وأما الجواب عن الإشكال الثانى، فهو أنا نقول: أصل الكلام على الوجه الأول: أن تذكر إحداهما الأخرى عند ضلالها، فقدم على ما ذكرناه، فبقى أن تذكر إحداهما الأخرى على ما كان عليه. الثانى هو أن لا يستقيم فى المعنى إلا كذلك، ألا ترى أنه إذا قال: أن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى،
وجب أن يكون ضمير المفعول عائدا على الضالة متعينا لها كما إذا قلت: جاءنى رجلا وضربته، يتعين أن يكون الجائى هو المضروب وذلك مخل بالمعنى المقصود، لأنها قد تكون الضالة الآن فى الشهادة وهى الذاكرة فيها فى زمان آخر، فالمذكرة هى الضالة فإذا قيل: فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعين عود الضمير إلى الضالة، وإذا قيل: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى كان مبهما فى كل واحدة منهما، فلو ضلت إحداهما الآن وذكرتها الأخرى، فذكرت كان داخلا ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها فى وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى غير معين، ولو قيل:
فتذكرها الأخرى، لم يستقم أن يكون مندرجا تحته إلا التقدير الأول، فعلم أن العلة هى التذكير من إحداهما الأخرى كيفما قدر، وإن اختلف وهذا المعنى لا يفيده إلا ما ذكرناه، فوجب لذلك أن يقال: فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، وهذا الوجه الثانى هو الذى يصلح أن يكون جاريا على الوجهين المذكورين أو لا، وأنه فى التحقيق هو الذى وجب لأجله مجيئهما ظاهرين، وأما الوجه الذى قبله فلا يستقيم إلا على التقدير الأول، لأن التقدير الثانى جعل الضلال هو العلة، فلا يستقيم مع ذلك أن يقال: إن أصل الكلام (أن تذكر إحداهما الأخرى) عند ضلالها مع القول بأن الضلال هو العلة. فثبت مما ذكرناه من المعنى الصحيح وجوب مجئ الآية على ما هى عليه، وأنه لو غير إلى المضمر اختل المعنى المقصود، واختص ببعضه. اه. وفى بعضه نظر، والسؤال الذى ذكره أولا، وما أجاب به عنه من أن المعطوف عليه ذكر للتوطئة، ثم عطف عليه المقصود يأتيان فى قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ (1) وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً (2) فإن إيتاء الله الكتاب لم يقصد نفيه، وكونهم كانوا أعداء لم يقصد عده من النعمة، وإنما المعنى ما كان لبشر أن يقول للناس ذلك، وقد آتاه الله الكتاب، واذكروا نعمة الله عليكم إذ ألف بينكم بعد العداوة، ومن هذه المادة أيضا قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ
(1) سورة آل عمران: 79.
(2)
سورة آل عمران: 103.