الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السكاكىّ: هذا غير مختصّ بالمسند إليه، ولا بهذا القدر، بل كلّ من التكلّم والخطاب والغيبة مطلقا (1): ينقل إلى الآخر، ويسمّى هذا النقل التفاتا؛ كقوله (2) [من المتقارب]:
تطاول ليلك بالأثمد
…
ــ
فذاك الذى يرجى لإيضاح مشكل
…
ويقصد للتّحرير عند عيان
وكم لى فى الآيات حسن تدبّر
…
به الله ذو الفضل العظيم حبانى
بجاه رسول الله قد نلت كلّ ما
…
أتى وسيأتى دائما بأمان
فصلّى عليه الله ما ذرّ شارق
…
وسلّم ما دامت له الملوان
اه كلام الوالد، ومن خطه نقلته.
تفسير السكاكى للالتفات:
ص: (السكاكى: هذا غير مختص بالمسند إليه ولا بهذا القدر إلخ).
(ش): الإشارة بقوله: هذا إما إلى نقل الكلام عن ضمير المتكلم إلى اسم ظاهر كما سبق فى قول: الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا أو إلى كل واحد من التكلم والخطاب والغيبة مطلقا، أى سواء كان مسندا إليه أم غيره، وسواء كان من متكلم أم غيره، ويسمى هذا النقل التفاتا قال ابن الأثير فى كنز البلاغة: ويسمى شجاعة العرب اه. ومنهم من يجعل الالتفات نقل الكلام من حالة إلى أخرى مطلقا، وجعل منه ابن النفيس فى طريق الفصاحة التعبير عن المضارع بالماضى وعكسه، وجعل غيره منه الانتقال من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع لغيره، وهو أقرب شئ للالتفات المشهور لمشابهته له فى الانتقال من أحد أساليب ثلاثة لآخر، وفى انقسامه إلى ستة أقسام، وسنفرده بالذكر.
وفسر السكاكى الالتفات بنقل واحد من التكلم والخطاب والغيبة إلى الآخر، يعنى أنه التعبير بإحدى هذه الطرق عما عبر به أو كان من مقتضى الظاهر أنه يعبر عنه
(1) أى وسواء كان فى المسند إليه أو غيره وسواء كان كل منها واردة فى الكلام أو كان مقتضى الظاهر إيراده.
(2)
هو لامرئ القيس فى ديوانه 344، والإيضاح ص 195، والمصباح ص 35. والأثمد: موضع، بفتح الهمزة وضم الميم، وعجزه: ونام الخلى ولم ترقد.
والمشهور (1): أنّ الالتفات هو التعبير عن معنى بطريق من الثلاثة بعد التعبير عنه بآخر منها، وهذا أخصّ:
مثال الالتفات من التكلّم إلى الخطاب: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (2).
وإلى الغيبة: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (3).
ــ
بغيره، والمشهور أن الالتفات التعبير عن معنى بإحدى الطرق الثلاثة بعد التعبير عنه بطريق أخرى، وهو أخص من الأول لأن نحو قول الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا التفات عند السكاكى دون غيره.
وقول السكاكى: خلاف الظاهر أعم من أن تكون مخالفة الظاهر لفظية لا معنوية كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ (4) فإن سقناه على وفق الظاهر معنى لأنه جاء على الأصل، وعلى خلاف الظاهر لفظا لأن لفظ الجلالة للغيبة.
أو تكون مخالفته للظاهر معنوية لا لفظية مثل أمير المؤمنين يأمرك بكذا أو معنوية ولفظية مثل: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ.
والسكاكى لم يصرح بما أراده بقوله: خلاف الظاهر، هل يريد بحسب اللفظ أو المعنى؟ لكن دلنا على أن ذلك مراده جعله فى أبيات امرئ القيس التى ستأتى ثلاث التفاتات، لكن مخالفة الظاهر فى المعنى لا فى اللفظ شرط كونها التفاتا أن لا يوافق لفظا سابقا فإن وافقه فليس التفاتا، فحاصله أن الالتفات عند السكاكى إتيان الكلام على أسلوب مخالف لأسلوب سابق مطابقا أو لم يسبقه غيره والمعنى يقتضى خلافه، وقد قسموا الالتفات إلى ستة أقسام.
الأول: الالتفات من التكلم إلى الخطاب، ومثلوه بقوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ الأصل وإليه أرجع، فالتفت من التكلم إلى الخطاب، قلت: وفيه نظر لجواز أن يكون أراد بقوله ترجعون المخاطبين ولم يرد نفسه، ويؤيده ضمير الجمع، ولو أراد نفسه لقال يرجع، وعلى قول السكاكى يحتمل أن يكون المراد وما لكم والثانى فى ترجعون لأن وما لى مخالف للظاهر معنى وترجعون مخالف للظاهر لفظا، وقد قدمنا أن مخالفة الظاهر بأيهما كان التفاتا.
(1) هذا مذهب الجمهور.
(2)
سورة يس: 22.
(3)
سورة الكوثر: 1 - 2.
(4)
سورة فاطر: 9.
ومن الخطاب إلى التكلم [من الطويل]:
طحا بك قلب فى الحسان طروب
…
بعيد الشّباب عصر حان مشيب
تكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها
…
وعادت عواد بيننا وخطوب
ــ
واعلم أنه سيأتى على كون الآية المذكورة فيها التفات سؤال وجواب عند الكلام على أدوات الشرط.
الثانى: التفات من التكلم إلى الغيبة كقوله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (1) كذا قالوه. قلت: وفيه نظر سأذكره فى آخر الكلام.
الثالث: التفات من الخطاب إلى التكلم، ومنه قول علقمة بن عبدة الشاعر صاحب امرئ القيس المعروف بعلقمة الفحل، وليس عبدة بفتح الباء غيره:
طحا بك قلب فى الحسان طروب
…
بعيد الشّباب عصر حان مشيب
تكلّفنى ليلى وقد شطّ وليها (2)
…
وعادت عواد بيننا وخطوب (3)
فالتفت فى قوله: تكلفنى عن قوله: بك من الخطاب إلى التكلم، وهذا مما خالف فيه الظاهر لفظا لا معنى، وفى هذين عند السكاكى التفاتان، أحدهما: بك لمخالفته الظاهر معنى والثانى: تكلفنى لمخالفته لفظا.
قلت: وقد قيل: إن الرواية يكلفنى بالياء، والضمير للقلب، وليلى مفعول، فلا التفات فى تاء المتكلم، لأن الظاهر أن يكلفنى حينئذ صفة لقلب، ويكون من تمام الجملة الأولى، والالتفات لا يكون إلا فى جملتين مستقلتين كما سيأتى، ويجوز أن يكون بالتاء ويخاطب قلبه، ففى تكلفنى حينئذ التفاتان، أحدهما فى تاء الخطاب لانتقاله إليه عن أسلوب الغيبة السابق فى قوله: قلب، والثانى فى ياء المتكلم المنتقل إليها عن بك.
(1) سورة الكوثر: 1، 2.
(2)
انظر: ديوان علقمة الفحل ص 33، المصباح ص 32، المفتاح ص 107، الإيضاح ص 68، شرح عقود الجمان 1/ 118، معاهد التنصيص 1/ 173، طبقات فحول الشعراء 1/ 139، الشعر والشعراء 1/ 221، العمدة 1/ 57.
(3)
الولى: القرب والدنو، وأنشد أبو عبيد:
وشطّ ولى النّوى إنّ النّوى قذف
…
تيّاحة غربة بالدّار أحيانا
انظر: اللسان (ول ى).
وإلى الغيبة: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ (1).
ومن الغيبة إلى التكلم: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ (2) وإلى الخطاب: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ (3).
ــ
الرابع: من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ فقد التفت عن كنتم إلى جرين بهم، وفيه خروج عن الظاهر لفظا ومعنى.
الخامس: من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ فقد التفت عن الغيبة وهى مالك إلى الخطاب وهو إياك نعبد، وفى إياك خروج عن الظاهر لفظا ومعنى، وعلى قول السكاكى يكون فيه التفاتان، وسنتكلم عليه.
السادس: من الغيبة إلى التكلم كقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ وفى التمثيل به نظر لما سيأتى، وفى فسقناه خروج عن الظاهر لفظا لا معنى، وقد وقعت التفاتات فى قول امرئ القيس:
تطاول ليلك بالأثمد
…
ونام الخلىّ ولم ترقد
وبات وباتت له ليلة
…
كليلة ذى العائر الأرمد
وذلك من نبأ جاءنى
…
وخبّرته عن أبى الأسود (4)
فقيل: فيه ثلاث التفاتات فى كل بيت واحد، وهذا ظاهر على قول السكاكى فإن قلت: ينبغى أن يكون فيه على قوله أكثر من ذلك لأن فى ولم ترقد التفاتا؛ ففى الأول التفاتان. قلت: قد قدمنا أن مجيئه على خلاف الظاهر معنى إذا كان موافقا للظاهر لفظا لا يعتبر نعم يرد عليه أنه يمكن أن يقال: إن فى الثالث التفاتين، أحدهما فى ذلك، والثانى فى وخبرته، فيكون فى الأبيات الثلاثة أربع التفاتات، ولم أقل: والآخر فى جاءنى لما سيأتى، ولأجل توهم هذا السؤال ذهب بعض الناس إلى أن فى الأبيات سبع التفاتات: ليلك، وترقد، وبات، وله، وذلك، وجاءنى، وخبرته. وقيل: أربع، وهى:
ليلك، وذلك، وجاءنى، وخبرته.
(1) سورة يونس: 22.
(2)
سورة فاطر: 9.
(3)
سورة الفاتحة: 4 - 5.
(4)
الأبيات لامرئ القيس فى ديوانه ص 334، وفى المصباح ص 35.
والأثمد: موضع، بفتح الهمزة وضم الميم.
ووجهه (1): أنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب: كان أحسن تطرية (2) لنشاط السامع، وأكثر إيقاظا للإصغاء إليه؛ وقد تختصّ مواقعه بلطائف كما فى الفاتحة؛ فإن العبد إذا ذكر الحقيق بالحمد عن قلب حاضر، يجد من نفسه محرّكا للإقبال عليه، وكلما أجرى عليه صفة من تلك الصفات العظام، قوى ذلك المحرّك إلى أن يؤول الأمر إلى خاتمتها المفيدة: أنه مالك الأمر كله فى يوم الجزاء، فحينئذ: يوجب الإقبال عليه، والخطاب بتخصيصه بغاية الخضوع، والاستعانة فى المهمّات.
ــ
وأما على رأى المصنف فلا التفات فى البيت الأول، وفى الثانى التفاتة واحدة، فتعين أن يكون فى الثالث التفاتان، فقيل: هما فى قوله: جاءنى، أحدهما باعتبار انتقاله عن الغيبة، والثانى باعتبار انتقاله عن الخطاب، وفيه نظر لأن الالتفات إنما يعتبر بالنسبة إلى الأسلوب الذى يليه.
وقيل: أحدهما فى قوله: ذلك، والآخر فى قوله: جاءنى. قال المصنف: وهذا أقرب. قلت: يفسده أن أرباب هذا العلم شرطوا أن يكون الالتفات فى جملتين ولا يكون فى جملة واحدة، وإنما قلنا: إنه يلزم الالتفات فى جملة واحدة لأن جاءنى إن كان خبر ذلك فواضح وإلا فهو معمول لما قبله، وقد يرد هذا بأنه لا مفر من الالتفات فى جملة واحدة، لأن ذلك خطاب وجاءنى تكلم فلزم الالتفات فى جملة واحدة بكل حال، وسنتكلم على جواز الالتفات فى جملة واحدة.
فإن قلت: هل يجوز أن يكون الالتفات الثالث فى قوله: عن أبى الأسود فإنه يعنى أباه فالتفت عن التكلم إلى الغيبة؟
قلت: لا، لأن أبا الأسود علم، وأيضا فأبو الأسود لم يقع موقع ياء المتكلم فى قوله:
أبى بل موقع الاسم المضاف إليها وهو أب - والأحسن أن يجعل الالتفات الثانى فى ذلك والثالث فى وخبرته.
ص: (ووجهه أن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب إلخ).
(ش): أى ووجه الالتفات أن الكلام إذا نقل من أسلوب لآخر كان أحسن تطرية (3) - أى أشهى للقلب - لأن لذات النفوس فى التنقلات لما جبلت عليه من الضجر ويكون ذلك أكثر إصغاء، وقال فى المثل السائر فى قول الزمخشرى: إن
(1) وجه حسن الالتفات.
(2)
،
(3)
أى: تجديدا وإحداثا.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الالتفات يحصل به الفرار من الملل لا يصح، لأن الكلام الحسن لا يمل، ورده صاحب الفلك الدائر بأن المستلذ قد يمل لكثرته، وربما اختص مواقعه - أى مواضع وقوعه بلطائف - كما فى الفاتحة فإن العبد إذا ذكر الله تعالى وحمده ثم ذكر صفاته التى كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال، والخطاب يجد من نفسه حاملا لا يقدر على دفعه فيخاطب من هذه صفاته مستعينا على قضاء مهماته، وقد ذكر فى الالتفات فى إياك لطائف غير هذه.
(تنبيه): اعلم أنى لم أر من أوضح العبارة عن حقيقة الالتفات، وربما توهم قوم أنه لفظى، وربما أشكل التمييز بين حقيقته وحقيقة التجريد وحقيقة وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه، ثم فى كونه حقيقة أو مجازا، فالكلام فى أربعة أمور:
الأول: فى كشف الغطاء عن حقيقته: اعلم أن الالتفات نقل الكلام من أسلوب لغيره كما سبق، وهو نقل معنوى لا لفظى فقط، وشرطه أن يكون الضمير فى المنتقل إليه عائدا فى نفس الأمر إلى الملتفت عنه، يحترز عن مثل: أكرم زيدا وأحسن إليه، فضمير أنت الذى هو فاعل أكرم غير الضمير فى إليه وليس التفاتا، وإنما قلت:
فى نفس الأمر لأنه بطريق الادعاء يعود لغيره، فحينئذ إذا كان الضمير الأول فى محله باعتبار الواقع فى نفس الأمر فقلت: إنى أخاطبك فأجب المخاطب كنت أعدت الضمير فى المخاطب، وهو ضمير غيبة على نفسك، وليس ذلك وضعا لضمير الغائب موضع ضمير المتكلم، بل جردت منك مثل نفسك وأمرته بأن يجيبه فضمير الغيبة واقع موقعه، وكذلك: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (1) جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها. وفى قوله: طحا بك على رأى السكاكى جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، فالضمير واقع فى محله فهو التفات وتجريد، وعلى رأى غيره هو تجريد فقط. وفى قوله: تكلفنى التفات على القولين، ولا نقول: إنه أعاد الضمير على غير الأول فيلزم أن يكون الضميران - وهما الكاف والياء - لشيئين، بل أعاده على الأول مدعيا أنه غير الثانى، فإن الحقيقة المجردة هى باعتبار الحقيقة عين المجرد عنها وباعتبار التجريد غيرها، فذلك
(1) سورة يس: 22.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الذى جرده فى قوله: بك هو فى نفس الأمر نفسه فالتفت له بهذا الاعتبار، وبهذا علمنا أن الالتفات فى بك على رأى السكاكى أوضح من الالتفات الذى فى تكلفنى على قولهما، لأن فى بك خروجا عن ضمير المتكلم إلى شئ لا وجود له بالكلية وفى تكلفنى خروج عن الحقيقة المجردة إلى الحقيقة المجرد عنها، فهو عدول إلى الأصل وبك عدول إلى الفرع، والعدول إلى الفرع أبلغ من العدول إلى الأصل. وقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ (1) جرد فيه من المخاطبين مثلهم، وعاد الضمير عليهم فهو تجريد والتفات، فالضميران فى نفس الأمر لشئ واحد وبالادعاء لشيئين. وقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (2) فى لفظ الجلالة منه على رأى السكاكى التفات وتجريد وعلى رأى غيره تجريد فقط. وقوله تعالى:
فَسُقْناهُ التفات على رأيهما، لأنه عائد على الله تعالى حقيقة والكلام فيه كالكلام فى تكلفنى ليلى. وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ التفات على رأى السكاكى، وتجريد وَإِيَّاكَ التفات لا تجريد على بحث فيه، وسيأتى بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
الثانى: فى الفرق بين التجريد والالتفات، وقد علم مما سبق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه: فيوجد التجريد دون الالتفات كقولك: رأيت منه أسدا ومثل: تطاول ليلك على رأى الجمهور، والالتفات دون التجريد نحو: تكلفنى ليلى ونحو:
فَسُقْناهُ، والتفات وتجريد نحو: فَصَلِّ لِرَبِّكَ ولا واحدا منهما كغالب القرآن.
الثالث: فى وضع الظاهر موضع المضمر وعكسه بالنسبة إلى الالتفات فعند السكاكى قد يجتمع وضع الظاهر موضع المضمر مع الالتفات كقوله تعالى:
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (3) وأمير المؤمنين يأمرك بكذا وقد ينفرد الالتفات نحو: تطاول ليلك، وليس فيه وضع الظاهر موضع مضمر، بل وضع مضمر موضع مضمر، وقد ينفرد وضع الظاهر عن الالتفات كقوله تعالى: إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (4) فإن أصله أنه لتقدمه فى قوله: أَحَبُّ إِلى
(1) سورة يونس: 22.
(2)
سورة فاطر: 9.
(3)
سورة فاطر: 9.
(4)
سورة يوسف: 8.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أَبِينا (1) وأما وضع المضمر موضع الظاهر فينفرد عن الالتفات فى نحو: نعم رجلا زيد وربه رجلا لأن الضمير والظاهر كلاهما على أسلوب الغيبة، وينفرد الالتفات عنه كثيرا نحو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ (2) ونحو: (وبات وباتت له ليلة) ويجتمعان فى نحو: قول الخليفة: نعم الرجل أمير المؤمنين. وأما على رأى السكاكى فوضع الظاهر موضع المضمر والالتفات قد يجتمعان مثل: فَصَلِّ لِرَبِّكَ (3) وقد ينفرد الالتفات، وهو الغالب مثل: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وقد ينفرد وضع الظاهر مثل:
الْحَمْدُ لِلَّهِ (4) ونحو: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (5) ووضع المضمر موضع الظاهر لا يجتمع مع الالتفات، لأن الالتفات لا بد فيه من ضمير سابق يلتفت عنه ومع ذلك فلا موقع للظاهر، ولكن ينفرد وضع المضمر فى نعم رجلا زيد، وينفرد الالتفات فى غير ذلك.
الرابع: فى أن الالتفات حقيقة أو مجاز: إذا تأملت ما سبق علمت أنه حقيقة حيث كان معه تجريد وحيث لم يكن فسنتكلم إن شاء الله على كون التجريد حقيقة أو لا فى موضعه، وإذا تأملت ما حققناه وعرضت لك فيه وقفة فراجع ما ذكره السكاكى من أسباب الالتفات فى أبيات امرئ القيس يتضح لك ما قلناه، وقد صرح فى أثناء كلامه بلفظ التجريد، وصرح الخطيبى فى باب التجريد أن الالتفات تجريد، والتحقيق ما تقدم من التفصيل.
(تنبيه): قالوا: لا يكون الالتفات إلا فى جملتين، وقد صرح بذلك الزمخشرى فى أوائل تفسيره، والظاهر أنهم إنما يريدون بالجملتين الكلامين المستقلين حتى يمتنع الالتفات بين الشرط وجوابه مثلا وكلام البيانيين فى إيجاز الحذف وغيره يبين أنهم إنما يريدون بالجملة الكلام المستقل بنفسه، فأما قول الشاعر:
أأنت الهلالىّ الّذى كنت مرّة
…
سمعنا به والأرحبىّ المغلّب (6)
(1) سورة يوسف: 8.
(2)
سورة الفاتحة: 5.
(3)
سورة الكوثر: 2.
(4)
سورة الفاتحة: 2.
(5)
سورة فاطر: 9.
(6)
البيت من الطويل، وهو بلا نسبة فى الدرر 1/ 283، ورصف المبانى ص 26، والمغرب 1/ 63، وهمع الهوامع 1/ 87.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فليس منه لأن الضميرين أحدهما على اللفظ والآخر على المعنى، وشيخنا أبو حيان توهم أن ذلك من الالتفات لأنه
لم يحقق معنى الالتفات وظن أنه أمر لفظى، وكذلك ظن أن منه قراءة من قرأ (إياك يعبد) بالياء مضمومة فى يعبد، وليس منه، والظاهر أنها مبنية على جواز أنا قام بالقياس على جواز أنا رجل قام، ولا يصح هذا القياس لأن شرط ذلك أن يتقدم ما لفظه لفظ الغيبة من موصول أو موصوف، نعم قد ظفرت فى القرآن الكريم بمواضع قد يقال: إن الالتفات فيها وقع فى كلام واحد وإن لم يكن من جزأى الجملة، منها قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي (1)، ومنها قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (2)، ومنها قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ (3) بعد قوله: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ التقدير: إن وهبت امرأة نفسها للنبى أحللناها لك، وجملتا الشرط والجزاء كلام واحد، فإن قلت: قد وقع الالتفات أيضا بين الشرط والجواب فى قول كثير:
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة
…
لدينا ولا مقليّة إن تقلّت (4)
قال الجوهرى: خاطبها ثم غايب. قلت: لا نسلم أن هذا التفات، بل روعى فيه لفظ مقلية فجاء على الغيبة كقولك: أنت رجل قام وأنت مقلية تقلت، كما تقدم فى قوله:
أأنت الهلالىّ الّذى كنت مرّة
…
سمعنا به
…
وقول الجوهرى:" إنه خاطبها ثم غايب" يمكن حمله على ما قلناه، ولئن سلمنا أنه التفات فنقول: ليس قوله: لا ملومة جواب الشرط بل دليله على مذهب البصريين، ولا يمتنع اختلاف الجواب ودليله فى الخطاب والغيبة، ولو امتنع ذلك أو قلنا: إنه جواب
(1) سورة العنكبوت: 23.
(2)
سورة القصص: 59.
(3)
سورة الأحزاب: 50.
(4)
البيت من الطويل، وهو لكثير عزة فى ديوانه ص 101، ولسان العرب 1/ 96 (سوأ)، 13/ 115 (حسن)، 15/ 198 (قلا)، والتنبيه والإيضاح 1/ 21، وتهذيب اللغة 4/ 318، والأغانى 9/ 38، وأمالى القالى 2/ 109، وتزيين الأسواق 1/ 124، وتاج العروس 1/ 274 (سوأ)، (قلى).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
على مذهب الكوفيين فالجواب أن الالتفات وقع بقوله: لا ملومة، والتقدير لا هى ملومة، ومنها قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ (1) فيقول: ومنها قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ (2) بل فيه التفاتان أحدهما بين أرسلنا والجلالة والثانى بين الكاف فى أرسلناك ورسوله، وكل منهما فى
كلام واحد، ومنها قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ (3) ومنها: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ (4) جوز الزمخشرى فيه أن يكون ضمير جزاؤكم يعود على التابعين، قال: على طريق الالتفات، وهو ينافى ما تقدم عنه وعن غيره، ومنها قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ (5) على قراءة الياء، قال الزمخشرى: على طريقة الالتفات، وهو أيضا ينافى ما تقدم، ثم كان الزمخشرى مستغنيا عن ادعاء الالتفات بأن يعيد الضمير فى ترجعون إلى نفس الناس فلا يكون التفاتا، ومنها ما قاله التنوخى فى الأقصى القريب: إن الواو فى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً (6) واو الحال يلزمه وقوع الالتفات فى كلام واحد، ومنها: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (7) لأن فطرنى وترجعون كلام واحد، فإن كان القائل: إن الالتفات لا يكون فى جملة واحدة، يعنى به جملة طرفاها مفردان، ويجوز وقوعه بين جملتين لهما محل واحد معمولتين لشئ واحد أو بين جملة ومتعلق بها لم ينتقض كلامه بشئ مما سبق.
(تنبيه): قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ (8) وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ (9) اتفقوا على أنه التفات واحد، وفيه نظر، لأن الزمخشرى ومن تبعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا يلزمهم أنه إن كان التقدير قولوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ ففيه التفاتان، أعنى فى الكلام المأمور بقوله أحدهما فى لفظ الجلالة فإن الله تعالى حاضر فأصله الحمد لك، والثانى إياك لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق، وإن لم يقدر قولوا: كان فى الحمد لله التفات عن التكلم إلى الغيبة، فإن الله سبحانه حمد نفسه، ولا يكون فى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ
(1) سورة الفرقان: 17.
(2)
سورة الفتح: 8، 9.
(3)
سورة آل عمران: 151.
(4)
سورة الإسراء: 63.
(5)
سورة البقرة: 281.
(6)
سورة المائدة: 12.
(7)
سورة يس: 22.
(8)
سورة الفاتحة: 2.
(9)
سورة الفاتحة: 5.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
التفات لأن قولوا مقدرة معها قطعا، وأحد الأمرين لازم للزمخشرى والسكاكى، إما أن يكون فى الآية التفاتان أو لا يكون فيها التفات بالكلية، هذا إن فرعنا على رأى السكاكى وهو مقتضى كلام الزمخشرى لأنه جعل فى أبيات امرئ القيس ثلاثا وإن فرعنا على رأى الجمهور ولم نقدر قولوا: الحمد لله فلا التفات لأنا نقدر قولوا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإن قدرنا قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد فى إياك وبطل قول الزمخشرى: إن فى أبيات امرئ القيس ثلاث التفاتات.
(تنبيه): ما تقدم يقتضى أن أسلوب الغيبة لا فرق فيه بين أن يكون فيه ضمير غائب أو لا، بدليل تمثيلهم كما سبق بقوله تعالى: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (1) فقد جعلوا لفظ الجلالة ملتفتا عنه، وهذا كثير فى كلامهم، وفيه نظر ينبغى أن يفصل بين أن يكون الاسم الظاهر مشتملا على ضمير غائب أو لا فإن كان مشتملا على ضمير مستتر أو كان فى الكلام ضمير غائب فيكون ذلك أسلوب غيبة والنقل عنه أو إليه التفاتا، وإن كان فى الكلام اسم ظاهر لا ضمير فيه فأين أسلوب الغيبة ونسبة الاسم الجامد إلى المتكلم والمخاطب والغائب على السواء؟! وإنما يبتدر الذهن من قول الشخص عن نفسه أو مخاطبه: فعل زيد إلى أنه غير المتكلم والمخاطب لغلبة الاستعمال، ولأن العدول عن الضمير الصريح فى تكلم أو خطاب إلى الاسم الجامد قرينة إرادة الغيبة فإن الأعلام وضعها إنما كان للتمييز والذى يحتاج للتمييز غالبا هو الغائب، فإن ضميره لا يستقل لاحتياجه إلى مفسر، وأما عود ضمير الغيبة على العلم فلاستقباح أن يقول الشخص عن نفسه: زيد فعلت لما فيه من التنافر، ولذلك لم تمتنع رعاية المعنى فى جملة أخرى فيقول الشخص عن نفسه: زيد قام وقعدت رعاية للمعنى لا للالتفات، فليس تعبير المتكلم عن نفسه أو مخاطبه بالعلم إلا وضع الظاهر موضع المضمر، غير أن هذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.
(تنبيه): ذكر التنوخى فى الأقصى القريب وكذلك ابن الأثير فى كنز البلاغة وابن النفيس فى طريق الفصاحة نوعا غريبا من الالتفات، وهو بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أو تكلمه فيكون التفاتا عنه كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ (2)
(1) سورة فاطر: 9.
(2)
سورة الفاتحة: 7.
ومن خلاف المقتضى: المخاطب بغير ما يترقّب بحمل كلامه على خلاف مراده، تنبيها على أنه هو الأولى بالقصد؛ كقول القبعثرى للحجّاج - وقد قال له متوعّدا: لأحملنّك على الأدهم! -: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب!
خ خ (1) أى: من كان مثل الأمير فى السلطان وبسطة اليد، فجدير بأن يصفد لا أن يصفد (2).
ــ
بعد أَنْعَمْتَ فإن المعنى غير الذى غضب عليهم، وفيه نظر، ونحن إذا كنا توقفنا فى أن الانتقال إلى الاسم الجامد التفات فهذا أولى لأن الفاعل فى المغضوب مثلا لم يذكر بالكلية فكيف يقال: انتقلنا إليه على سبيل الالتفات؟! وإن صح ذلك فعلى رأى السكاكى يلزمه أن تكون جميع الأفعال المبنية للمفعول فيها التفات.
(تنبيه): توهم بعضهم أن فى نحو قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا (3) التفاتا، وليس كذلك، لأنه إذا أراد التفات اركعوا عن آمنوا لم يصح، لأن الصلة يأتى ضميرها غائبا، وإن كان المراد المخاطب لم يصح لأن لها لفظا ومعنى كما تقول: أنت الذى قام وأنت الذى قمت، وإن أراد التفات اركعوا عن الذين فإن الذين أسلوب غيبة والمنادى أسلوب غيبة لم يصح، لأن المنادى مخاطب فى المعنى فإن الإقبال عليه بالنداء كذكر ضميره، ولهذا يجوز أن تقول: يا تميم كلكم، وهذا قريب مما توهمه شيخنا أبو حيان فى قوله:
أأنت الهلالىّ الّذى كنت مرّة
…
سمعنا به
…
(تنبيه): مما هو قريب من الالتفات وليس منه إذ ليس فيه انتقال من أحد الأساليب الثلاثة لغيره الانتقال من أحد أساليب ثلاثة، وهى التثنية والجمع والإفراد، إلى الآخر، وأقسامه كالالتفات ستة من أسلوب لأسلوب، وسيأتى الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
ص: (ومن خلاف المقتضى تلقى المخاطب إلخ).
(ش): هذا هو الذى سماه السكاكى الأسلوب الحكيم، وسماه الشيخ عبد القاهر مغالطة، وهو من خلاف المقتضى بالفتح، أى مقتضى الظاهر، وهو قسمان:
(1) فحمل الأدهم فى كلام الحجاج على الفرس الأدهم - وهو الذى غلب سواده حتى ذهب البياض الذى فيه - وضم إليه الأشهب أى الذى غلب بياضه حتى ذهب سواده، ومراد الحجاج إنما هو القيد، فنبه القبعثرى على أن الحمل على الفرس الأدهم هو الأولى بأن يقصده الأمير.
(2)
يصفد كيكرم: بمعنى يعطى، ويصفد كيضرب بمعنى يقيد لكنه فى ط الحلبى: فجدير بأن يصعد لا أن يصفد فليراجع!.
(3)
سورة الحج: 77.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأول: تلقى المخاطب - بالكسر - بغير ما يترقب، وذلك يكون بحمل كلامه على خلاف مراده تنبيها على أنه الأولى بالقصد إليه، وإنما قلنا: بكسر الطاء ليعود الضمير فى كلامه إليه لأنه لا يصدق عليه قبل تلقيه لما يتوقع أنه مخاطب - بالفتح - حقيقة كقول القبعثرى للحجاج - وقد قال له الحجاج متوعدا له بالقتل:
لأحملنك على الأدهم - مثل الأمير من حمل على الأدهم والأشهب! فأراد الحجاج أن يقيده فتلقاه القبعثرى بغير ما يترقبه من فهمه التوعد بألطف وجه مشيرا إلى أن من كان مثله من السلطنة إنما يناسبه أن يجود بأن يحمل على الأدهم والأشهب من الخيل ويكون جديرا بأن يصفد بضم الياء أى يعطى لا أن يصفد بفتحها أى يشد ويوثق، وكذا قوله حين قال له فى الثانية: إنه حديد، قال: لأن يكون حديدا خير من أن يكون بليدا. وهذا القسم قريب أو هو من تجاهل العارف بزيادة إشارة إلى سفه رأى المخاطب، وهو قريب من القول بالموجب، وسيأتيان فى البديع، والقيد يسمى أدهم، سمى بذلك لسواده قال:
أوعدنى بالسّجن والأداهم (1)
وقال جرير:
لقطع المساحى أو لجدل الأداهم (2)
…
هو القين وابن القين لا قين مثله
قال ابن سيده: كسروه تكسير الأسماء وإن كان فى الأصل صفة لأنه غلب عليه الاسم، ومن هذا قوله:
(1) الرجز للعديل بن الفرخ فى خزانة الأدب 5/ 310، 189، 188، والدرر 6/ 62، والمقاصد النحوية 4/ 190، وتاج العروس (دهم)، وبلا نسبة فى ديوان الأدب 3/ 266، وإصلاح المنطق ص 294، 226، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقى ص 21، وشرح شذور الذهب ص 572، وشرح ابن عقيل ص 510، وشرح المفضل 3/ 70، وتاج العروس 9/ 307 (وعد)، ومقاييس اللغة 6/ 125، ولسان العرب 3/ 463 (وعد)، 12/ 210 (دهم)، ومجالس ثعلب ص 274، وهمع الهوامع 2/ 127، وتهذيب اللغة 3/ 134، ومجمل اللغة 4/ 539، والمخصص 12/ 221.
(2)
البيت من الطويل، وهو لجرير فى ديوانه ص 198، ولسان العرب 2/ 546 (قطع)، 12/ 210 (دهم)، وبلا نسبة فى المقتضب 2/ 229.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أتت تشتكى عندى مزاولة القرى
…
وقد رأت الضّيفان ينحون منزلى
فقلت كأنّى ما سمعت كلامها
…
هم الضّيف جدّى فى قراهم وعجّلى (1)
كذا جعله المصنف منه، وفيه نظر.
(تنبيه): صفد بمعنى أوثق وأصفد بمعنى أعطى خلاف الغالب، فإن الغالب استعمال الرباعى والخماسى فى الشر والثلاثى فى الخير إما جزما أو على راجح ومرجوح، مثل: وعدنى الخير وأوعدنى الشر، وشفى وأشفى - كذا على قول - وقوى البناء إذا اشتد وأقوى إذا انهدم، وخفرت الرجل أجرته وأخفرته تركته، وكسب واكتسب، قال الله سبحانه وتعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (2) وحمل واحتمل، قال:
تحت العجاج فما شققت غبارى
…
أعلمت يوم عكاظ حين لقيتنى
فحملت برّة واحتملت فجار (3)
…
أنّا اقتسمنا خطّتينا بيننا
وأمطر فى الشر وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً (4) ومطر فى الخير، قال ابن سيده:
الثلاثى للأعم، وجاء على العكس ترب إذا افتقر وأترب إذا استغنى - على قول - وحبسته عن حاجته واحتبست الفرس فى سبيل الله، وقسط إذا جار وأقسط إذا عدل.
(1) البيتان لحاتم الطائى فى التبيان 2/ 357، والشاهد فى أنه أجابها بغير ما تتطلب من الشكوى، وقوله:
ينحون، بمعنى: يقصدون، قراهم: إضافتهم.
(2)
سورة البقرة: 286.
(3)
البيتان من الكامل، وهما للنابغة الذبيانى فى ديوانه ص 54 - 55، والبيت الأول فى أساس البلاغة (خطط)، وفيه" أرأيت" مكان" أعلمت"، و" خططت" مكان" شققت"، والبيت الثانى له فى إصلاح المنطق ص 336، وخزانة الأدب 6/ 333، 330، 327، والدرر 1/ 97، وشرح أبيات سيبويه 2/ 216، وشرح التصريح 1/ 125، وشرح المفصل 4/ 53، والكتاب 3/ 274، ولسان العرب 4/ 52 (برر)، 5/ 48 (فجر)، 11/ 174 (حمل)، والمقاصد النحوية 1/ 405، وبلا نسبة فى الأشباه والنظائر 1/ 349، وجمهرة اللغة ص 463، وخزانة الأدب 6/ 287، والخصائص 2/ 198، 3/ 265، 261، وشرح الأشمونى 1/ 62، وشرح عمدة الحافظ ص 141، وشرح المفصل 1/ 38، ولسان العرب 13/ 37 (أنن)، ومجالس ثعلب 2/ 464، وهمع الهوامع 1/ 29، وتاج العروس (أنن).
(4)
سورة النمل: 58.
أو السائل بغير ما يتطلّب؛ بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيها على أنه الأولى بحاله، أو المهمّ له؛ كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ (1)، وكقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (2).
ــ
ص: (أو السائل إلخ).
(ش): القسم الثانى من هذا الباب تلقى السائل بغير ما يتطلب، وذلك بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله أو المهم، وعندى أن هذا من القسم الأول إلا أن فيه سؤالا فهو أخص من هذا الوجه وأعم باعتبار أنه ليس فيه حمل الكلام على غير ظاهره، فهو بهذا الاعتبار أجدر بأن يمثل له لا الذى قبله بقوله: أتت تشتكى - البيتين - وحاصله يرجع إلى العدول عن الجواب إلى غيره كقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ لما قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يتزايد حتى يستوى ثم ينقص حتى يعود كما بدا! وكقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ الآية. والسبب فى هذا تنبيه السائل على أنه كان الأحرى به أو الأهم
أن يسأل عما وقع الجواب عنه، وقد ورد عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه جاء عمرو بن الجموح - وهو شيخ كبير له مال عظيم - فقال: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت (3) فعلى هذا ليست هذه الآية مما نحن فيه، لأن السائل لم يتلق بغير ما يتطلب بل أجيب عن بعض ما سأل عنه، ومن ذلك أجوبة موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (4) إلى آخرها، وآية الأهلة مثال لما كان السؤال فيه وقع عما لا حاجة لهم إليه مع ترك ما هم محتاجون له إشارة إلى أنه كان من حقهم أن يسألوا عن مواقيت الحج لا عن كبر الهلال وصغره إذ لا فائدة تحته، وآية الإنفاق مثال لما سألوا عنه وكان مهما إلا أن غيره أهم منه، كذا قالوه وفيه نظر.
(1) سورة البقرة: 179.
(2)
سورة البقرة: 215.
(3)
أخرج ابن المنذر عن ابن حبان قال:" إن عمرو بن الجموح سأل النبى صلى الله عليه وسلم: ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ
…
* الآية فهذا موضع نفقة أموالكم". ورد بهذا اللفظ كما فى" الدر المنثور"، (1/ 437).
(4)
سورة الشعراء: 23، 24.
ومنه: التعبير عن المستقبل بلفظ الماضى؛ تنبيها على تحقّق وقوعه؛ نحو: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ (1)، ومثله: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (2) ونحوه: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ (3).
ــ
ص: (ومنه التعبير عن المستقبل إلخ).
(ش): من خلاف المقتضى التعبير عن المستقبل بلفظ الفعل الماضى كقوله تعالى:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ (4) الآية. وفى نسخ التلخيص فصعق، وهو من طغيان القلم. وفى آية الزمر: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ وكذلك: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ (5) وقوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ (6) ودخل عبد الرحمن بن حسان عليه وقد لسعه زنبور وهو طفل فقال وهو يبكى: لسعنى طوير كأنه ملتف فى بردى حبرة؛ فضمه إلى صدره وقال: يا بنى قد قلت الشعر!
واعلم أن ما ورد من ذلك على قسمين: تارة يجعل المتوقع فيه كالواقع فيؤتى بالأمر المستقبل بصيغة الفعل الماضى مرادا به المضى تنزيلا للمتوقع منزلة ما وقع فلا يكون تعبيرا عن المستقبل بلفظ الماضى بل يكون فيه جعل المستقبل ماضيا، ومنه قوله تعالى:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ (7)، وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ (8) ونحوه، فإما أن يريد بأتى أتت مقدماته فيكون التجوز حصل فى الفعل باعتبار الحدث لا باعتبار الزمان، وإما أن يريد بالادعاء أن الإتيان المستقبل وقع فى الماضى، وهو أبلغ من الأول وتارة يعبر عن المستقبل بالماضى مرادا به المستقبل فهو مجاز لفظى وحصل التجوز فى هيئة الفعل من غير أن تكون أردت وقوعه فى الماضى، وذلك احتمال مرجوح فى نحو:
ونادى، وإن كان مشهورا فإن المعنى على الأول أمكن وأنصع، ويتعين للقسم الثانى نحو: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ (9) لا يمكن أن يراد به المضى لمنافاة ينفخ الذى هو مستقبل فى الواقع فى الإرادة، ويحتمل أن يراد أنهم لمبادرتهم النفخ بالصعق كأن
(1) سورة الزمر: 68.
(2)
سورة الذاريات: 6.
(3)
سورة هود: 103.
(4)
سورة النمل: 87.
(5)
سورة الكهف: 47.
(6)
سورة الأعراف: 48.
(7)
سورة النحل: 1.
(8)
سورة الأعراف: 44.
(9)
سورة النمل: 87.
ومنه: القلب (1)؛ نحو: عرضت الناقة على الحوض.
ــ
صعقهم ماض عن زمن النفخ على سبيل المبالغة، ونظير الآية الكريمة قوله تعالى:
وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ (2) وفى مثل هذا النوع يكون فائدة التعبير بالماضى الإشارة إلى استحضار التحقق وأنه من شأنه لتحققه أن تعبر عنه بالماضى وإن لم ترد معناه، والقسم الأول مجاز، وهذا القسم ليس فيه مجاز إلا من جهة اللفظ فقط.
قوله: (ومثله) أى ومثل التعبير عن المستقبل بغير لفظه اسم الفاعل واسم المفعول باعتبار المستقبل كقوله تعالى: وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (3) وقوله تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (4) فإن اسم الفاعل ليس حقيقة
للاستقبال فهو من خلاف المقتضى (قلت): وهذا ليس مثل ما سبق فإن فيه التعبير عن المستقبل بما يدل على الحال لا بما هو للمضى، فيحمل كلام المصنف على أنه مثله فى التعبير عن المستقبل بغيره لا بالمضى، فإن اسم الفاعل حقيقة فى الحال اتفاقا مجاز فى المضى على الصحيح، والقسمان السابقان فى الفعل يأتيان فى اسم الفاعل، قد يقصد به الاستقبال وقد يقصد به وقوع الفعل فى الحال أو فى الماضى.
ص: (ومنه القلب (5) نحو: عرضت الناقة على الحوض إلخ).
(ش): اعلم أنه لا بد من تقديم مقدمتين: إحداهما أن القلب تارة نعنى به قلبا لفظيا فقط وتارة معنويا، مثال الأول: قطع الثوب المسمار؛ نعنى به أن الثوب مفعول وترفعه والمسمار فاعل وتنصبه وكل منهما باق على ما هو له من فاعلية ومفعولية، ومثال الثانى: قطع الثوب المسمار، تريد أن الثوب هو لمبادرته بالتقطع كأنه هو الذى قطع المسمار فهذا قلب معنوى، لأنك تخيلت الفعل واقعا من الثوب على المسمار وأسندت له على سبيل المجاز، وكذلك إذا قلت: الأسد كزيد تارة تقصد أن زيدا مشبه والأسد مشبه به، وإنما أدخلت كاف التشبيه على المشبه قلبا لفظيا إن صح هذا التركيب لهذا المعنى، وتارة تريد أن تجعل الأسد مشبها فى المعنى فيكون قلبا معنويا.
(1) هو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه.
(2)
سورة الشورى: 44.
(3)
سورة الذاريات: 6.
(4)
سورة هود: 103.
(5)
هو أن يجعل أحد أجزاء الكلام مكان الآخر والآخر مكانه.
وقبله السكاكىّ مطلقا.
وردّه غيره مطلقا.
والحق: أنه إن تضمّن اعتبارا لطيفا، قبل؛ كقوله [من الرجز]:
ومهمه مغبرّة أرجاؤه
…
كأنّ لون أرضه سماؤه
ــ
المقدمة الثانية أن القلب تارة يكون بين الفاعل والمفعول مثل:" قطع الثوب المسمار"، وتارة بين المفعولين مثل:" جعلت الخزف طينا"، وتارة يكون بين المبتدأ والخبر مثل:" الأسد كزيد"، وتارة بين مفعول صريح وغيره مثل:" عرضت الناقة على الحوض" و" أدخلت القلنسوة فى رأسى"، وتارة بين الشرط وجوابه كما سيأتى فى قوله
تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ (1) وغير ذلك. إذا تقرر هذا فنقول: حكى النحاة فيه أقوالا، أحدها أن ذلك يجوز فى الكلام والشعر اتساعا لفهم المعنى كقوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ (2) المعنى لتنوء العصبة بها، وكقوله تعالى:
وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ (3) وكقولهم: عرضت الناقة على الحوض وأدخلت القلنسوة فى رأسى، وقول الشاعر:
كانت فريضة ما تقول كما
…
كان الزّناء فريضة الرّجم (4)
وإليه ذهب أبو عبيدة، وأجازه أبو على فى قوله تعالى: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ (5) أى فعميت عليها؛ الثانى أنه لا يجوز لمجرد الضرورة؛ الثالث أنه لا يجوز إلا للضرورة، وتضمن الكلام معنى يصح معه القلب؛ الرابع أنه لا يجوز فى غير القرآن، ولا يجوز أن يحمل القرآن عليه. هذا ما ذكره النحاة، وأما البيانيون فقد قال المصنف: إن السكاكى قبله مطلقا ورد غيره مطلقا، والحق أنه إن تضمن اعتبارا لطيفا قبل كقوله:
ومهمه مغبرّة أرجاؤه
…
كأنّ لون أرضه سماؤه (6)
(1) سورة النحل: 98.
(2)
سورة القصص: 76.
(3)
سورة القصص: 12.
(4)
البيت من الكامل، وهو للنابغة الجعدى فى ديوانه ص 35، ولسان العرب 14/ 359 (زنى)، وبلا نسبة فى أمالى المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 373. ورواية عجزه:
" كأن الزناء
…
"
(5)
سورة القصص: 66.
(6)
الرجز لرؤبة فى ديوانه ص 3، والأشباه والنظائر 2/ 296، وخزانة الأدب 6/ 458، وشرح التصريح 2/ 339، وشرح شواهد المغنى 2/ 971، ولسان العرب 15/ 98 (عمى)، ومعاهد التنصيص
أى: لونها.
وإلا ردّ؛ كقوله [من الوافر]:
كما طيّنت بالفدن السّياعا
ــ
المراد أنه بالغ فى الغبار حتى صار لون الأرض كلون السماء من شدة الغبار، وكان الأصل كأن لون سمائه أرضه، وإن لم يتضمن فلا كقوله وهو القطامى:
فلمّا أن جرى سمن عليها
…
كما طيّنت بالفدن السّياعا (1)
يصف ناقته بالسمن، والفدن القصر، والسياع الطين بالتبن، أصله كما طينت بالسياع الفدن فليس فى القلب معنى لطيف، ويروى بطنت، كذا رأيته فى الصحاح للجوهرى وحلية المحاضرة للحاتمى والتوسعة لابن السكيت، وجعله قلبا، وفيه نظر لأنه يجوز أن يريد أنه جعل القصر بطانة للطين لأنه داخله فلا قلب، وكل ما كان ظهارة لغيره كان الغير بطانة له، وبعد أن كتبت ذلك رأيت فى حلية المحاضرة أن الأصمعى قال: ليس هذا قلبا إنما يريد أن الحافر رك الخيل ومنعه أن يخرج من اليد أو الرجل.
قلت: والذى يظهر أن الخلاف إن كان فى القلب اللفظى فهذا يتعلق بالنحاة لا البيانيين، والظاهر حينئذ أنه ضرورة، بل لا ينبغى حكاية الخلاف فيه، بل لا تكاد تجد
- 1/ 178، ومغنى اللبيب 2/ 695، والمقاصد النحوية 4/ 557، وتاج العروس 9/ 89 (كبد)، (عمى)، والمصباح ص 42، والإشارات ص 59، والمفتاح ص 113، وتأويل مشكل القرآن ص 151، وشرح عقود الجمان 1/ 98، وبلا نسبة فى أمالى المرتضى 1/ 216، والإنصاف 1/ 377، وأوضح المسالك 4/ 342، وجواهر الأدب ص 164، وسر صناعة الإعراب 2/ 637، 636، وشرح شذور الذهب ص 414، وشرح المفصل 2/ 118، والصاحبى فى فقه اللغة ص 202. وفيه" وبلد" مكان" ومهمه"، والمهمه: الأرض القفر والمفازة.
(1)
البيت من الوافر، وهو للقطامى فى ديوانه ص 40 يصف ناقته، وأساس البلاغة ص 336 (فدن)، وجمهرة اللغة ص 845، وشرح شواهد المغنى 2/ 972، ولسان العرب 5/ 315 (قيذ)، 8/ 170 (سيع)، ومغنى اللبيب 2/ 696، والمفتاح ص 211، والنوادر ص 526، ومعاهد التنصيص 1/ 179.
وعجزه فى المصباح ص 41، ويروى" السباعا" وبعده:
أمرت بها الرجال ليأخذوها
…
ونحن نظن أن لن تستطاعا
والفدن: القصر، والسياع: الطين المخلوط تبنا تدهن به الأبنية، يعنى أن ناقته صارت ملساء من السمن كالقصر المطين بالسياع.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
له دليلا لأنه ما من محل يدعى فيه ذلك إلا جاز أن يكون القلب فيه معنويا، وإن كان الخلاف فى القلب المعنوى فينبغى القطع بجوازه ولا شبهة لمنعه، ومن يمنع المجاز مع العلاقة الواضحة إلا من شذ؟! وظاهر كلام النحاة جريان قولين بالمنع والجواز مطلقين، وأن القول الثالث السابق مفصل بين اللفظى فيمتنع والمعنوى فيجوز،
والظاهر أنه لا تحقيق له وأن الخلاف منزل على حالتين، وكذلك الأقوال التى حكاها المصنف فيها نظر، فإنه لا يكاد أحد يمنع ذلك مطلقا، وكيف ينكر قلب التشبيه وقد جزم به المصنف كما سيأتى؟! وقد وقع فى قوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ (1) وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا (2) وقوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ (3) وقال ابن السكيت فى قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ (4) معناه خلق العجل من الإنسان. ثم فى صحيح البخارى فى قوله تعالى:
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ (5) أن المعنى إذا استعذت فاقرأ. وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ (6) وسيأتى الكلام على هذه الآية الكريمة فى باب قلب التشبيه من علم البيان.
(تنبيه): قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ (7) جعله الزمخشرى من القلب مثل: عرضت الناقة على الحوض، وأنكره شيخنا أبو حيان وقال: لا ينبغى حمل القرآن على القلب إذ الصحيح أنه ضرورة، وإذا كان المعنى صحيحا دونه فما الحامل عليه؟! وليس فى قولهم: عرضت الناقة على الحوض ما يدل على القلب، لأن عرض الناقة على الحوض والحوض على الناقة صحيحان.
قلت: لم ينفرد الزمخشرى بجعل عرضت الناقة على الحوض مقلوبا، بل ذكره الجوهرى وغيره، وحكمته أن المعروض ليس له اختيار، والاختيار إنما هو للمعروض عليه فإنه قد يقبل وقد يرد، فعرض الحوض على الناقة لا قلب فيه، لأنها تقبله وقد ترده، وعرضها عليه مقلوب لفظا، وعرض الكفار على النار كما قال ابن
(1) سورة النحل: 17.
(2)
سورة البقرة: 275.
(3)
سورة الأحزاب: 32.
(4)
سورة الأنبياء: 37.
(5)
سورة النحل: 98.
(6)
سورة الجاثية: 23.
(7)
سورة الأحقاف: 20.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
عباس رضى الله عنهما، وهو الذى يظهر ليس بمقلوب لفظا للمعنى الذى أشرنا إليه، وهو أن الكفار مقهورون فكأنهم لا اختيار لهم، والنار متصرفة فيهم، وهم كالمتاع الذى يتصرف فيه من يعرض عليه، كما قالوا: عرضت
الجارية على البيع وعرضت القاتل على السيف والجانى على السوط، فالنار لما كانت هى المتصرفة فى العود قيل: عرضت العود على النار، وهذا الذى قلناه غير ما قاله شيخنا وغير ما قاله الزمخشرى وحاصله أن الذى فى الآية قلب معنوى ولا شذوذ فيه، والذى فى عرضت الناقة قلب لفظى، وهو شاذ، والحق ما قلناه إن شاء الله تعالى، على أن ابن السكيت قال فى كتاب التوسعة فى كلام العرب: تقول: عرضت الحوض على الناقة وإنما هو عرضت الناقة على الحوض، وهذا يقتضى أن عرضت الناقة على الحوض غير مقلوب وأن العبارة المشهورة عكس كلام العرب فقد خالف غيره نقلا ومعنى.
(تنبيه): قال الخفاجى فى سر الفصاحة: إن قوله تعالى: ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ (1) ليس من القلب فى شئ، والمراد - والله تعالى أعلم - أن المفاتح تنوء بالعصبة أى تميلها، ونقله عن الفراء وغيره، قال: وكذلك: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (2) ليس المراد أن حبه للخير لشديد بل إنه لحب المال لشديد والشدة البخل، وأنه لا قلب فى قول أبى الطيب:
وعذلت أهل العشق حتّى ذقته
…
فعجبت كيف يموت من لا يعشق (3)
ليس معناه عجبت كيف لا يموت من يعشق؟ بل معناه كيف المنية غير العشق؟! أى الأمر الذى تقرر فى النفوس أنه أعلى مراتب الشدة هو الموت ولما ذقت العشق وعرفت شدته عجبت، كيف يكون هذا الصعب المتفق على شدته غير العشق؟! وكيف يجوز أن لا يعم غلبة حتى تكون منايا الناس كلهم به؟! وقال أيضا فى قول أبى الطيب الذى سنتكلم عليه فى علم البيان:
نحن قوم ملجنّ فى زىّ ناس
(1) سورة القصص: 76.
(2)
سورة العاديات: 8.
(3)
البيت لأبى الطيب المتنبى فى شرح التبيان للعكبرى 1/ 495.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
إنه استعارة كما قال غيره، وابن جنى حمله على القلب، وأن المعنى: نحن قوم من الإنس فى زى الجن.
(تنبيه): أهمل المصنف أمورا كثيرة من إتيان الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كل منها يصلح أن يكون من أبواب المعانى إذا اعتبرت فيه نكتة لطيفة، منها انتقال الكلام من خطاب الواحد أو الاثنين أو الجمع لخطاب الآخر، ذكره التنوخى وابن الأثير، وهو ستة أقسام:
الأول: الانتقال من خطاب الواحد لخطاب الاثنين نحو قوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ (1).
الثانى: الانتقال من خطاب الواحد إلى الجمع كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ (2).
الثالث: من الاثنين إلى الواحد كقوله تعالى: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (3).
الرابع: من الاثنين إلى الجمع كقوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً (4).
الخامس: من الجمع إلى الواحد نحو: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (5).
السادس: من الجمع إلى التثنية نحو قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ (6) إلى قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ووجهه ما سبق فى الالتفات، وهذا القسم قريب من الالتفات؛ لأن فيه الانتقال من أحد أساليب ثلاثة إلى آخر، وأقسامه كالالتفات ستة، وليس التفاتا لأن الالتفات الانتقال من أحد الأساليب الثلاثة السابقة وهى التكلم والخطاب والغيبة إلى غيره.
ومنها التعبير بواحد من المفرد والمثنى والمجموع، والمراد الآخر، والفرق بين هذا والذى قبله أن الأول لم يعبر فيه بمفرد عن جمع أو تثنية ولا عكسه، بل استعمل كل فى معناه، ثم انتقل عنه لغيره، وما نحن فيه عبر فيه بأحد الأساليب الثلاثة وأريد غيره، وهو أقسام:
(1) سورة المؤمنون: 99.
(2)
سورة التحريم: 4.
(3)
سورة طه: 49.
(4)
سورة يونس: 87.
(5)
سورة يونس: 87.
(6)
سورة الرحمن: 33.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الأول: التعبير بالمفرد وإرادة التثنية، وجعل منه الحاتمى فى حلية المحاضرة قول الأعشى:
فرجّى الخير وانتظرى إيابى
…
إذا ما القارظ العنزىّ آبا (1)
وإنما هما قارظان من عنزة، وإنما قالوا كذلك لأنهما صارا كالشيئين اللذين لا يغنى أحدهما عن الآخر، فإنهما
يعبر عنهما بصيغة المفرد، إما فى المسند كقولهم: عيناه حسنة أو فى المسند إليه كقولهم: عينه حسنتان، وجعلوا من هذا الباب:
قد سالم الحيّات منه القدما (2)
على رفع الحيات، أى القدمين على أحد الأعاريب، ومنه:
وميّة أجمل الثّقلين جيدا
…
وسالفة وأحسنه قذالا (3)
وقد ورد ذلك بين الشيئين وإن لم يكن بينهما شدة اتصال مثل قوله:
ولكن هما ابن الأربعين تتابعت
…
أنابيبه مردى حروب على بعد
(1) البيت من الوافر، وهو لبشر بن أبى خازم فى ديوانه ص 26، ولسان العرب 7/ 455 (قرظ)، 14/ 310 (رجا)، وتهذيب اللغة 9/ 67، والمستقصى 1/ 128، وجمهرة الأمثال 1/ 124، ومجمع الأمثال 1/ 75، وتاج العروس 20/ 257 (قرظ)، (رجا)، وبلا نسبة فى كتاب العين 5/ 133، وجمهرة اللغة ص 763، وديوان الأدب 1/ 354، والاشتقاق ص 90، وفصل المقال ص 473.
(2)
الرجز لمساور ابن هند العبسى فى لسان العرب 5/ 366 (ضنمر)، 12/ 356 (ضرزم)، ولمساور ابن هند العبسى أو لأبى حيان الفقعسى فى التنبيه والإيضاح 2/ 244، وللدبيرى أو لعبيد بن علس فى تاج العروس (ضرزم)، وبلا نسبة فى تهذيب اللغة 1/ 331، 3/ 311، وجمهرة اللغة ص 1139، والمخصص 16/ 106، وتاج العروس (شجعم)، وفيه:
عبل المشاش فتراه أهضما
…
تحسب فى الأذنين منه صمما
قد سالم الحيات منه القدما
(3)
البيت من الوافر، وهو لذى الرمة فى ديوانه ص 1521، والأشباه والنظائر 2/ 106، وخزانة الأدب 9/ 393، والخصائص 2/ 419، والدرر 1/ 183، وشرح المفصل 6/ 96، ولسان العرب 11/ 88 (ثقل)، وبلا نسبة فى أمالى ابن الحاجب 1/ 349، ورصف المبانى ص 168، وشرح شذور الذهب ص 536، وهمع الهوامع 1/ 59، وفيه" أحسن" مكان" أجمل"، و" وأحسنهم" مكان" وأحسنه".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أنشده الفارسى مع أنه كان يمكن أن يقول ابنا، وذهب ابن مالك إلى أن ذلك ينقاس، ومنعه غيره، ووجهه الإشارة إلى أن الشيئين امتزجا وصارا كالشئ الواحد.
الثانى: التعبير بالمفرد وإرادة الجمع، ووجهه ما سبق، أنشد الحاتمى:
وذبيان قد زلّت بأقدامها النّعل (1)
وجعل منه استعمال من الموصولة لجمع، ويوافقه قول ابن مالك: إنها فى اللفظ مفرد مذكر، وفيه نظر، والظاهر أن لفظها ليس فيه إفراد ولا جمع فلا يصح وصفه بواحد منهما، قال: وأنشدوا:
فإنّ زمانكم زمن خميص (2)
…
كلوا فى بعض بطنكم تعفّوا
ومنه:
هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد (3)
…
وإنّ الّذى حانت بفلج دماؤهم
على أحد الأقوال.
الثالث: التعبير بالمثنى عن المفرد، ووجهه إرادة التأكيد بتقسيم الشئ إلى شيئين وتسمية كل منهما باسمه، والإشعار بإرداة تكرار الفعل، وأن الفعلين امتزجا، وصار حضور أحدهما حضورا للآخر، وجعلوا منه:
(1) هذا عجز بيت من الطويل، وصدره:" تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها" وهو لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص 109، ولسان العرب 6/ 314 (عرش)، 9/ 54 (حلف)، 11/ 91 (ثلل)، وجمهرة اللغة ص 84، وكتاب العين 1/ 249، ومقاييس اللغة 1/ 4، 369/ 265، وأساس البلاغة (عرش)، والمخصص 6/ 8، وتاج العروس 17/ 252 (عرش)، 23/ 159 (حلف)، (ثلل)، وديوان الأدب 1/ 114.
(2)
البيت من الوافر، وهو بلا نسبة فى أسرار العربية ص 223، وتلخيص الشواهد ص 157، وخزانة الأدب 7/ 563، 560، 559، 537، والدرر 1/ 152، وشرح أبيات سيبويه 1/ 374، وشرح المفصل 5/ 8، 6/ 21، والكتاب 1/ 210، والمحتسب 2/ 87، والمقتضب 2/ 172، وهمع الهوامع 1/ 50.
(3)
البيت من الطويل، وهو للأشهب بن رميلة فى خزانة الأدب 6/ 7، 25 - 28، وشرح شواهد المغنى 2/ 517، والكتاب 1/ 187، ولسان العرب 2/ 349 (فلج)، 15/ 246 (لذا)، والمؤتلف والمختلف ص 33، والمحتسب 1/ 185، ومعجم ما استعجم ص 1028، والمقاصد النحوية 1/ 482، والمقتضب 4/ 146، والمنصف 1/ 67، وللأشهب أو لحريث بن مخفض فى الدرر 1/ 148، وبلا نسبة فى الأزهية ص 99، وخزانة الأدب 2/ 315، 6/ 133، 8/ 210، والدرر 5/ 131، ورصف المبانى ص 342، وسر صناعة الإعراب 2/ 537، وشرح المفصل 3/ 155، ومغنى اللبيب 1/ 2، 194/ 552.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أأطعمت العراق ورافديه
…
فزاريّا أحذّ يد القميص (1)
يريد رافده لأن العراق ليس فيه إلا رافد واحد، وأنشد الحاتمى:
عشيّة سال المربدان كلاهما
…
عجاجة موت بالسيوف الصّوارم (2)
وهو غريب لتأكيده بكلاهما، ومنه قول الحجاج: يا حرسى اضربا عنقه، ومنه: قفا نبك، ومنه: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ (3) على أحد الأقوال الثلاثة، ومنه:
فإن تزجرانى يا ابن عفّان أنزجر
…
وإن تتركانى أحم عرضا ممنّعا (4)
الرابع: التعبير بالمثنى عن الجمع، وجعل النحاة منه حنانيك وأخواته.
الخامس: التعبير بالجمع عن المفرد، مثل قولهم: شابت مفارقه، وقول امرئ القيس:
يزلّ الغلام الخفّ عن صهواته
…
ويلوى بأثواب العنيف المثقل (5)
ومنه:
(1) البيت من الوافر، وهو للفرزدق فى ديوانه 1/ 389، والحيوان 5/ 197، والدرر 1/ 153، وسر صناعة الإعراب 1/ 190، وسمط اللآلى ص 862، والشعر والشعراء 1/ 94، ولسان العرب 3/ 183 (رفد)، 483 (حذذ)، وبلا نسبة فى الحيوان 6/ 510، وهمع الهوامع 1/ 50.
ورواية صدره:" لأطعمت
…
".
(2)
البيت من الطويل، وهو للفرزدق فى ديوانه 2/ 311، ولسان العرب 3/ 171 (ربد)، وتاج العروس 8/ 85 (ربد)، وتاج العروس 8/ 85 (ربد)، وبلا نسبة فى تاج العروس 3/ 43 (سحب)، ولسان العرب 1/ 461 (سحب)، وروايته:
عشية لاقى ابن الحباب حسابه
…
بسنجار أنضاء السيوف الصوارم
(3)
سورة ق: 24.
(4)
البيت من الطويل، وهو لسويد بن كراع العكلى فى لسان العرب 5/ 320 (جزز)، والتنبيه والإيضاح 2/ 239، وتاج العروس 15/ 60 (جزز)، وبلا نسبة فى جمهرة اللغة ص 839، والمخصص.
(5)
البيت من الطويل، وهو لامرئ القيس فى ديوانه ص 20، وجمهرة اللغة ص 106، وتاج العروس 20/ 344 (بعع)، 23/ 234 (خفف)، 24/ 187 (عنف)، وكتاب العين 4/ 144، ولسان العرب 9/ 79 (خفف)، وبلا نسبة فى مقاييس اللغة 2/ 155.
ورواية صدره:" يطير
…
"
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومثلك معجبة بالشّبا
…
ب صال البعير بأجيادها (1)
ومنه على قول: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (2).
السادس: التعبير بالجمع عن التثنية، ووجهه ما سبق إلا أنه يجوز أن تكون قصدت المبالغة بتقسيم كل من الشيئين إلى أشياء أو تكون قصدت المبالغة فى أحدهما بتقسيمه دون الآخر، لأن الجمع يحصل بثلاثة، ومنه المناكب والمرافق والحواجب، وإنما هما منكبان، وينقاس منه كل شيئين بينهما تواصل مثل: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما (3) وجعل على التعبير بالجمع عن التثنية: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (4) وإِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (5) وقد ذهبت طائفة من الناس إلى أن الجمع يطلق على الاثنين حقيقة، بل وقيل: على الواحد، ولا تفريع عليهما. وغالب ما سبق من
الشواهد يمكن تأويله بما لا يكاد يخفى.
ومنها تذكير المؤنث وعكسه، فالأول لتفخيمه كقوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ (6) ولذلك يجوز تذكير كل مؤنث مجازى، ومنه:
ولا أرض أبقل إبقالها
لأنه أراد تفخيم الأرض فعبر عنها بما يعبر به عن المكان، وبذلك ينجلى لك أنه لا شذوذ فى هذا البيت، لأنه إنما يكون شاذا إذا أريد بالضمير المؤنث ويعود عليه ضمير الغائب مذكرا على الصحيح خلافا لابن كيسان فى المؤنث المجازى، أما إذا تجوز بالمؤنث المجازى عن مذكر فإنه يعود عليه ضمير الغائب مذكرا فليتأمل.
والثانى لإرادة تسمية كل جزء منه باسمه كما سبق، ومنه جاءته كتابى فاحتقرها إشارة إلى أنه جاءه منه كتاب فى معنى الكتب المتعددة، والنحاة يقولون: أنثه على إرادة الصحيفة، وقد يقال: أحد اللفظين المترادفين كيف يراد بالآخر؟ إنما يراد المعنى
(1) البيت من المتقارب، وهو للأعشى فى ديوانه ص 119، ولسان العرب 10/ 458 (صيل)، وتاج العروس (صاك) ورواية عجزه:"
…
صاك العبير بأجلادها"، وديوان الأدب 3/ 409، ومجمل اللغة 3/ 254، وأساس البلاغة (صوك) بلفظ:" صاك العبير بأجسادها".
(2)
سورة المؤمنون: 99.
(3)
سورة التحريم: 4.
(4)
سورة الشعراء: 15.
(5)
سورة ص: 21.
(6)
سورة البقرة: 275.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
سواء كان المعنى لفظا مثل: لفظ الكلمة أو غير لفظ مثل: زيد، نعم قد يعطى أحد اللفظين حكم اللفظ الآخر، وعلى ذلك تحمل قولهم: أنثه على معنى الصحيفة وإلا فمعنى الصحيفة هو غير معنى الكتاب، وعلى هذا المعنى تحمل هذا الباب الواسع فى العربية، وهو إعطاء إحدى الكلمتين حكم الأخرى، فليتأمل ذلك فإنه حسن دقيق.
ومنها نفى الأخص والمراد نفى الأعم وعكسه، ولو فتحنا هذا الباب لطال، ولكن ذكرنا ما أشار إليه أهل هذا العلم.
(تنبيه): لعلك تقول: غالب ما سبق أو كله من أنواع المجاز ومحله علم البيان - كما سيأتى - فالجواب أن الأمر كذلك
ولكن جرت عادة أكثرهم بذكر هذه الأنواع فى هذا العلم فتبعناهم، وتداخل علم البيان وعلم المعانى كثير، والله تعالى أعلم.
(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثانى وأوله أحوال المسند)