الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم إن هذه الكلمات كثيرا ما تستعمل فى غير الاستفهام؛ كالاستبطاء؛ نحو: كم دعوتك؟،
ــ
ثم بين" متى" و" أيان" عموم وخصوص فإن متى أعم، وأى وما بينهما عموم وخصوص من وجه كما سبق، وأما البقية فالظاهر أنهما متباينان، وإن تلازم بعضها فإن قلت: قد قال المنطقيون: إن مقولة الكم أعم من مقولة الكيف وجودا، ويلزم منه أن يكون المسئول عنه بكم أعم من المسئول عنه بكيف، إما مطلقا أو من وجه. قلت:[لا شك أن الكم كيف لا كون تريد طوله على وجه مخصوص هو كم، وهو كيف](1)، ولكن لفظ كم لا يصلح أن يحل موضعه لفظ كيف، والأخص قد يوجد على وجه يستعمل له لفظ لا يستعمل له اللفظ الموضوع للأعم، ألا ترى أنك لا تقول: كم زيد إلا إذا أردت أجزاءه، وأنها لا تستعمل إلا مع متعدد أو ذى أجزاء يصح إرادة كل منها بخلاف كيف، ولا تكاد العرب تجيز كيف دراهمك تريد كم عددها، وأيضا لو كانت" كيف" بمعنى" كم" لصح أن تقول فى نحو:
كم عمة لك يا جرير وخالة
كيف عمة لك، وهو ظاهر الامتناع لتغاير المعنى.
هذه الكلمات تستعمل كثيرا فى غير الاستفهام:
ص: (ثم هذه الكلمات كثيرا ما تستعمل فى غير الاستفهام).
(ش): يعنى أن هذه الكلمات الموضوعة للاستفهام قد تستعمل فى غيره مجازا، فمن ذلك الاستبطاء كقولك: كم أدعوك، لمن أكثرت من دعائه، ويحتمل أن يكون أريد به النهى عن التأخر، والأحسن أن يجعل الفعل مضارعا، فيقال: كم أدعوك؛ لأنه أدل على بقاء الطلب والاستبطاء، بخلاف دعوتك قد يصدر من موبخ قد انقطع غرضه من إجابة دعائه، أو بعد تعذر الإجابة، وكلام المصنف يقتضى أن ذلك لا يختص به" كم"؛ لأنه قال فى الإيضاح: وعليه قوله تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ (2)، وكلام الخطيبى يقتضى أنه فهم أن ذلك فى" كم" فقط، وليس كما قال، ومن ذلك التعجب، ونعنى ما ليس معه توبيخ، وهو
(1) كذا عبارة الأصل.
(2)
سورة البقرة: 214.
والتعجّب؛ نحو: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ (1)، والتنبيه على الضلال؛ نحو: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (2)، والوعيد؛ كقولك لمن يسئ الأدب: ألم أؤدّب فلانا؟ إذا علم المخاطب ذلك، والتقرير بإيلاء المقرّر به الهمزة؛ كما مر (3)،
ــ
يشارك الاستفهام فى أن التعجب مما خفى سببه والاستفهام يكون عما خفى نحو: ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وتقول: أى رجل هو، للتعجب، ومن ذلك التنبيه على ضلال المخاطب نحو: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وجعله السكاكى من استفهام التوبيخ والإنكار، ومنه قول أبى عمرو بن العلاء للأصمعى: أين عزب عنك عقلك؟ ومن ذلك الوعيد كقولك لمن يسئ الأدب: ألم أؤدب فلانا؟ إذا كان عالما بذلك، ومن ذلك التقرير، وسيأتى تحرير حقيقته، وقد جعل منه السكاكى على ما يوجد فى بعض نسخ المفتاح قوله تعالى:
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي (4) وهو مشكل؛ لأن ذلك لم يقع منه، وسيأتى حل هذا الإشكال فى آخر الكلام - إن شاء الله تعالى -.
ثم يكون المقرر به تاليا للهمزة، كما مر من أن المستفهم عنه ما يلى الهمزة، وقد تقدم ما عليه من الأسئلة، فإن أردت التقرير بالجملة، قلت: أفعلت؟ وإن أردت التقرير بالمفعول قلت: أزيدا ضربت؟ وإن أردت التقرير بالفاعل قلت: أأنت فعلت؟ فإن قلت:
لو كان الاستفهام فيه عن الفاعل لاستدعى العلم بالنسبة فى قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ وهو القول والقول مفعوله اتخذونى، فهو قول لا يمكن صدوره من عيسى صلى الله عليه وسلم، وهو لم يقله، فلم يقع التصديق بأصل النسبة فلا تكون صورة الاستفهام هنا عن الفاعل، وإنما قلنا: صورة الاستفهام، لأنه لا يخفى أن الاستفهام هنا ليس على حقيقته، قلت:
قد قيل: اتخذوا عيسى إلها، وهذا القول لو صدر عنه لكان التعبير عنه باتخذونى، فعبر به فى الاستفهام، فأصل النسبة معلوم بهذا الاعتبار.
قال فى الإيضاح: وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكى وجماعة فى قوله تعالى:
قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (5) إنه من هذا الباب لأنهم لم يستفهموا هل وقع كسر الأصنام؟ بل أرادوا أن يقر بكونه قد فعله، فإنما سألوا عن الفاعل؛ ولذلك أشاروا إلى الفعل بقولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا ولذلك: قالَ بَلْ فَعَلَهُ
(1) سورة النمل: 20.
(2)
سورة التكوير: 26.
(3)
فى حقيقة الاستفهام من إيلاء المسئول عنه الهمزة.
(4)
سورة المائدة: 116.
(5)
سورة الأنبياء: 62.
والإنكار كذلك؛ نحو: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ (1)؛ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا (2)؛ ومنه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ (3) أى: الله كاف عبده؛ لأنّ إنكار النفى نفى له، ونفى النفى إثبات؛
ــ
كَبِيرُهُمْ هذا (4) ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل، وفيه نظر؛ لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها؛ إذ ليس فى السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذى كسر أصنامهم. انتهى.
قلت: ما نقله عن عبد القاهر والسكاكى إنما هو تقرير لكون المقرر به هو الفاعل لا الفعل، وهذا لا يناسب قولهما: لو كان التقرير بالفعل لكان الجواب: فعلت أو لم أفعل، ولا يناسب أيضا ذكر هذا بعد قوله: المقرر به ما يلى الهمزة، وعلى كل تقدير فقول المصنف: إذ ليس فى السياق أنهم كانوا عالمين فيه نظر، أما أولا فلأن الدليل لا ينحصر فيما تضمنه السياق، وهم كانوا كفارا، ولم يكن فيهم من يقدم على كسر أصنامهم، وأما ثانيا فلقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فإن" بل" فى الغالب إذا وقعت الجملة بعدها كانت إضرابا عما قبلها على وجه الإبطال له، ولو كانت استفهاما محضا قصد إبطاله بالنفى كأنهم قالوا له: أأنت فعلت؟ فقال: لم أفعل، بل فعله كبيرهم، وأما ثالثا فبالقرائن السابقة مثل: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ (5)، قولهم: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ (6). قال الخطيبى: ولو سلم فلا يلزم من عدم علمهم مدعى المصنف؛ لأنه ما ادعى لزوم عدم العلم، بل ادعى عدم لزوم العلم. وقوله:(والإنكار كذلك) أى: فى إيلاء المنكر الهمزة نحو: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ فالمنكر هنا المفعول، وهو غير الله عز وجل، لا نفس الدعاء، وقد يكون المنكر الفعل كقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، فالمنكر عدم كفاية الله عبده.
قوله: (لأن نفى النفى إثبات) يعنى أن الإنكار إذا دخل على النفى كان لنفى النفى، وهو إثبات، ولذلك قيل: إن أمدح بيت قالته العرب:
ألستم خير من ركب المطايا
…
وأندى العالمين بطون راح
نقله ابن الشجرى فى أماليه، ولولا صراحته فى تقدير المدح لما قيل ذلك.
(1) سورة الأنعام: 40.
(2)
سورة الأنعام: 14.
(3)
سورة الزمر: 36.
(4)
سورة الأنبياء: 63.
(5)
سورة الأنبياء: 57.
(6)
سورة الأنبياء: 60.
وهذا مراد من قال: إنّ الهمزة فيه للتقرير بما دخله النفى لا بالنفى خ خ.
ولإنكار الفعل صورة أخرى، وهى نحو: أزيدا ضربت أم عمرا؟ لمن يردّد الضرب بينهما.
ــ
قوله: (وهذا مراد من قال: إن الهمزة فيه للتقرير) يعنى أن من قال: إنها للتقرير أراد تقرير ما دخله النفى وهو الله كاف عبده، ومن قال للإنكار أراد إنكار الجملة المنفية، والأول هو معنى قول الزمخشرى: إن الهمزة فى قوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) للتقرير، وما قاله متعين إن كان الخطاب فى ألم تعلم للنبى أو لا أحد من المسلمين، وإن كان الخطاب لجنس الكافر الجاحد لقدرة الله سبحانه وتعالى، فيحتمل أن يقال: الاستفهام للتوبيخ، بمعنى أنهم وبخوا على عدم العلم، وإن كان مع الكافر المعاند بلسانه فقط فيصح أن يكون استفهام إنكار وتكذيب لهم فيما يتضمنه كفرهم من قولهم: إن الله تعالى ليس كذلك، وهذه الاحتمالات الثلاثة فى أن الخطاب للمسلمين أو لأحد من المسلمين أو الجاحدين من مشركى أهل مكة أو المنكرين بألسنتهم وهم اليهود، وهى أقوال ثلاثة حكاها الإمام فيما يعود إليه ضمير: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ (2) فالظاهر أن الخطاب فى" ألم تعلم" للواحد من صاحب ذلك الضمير.
قوله: (ولإنكار الفعل صورة أخرى) يعنى: أنه قد يلى الاسم الهمزة، ويكون المنكر الفعل، وذلك بأن يكون الفعل دائرا بين اسمين لا يتجاوزهما، فإذا أنكر وقوعه من أحدهما أو على أحدهما لزم منه إنكار الفعل (كقولك: أزيدا ضربت أم عمرا)؛ حيث لا يمكن ضرب ثالث إذا كان للإنكار، فإنه إنكار لضرب كل منهما، ويلزم من ذلك إنكار الفعل؛ لأن نفى المتعلق نفى للمتعلق؛ ولذلك قال:(لمن يردد الضرب بينهما) يعنى إذا علم أن الضرب لا يتجاوزهما لثالث.
ومنه قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ (3) فإن المقصود إنكار أصل التحريم، وأخرج فى قالب طلب التعيين، وكذلك: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ (4) لأنه إذا نفى الفعل عمن لا فاعل له غير المنفى عنه انتفى الفعل من أصله، ويكون استفهام
الإنكار بكم وكيف مثل: كم تدعونى، وكيف تؤذى أباك، ثم استفهام الإنكار على قسمين:
(1) سورة البقرة: 106.
(2)
سورة البقرة: 108.
(3)
سورة الأنعام: 143.
(4)
سورة يونس: 59.
والإنكار: إمّا للتوبيخ، أى: ما كان ينبغى أن يكون؛ نحو: أعصيت ربّك؟ أو لا ينبغى أن يكون؛ نحو: أتعصى ربّك؟ أو للتكذيب، أى: لم يكن؛ نحو:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (1)، أو لا يكون؛ نحو: أَنُلْزِمُكُمُوها (2)
ــ
أحدهما: يراد به التوبيخ، وهو من أنكر عليه إذا نهاه، أى ما كان ينبغى أن يكون هذا نحو: أعصيت ربك؟ أى: بمعنى لا ينبغى أن يكون، كقولك للرجل يركب الخطر: أتركب فى غير الطريق؟ والغرض منه الندم على ماض والارتداع عن مستقبل، ويقال: أين مغيبك للتوبيخ والتقريع؟ قال تعالى: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (3) وضابط هذا القسم أن يكون ما يلى الهمزة فيه واقعا، لكنه مستقبح. الثانى: للتكذيب، وضابطه أن يكون ما يلى الهمزة فيه غير واقع وقصد تكذيبهم فيه، وسواء أكان زعمهم له صريحا مثل: أَفَسِحْرٌ هذا (4)، أم إلزاما مثل: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ (5) فإنهم لما جزموا بذلك جزم من شاهد خلق الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم، وتسمية هذا استفهام إنكار من أنكر إذا جحد، وهو إما بمعنى لم يكن كقوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً أو بمعنى لا يكون، نحو: أَنُلْزِمُكُمُوها، وقوله:
أأترك إن قلّت دراهم خالد
…
زيارته إنّى إذا للئيم
ويقال: متى قلت للجحد، وحمل الزمخشرى تقديم الاسم فى قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ (6) على أن المعنى: أفأنت تقدر على إكراههم على سبيل القصد؟ أى: إنما يقدر على ذلك الله، ولم يقدر السكاكى فيه تقديما، بل جملة على الابتداء دون تقدير التقديم كما هو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما فى: أنا قمت، فلا يفيد غير تقوى الحكم، ونقل فى الإيضاح عن السكاكى أنه قال: إياك أن تغفل عما سبق فى: أنا ضربت من احتمال الابتداء، واحتمال التقديم، وتفاوت المعنى بينهما، فلا تحمل قوله تعالى: آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ (7) على التقديم، فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره، ولكن احمله على الابتداء مرادا به تقوية حكم الإنكار.
(1) سورة الإسراء: 4.
(2)
سورة هود: 28.
(3)
سورة القصص: 62.
(4)
سورة الطور: 15.
(5)
سورة الزخرف: 19.
(6)
سورة الزخرف: 40.
(7)
سورة يونس: 59.
والتهكم؛ نحو: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا (1)، والتحقير؛ نحو: من هذا؟
ــ
قال المصنف: وفيه نظر؛ لأنه إن أراد أن الاسم إذا كان مظهرا وولى الهمزة لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلا لما بعده، فممنوع، وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير وإلا فلا على ما ذهب إليه، فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيها. انتهى.
يعنى فيلزم أن لا يحصل الإنكار فى نحو:" أأنت فعلت" على شئ من التقادير عنده، ولا شك أن كلامه مشكل؛ فإن التقديم والتأخير لا تعلق له بكون المنكر أو المستفهم عنه الاسم الذى يلى الهمزة مقدر التقديم والتأخير أم لا، ومن ذلك التهكم نحو قوله: قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، وقد تقدم تفسير التهكم فى باب المسند إليه، وقد قيل: إن تقدير الآية: تأمرك أن تأمر أن نترك؛ لأن الشخص لا يطالب بفعل غيره، ومن ذلك التحقير كقولك:" من هذا" و" ما هذا"؟ فإن قلت: المنكر ما يلى الهمزة على ما تقرر، والذى يليها فى قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ (2) الإصفاء بالبنين وليس هو المنكر، إنما المنكر قولهم: إنه اتخذ من الملائكة إناثا، قلت: إما أن يقال:
إن لفظ الإصفاء يشعر بزعم أن البنات لغيرهم، وإما أن يقال: المراد مجموع الجملتين ينحل منهما كلام واحد، التقدير: جمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات، وتكون الواو فيه لمعية؛ لأن زعمهم لمجموع الجملتين أفحش من اقتصارهم على واحدة منهما، وإن كانت فاحشة، فإن قلت: فقوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ (3) لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر كما تقتضيه قاعدة أن ما يلى الهمزة هو المنكر، ولا أن يكون المنكر نسيان النفس فقط؛ لأنه يصير ذكر أمر الناس بالبر لا مدخل له، ولا مجموع الأمرين؛ لأنه يلزم أن تكون العبادة
جزء المنكر، ولا نسيان النفس بشرط الأمر؛ لأن النسيان منكر مطلقا، ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشد منه حال عدم الأمر؛ لأن المعصية لا تزداد شناعتها بانضمامها إلى الطاعة؛ لأن جمهور العلماء على أن الأمر بالبر واجب، وإن كان الإنسان ناسيا لنفسه، وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف معصية نسيان النفس؟! ولا يأتى الخير بالشر، وقريب منه فى المعنى قوله:" إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث"(4) فإن الرفث مذموم مطلقا. ومنه قول الشاعر:
(1) سورة هود: 87.
(2)
سورة الإسراء: 40.
(3)
سورة البقرة: 44.
(4)
أخرجه البخارى فى" الصوم"، باب: هل يقول: إنى صائم إذا شئتم، (14/ 141)، (ح 1904)، ومسلم فى" الصيام"، (ح 1151). عن أبى هريرة.
والتهويل؛ كقراءة ابن عباس - رضى الله عنه -: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ (1) بلفظ الاستفهام، ورفع فرعون خ خ؛ ولهذا قال: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (2)، والاستبعاد؛ نحو: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ (3)
ــ
لا تنه عن خلق وتأتى مثله
…
عار عليك إذا فعلت عظيم
وليس منه: لا تأكل السمك وتشرب اللبن فى المعنى؛ لأن كلا منهما على انفراده ليس مذموما، بل المذموم مجموعهما، وكل منهما جزء علة.
قلت: لا يرتاب فى أن فعل المعصية مع النهى عنها أفحش؛ لأنها تجعل حال الإنسان كالمتناقض، وتجعل القول كالمخالف للفعل؛ ولذلك كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل، ولكن الجواب عن قوله: إن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها من جنسها فيه دقة، ومن ذلك التهويل كقراءة ابن عباس: وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ بلفظ الاستفهام ورفع فرعون؛ ولذلك قال تعالى: إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ فذكر ذلك عقبه يرشد لإرادة التهويل؛ ولذلك قال تعالى: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (4) وفى الصحيحين عن ابن عباس - رضى الله عنهما - فى" مرض رسول الله يوم الخميس"(5) إلى آخره.
والتعظيم قريب من التهويل، ومن ذلك الاستبعاد مثل قوله تعالى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ، أى: يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا عنه.
هذا ما ذكره المصنف فى التلخيص، وزاد فى الإيضاح أنه قد يراد به التعجب والتوبيخ معا، كقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ (6) وزاد أيضا الأمر نحو قوله تعالى:
فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (7)، وقوله تعالى: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (8).
(1) سورة الدخان: 30 - 31.
(2)
سورة الدخان: 31.
(3)
سورة الدخان: 13 - 14.
(4)
سورة القارعة: 10.
(5)
الحديث أخرجه البخارى فى" الجهاد والسير"، باب: هل يستشفع أهل الذمة؟ ومعاملتهم، (3053)، ومسلم فى" الوصية"، (ح 1637).
(6)
سورة البقرة: 28.
(7)
سورة الأنبياء: 108.
(8)
سورة القمر: 17.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وقد تقدم أن" هل" تستعمل فى التمنى فهذا أيضا مما نحن فيه، وزاد غيره التهديد، ومثله: بألم أؤدب فلانا؟ وقد تقدم التمثيل به للوعيد. ولا شك أن معناهما متقارب، وزيد أيضا العرض نحو: ألا تنزل فتصيب خيرا؟ والتحضيض كقولك: لمن بعثته لمهم فلم يذهب: أما ذهبت؟ والزجر، كقولك لمن يؤذى أباه: أتفعل هذا؟ ذكر الثلاثة فى المصباح، وقد تأتى الهمزة للأمر كما قيل فى قوله سبحانه وتعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ (1) معناه أسلموا.
وتأتى الهمزة للتسوية المصرح بها، كقوله تعالى سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ (2) وغيرها، كقوله سبحانه وتعالى حكاية: وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ (3).
وقال أبو سعيد السيرافى فى: علمت أزيد فى الدار أم عمرو؟ هذا ليس باستفهام، والمتكلم به بمنزلة المسئول عنه، والمخاطب بمنزلة السائل. وقد خرجت الهمزة أيضا عن معناها فى أرأيتك موافقة أخبرنى قال فى المصباح: وقد تأتى للمبالغة فى المدح كقوله:
بدا فراغ فؤادى حسن صورته
…
فقلت هل ملك ذا الشّخص أم ملك
أو فى الذم كقول زهير:
فما أدرى وسوف أخال أدرى
…
أقوم آل حصن أم نساء (4)
أو التدله فى الحب كقوله:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا
…
ليلاى منكن أم ليلى من البشر (5)
وعليه اعتراض سيأتى فى البديع، والتحقيق فى أكثر هذه الأمور رجوعها إلى الاستفهام الحقيقى.
(تنبيه): هذا النوع من خروج الاستفهام عن حقيقة يسمى الإعنات، وسماه ابن المعتز تجاهل العارف، وهل تقول: إن معنى الاستفهام فيه موجود، وانضم إليه معنى
(1) سورة آل عمران: 20.
(2)
سورة البقرة: 6.
(3)
سورة الأنبياء: 111.
(4)
البيت من الوافر: لزهير بن أبى سلمى فى ديوانه ص: 73، والاشتقاق ص: 46، ومغنى اللبيب ص: 41، 139.
(5)
البيت من البسيط، للمجنون فى ديوانه ص: 130، للعرجى فى شرح التصريح (2/ 298)، والمقاصد النحوية (1/ 416).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
آخر أو تجرد من الاستفهام بالكلية؟ محل نظر، والذى يظهر الأول ويساعده ما قدمناه عن التنوخى من أن" لعل" تكون للاستفهام مع بقاء معنى الترجى. وقال التنوخى أيضا فى نحو: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ (1): ليس استفهاما محضا، ومما يرجح الأول أن الاستبطاء فى قولك: كم أدعوك؟ معناه أن الدعاء قد وصل إلى حد لا أعلم عدده، فأنا أطلب أن أفهم عدده، والعادة تقضى بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثر فلم يعلمه، وفى طلب فهم عدده ما يشعر بالاستبطاء، وأما التعجب فالاستفهام معه مستمر؛ لأن من تعجب من شئ فهو بلسان الحال سائل عن سببه، وكأنه يقول: أى شئ عرض لى فى حال عدم رؤية الهدهد؟ وأصله أى شئ عرض له؟ لكنه قلبه إلى نفسه مبالغة فى الصفة، وأما التثنية على الضلال فى نحو قول الإنسان: أين تذهب؟
مريدا التنبيه على الضلال، فالاستفهام فيه حقيقى؛ لأنه يقول: أخبرنى إلى أى مكان تذهب فإنى لا أعرف ذلك، وغاية الضلال لا يشعر بها إلى أن تنتهى، فأما قوله تعالى:
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (2)، فيأتى ما حصل به تحقيق المراد منه، وأما التقرير فاعلم أنهم لم يفصحوا عن مرادهم به، فهل نقول: إن المراد به الحكم بثبوته كقولك: قررت هذا الأمر، أى: أثبته، فيكون حينئذ خبرا، فإن المذكور عقب الأداة واقع نفيا كان أم إثباتا. فالتقرير فى أَلَمْ نَشْرَحْ للفعل وهو الشرح، أو المراد أنه طلب إقرار المخاطب به، مع كون
السائل يعلم، فهو استفهام يقرر المخاطب، أى: يطلب منه أن يكون مقرّا به. ورأيت فى كلام أهل الفن ما يقتضى كلا من الاحتمالين.
وأنت إذا تتبعت الأمثلة فى ذلك قطعت فى بعضها بأن المراد الأول كقوله تعالى:
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ (3) إن جعلناه تقريرا، وفى البعض بأن المراد الثانى كقوله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا (4) فإنهم يطلبون إقراره به، كما صرح به المصنف فى الإيضاح، وينتظرون جوابه، فإذا أريد باستفهام التقرير المعنى الأول فذلك خبر صرف، وإن أريد الثانى فهل معنى الاستفهام باق فيه أو لا؟ الذى يقتضيه كلام الجميع أنه لا، والذى يظهر خلافه، وأقدم عليه دقيقة وهى أن الاستفهام
(1) سورة الحاقة: 1.
(2)
سورة التكوير: 26.
(3)
سورة الإنسان: 1.
(4)
سورة الأنبياء: 62.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
طلب الفهم، ولكن طلب فهم المستفهم أو طلب وقوع فهم لمن يفهم كائنا من كان، فإذا قال: من يعلم قيام زيد لعمرو بحضور بكر الذى لا يعلم قيامه: هل قام زيد؟ فقد طلب من المخاطب الفهم أعنى فهم بكر، إذا تقرر هذا، فلا بدع فى صدور الاستفهام ممن يعلم المستفهم عنه، وإذا سلمت ذلك انزاحت عنك شكوك كثيرة، وظهر لك أن الاستفهامات الواردة فى القرآن لا مانع أن يكون طلب الفهم فيها مصروفا إلى غير المستفهم عنه، فلا حاجة إلى تعسفات كثير من المفسرين، وبهذا انجلى لك أن الاستفهام التقريرى بهذا المعنى حقيقة، وأن قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي (1) حقيقة، فإنه طلب به أن يقر بذلك فى ذلك المشهد العظيم تكذيبا للنصارى وتحصيلا لفهمهم أنه لم يقل ذلك، وهذا ما قدمنا الوعد به فى قوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (2). فإن قلت: المقرر به هو ما يلى الهمزة، كما تقرر؛ فيلزم أن يكون طلب منه أن يقر بأنه قال ذلك، وهذا لم يطلب، بل طلب منه أن يقر بالواقع، والواقع أنه لم يقل: قلت: بل المطلوب منه أن يقر بالأمر الواقع، ولا ينافى هذا قولهم: إن المقرر به هو ما يلى الهمزة؛ فإن المراد أن المقرر به هو الفاعل، وتقديره: أَأَنْتَ فَعَلْتَ (3) أم غيرك؟ فقد طلب منه أن يقر بالفاعل منه ومن غيره، وهذا معنى قولهم: إن المستفهم عنه ما يلى الهمزة، وإن كان المستفهم عنه فى قولك: أزيد قائم أم عمرو، كلا من زيد وعمرو، ولكن مقصودهم ما يليها من مسند مع معادلة أو مسند إليه، كذلك وقد انجلى لك بهذا قول
السكاكى: إن ذلك استفهام تقرير، بعد أن كان فى غاية البشاعة، واتضح لك إمكان حمل الاستفهامات الواردة فى القرآن على حقيقتها مع تنزيه البارئ عز وجل عن أن يطلب الفهم لنفسه تبارك وتعالى، وهذا ما قدمت الوعد.
وأما استفهام الإنكار فقد يكون الاستفهام به لطلب فهم السامعين لذلك الشئ المنكر فينكرونه. وأما التهكم فقد يكون فيه الاستفهام أيضا مصروفا إلى المخاطب. وأما التحقير فقد يكون استفهاما بمعنى أن ذلك وصل فى الحقارة إلى أن لا يعلم حقيقته فيستفهم عنه. وأما الاستبعاد فيمكن فيه ما سبق فى التنبيه على الضلال. والأمر يجوز أن يكون مفهوما مع بقاء قصد إفهام الناس حالهم، وطلب نطقهم بذلك.
(1) سورة المائدة: 116.
(2)
سورة التكوير: 26.
(3)
سورة الأنبياء: 62.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والعرض والتحضيض والزجر والمبالغة لا تعد فى اجتماع الاستفهام مع كل منها، فحاصله تكمل المحافظة على معنى الاستفهام مع معنى آخر بمعاونة القرائن اللفظية أو الحالية. ومما يؤيد ما قلناه أن ابن الحاجب قال فى شرح المفصل: إن الطلب لا يمكن أن يستعمل مرادا به نوع آخر من الطلب، بل قد يستعمل ويراد به الخبر، وأما طلب آخر فلا، وأنت تجد كثيرا من هذه المعانى السابقة طلبا فإذا تكلفت لبقاء معنى الاستفهام فيه، وأن القرينة دلت على إرادة شئ آخر معه، خلصت من هذا.
(تنبيه): قوله سبحانه: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (1)، يحتمل أن يكون استفهام تقرير، وكذا صرح به بعضهم، ووجهه أنه طلب منهم أن يقروا بما عندهم فى ذلك؛ ولهذا قال مجاهد: التقدير لا فإنهم لما استفهموا استفهام تقرير بما لا جواب له إلا أن يقولوا لا جعلوا كأنهم قالوها، وهو قول الفارسى والزمخشرى. ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التوبيخ على محبتهم لأكل لحم أخيهم فيكون ميتة، والمراد بمحبتهم لأكل لحم أخيهم غيبته على سبيل المجاز، وجاء فكرهتموه بمعنى الأمر، أى: أكرهوه، قيل: إن" فكرهتموه" أمر، وقد يأتى الأمر بصيغة الماضى، نحو: اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه. ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التكذيب؛ لأنهم لما كانت حالتهم حال من يدعى أنه يحب أكل لحم أخيه نسب إليهم ذلك وكذبوا فيه ويكون فكرهتموه خبرا.
(تنبيه): نقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون" بهل" إنما تستعمل فيه الهمزة، ثم نقل الشيخ عن بعضهم أن (هل) تأتى تقريرا وإثباتا فى قوله تعالى:
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (2) فأما قول الزمخشرى: إن هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ (3) للتقرير فتحمل على أنها بمعنى" قد" كما هو مذهبه، فإن الهمزة مقدرة قبله، فالتقرير حينئذ بالهمزة. وقال شيخنا أيضا: إن طلب بالاستفهام تعيين أو توبيخ أو إنكار أو تعجيب كان بالهمزة دون هل، وإن أريد به الجحد كان بهل ولا يكون بالهمزة، ومراده بالجحد القسم الثانى من قسمى الإنكار المتقدمين، ومراده بالإنكار القسم الأول فتعين فى (هل) التى للجحد الاستثناء مثل: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ (4).
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر، ولا يجوز: أزيد إلا قائم.
(1) سورة الحجرات: 12.
(2)
سورة الفجر: 5.
(3)
سورة الإنسان: 1.
(4)
سورة سبأ: 17.