الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولها: (نحمدك اللهمَّ، والحمد من نعمٍ أوليت، ومن منحٍ أسديت، ونستعين بك
…
) وآخرها: (وإن نقص من حركة الفاء وزيد فيها حرف المضارعة فهذه الأقسام التي كسبها وأمثلتها. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلَّم على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين).
عَلَاقة كِتَاب التَّحْصِيل بِمَا تقدّم عَلَيْه منْ كتُب الأصُول
يحسن بنا قبل أن نبين علاقة كتاب التحصيل من المحصول، للقاضي سراج الدين أبي الثناء محمود بن أبي بكر الأرموي مع الكتب التي تقدمته، ولها علاقة وثيقة معه سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة، كاستمداد معلوماته منها أو مشاركته لها في استمداد المعلومات أن نذكر لمحة موجزة عن نشأة هذا العلم وتطوره حتَّى عصر سراج الدين الأرموي القرن السابع الهجري، وسنقسم الكلام في ذلك على أربعة أقسام:
1 - التشريع قبل تدوين علم أصول الفقه
وهذه الفترة تبلغ حوالي القرنين من الزمان تعبدًا منذ أن بزغت شمسِ المعرفة بانبعاث نور الوحي السماوي، ليبدد الظلام الدامس الذي كان مخيمًا على جزيرة العرب بصورةٍ خاصة، وعلى سائر أرجاء المعمورة بصورة أعم، حيث أخذ النور يطارد الظلام، وفلول الظلم والكفر تهرول أمام جحافل الحق وجنود الله، وأخذ الوحي السماوي ينزل على قلب خير البشر منذ تلك اللحظة المباركة التي التقي فيها جبريل عليه السلام بخاتم الأنبياء في مكان تعبده في غار حراء في قمة جبل النور، إلى أن أصبح الشَّافعيّ رضي الله عنه مرجع العلوم وموسوعة الفقه في زمانه في أواخر القرن الثاني الهجري.
كان الوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل منجمًا حسب الحوادث بلسان عربي مبين، وكان القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة، حتَّى تحدى الله به أفصح من وجد على ظهر البسيطة على ثلاث مراحل (1): ففي المرة الأولى
(1) المرحلة الأولى قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ=
أن يأتوا بمثله، وفي المرة الثَّانية أن يأتوا بعشر سورٍ، وفي المرة الثالثة أن يأتوا بسورةٍ من مثله، ولكن من أين لكلام البشر أن يضاهي كلام الله تعالى أو يدانيه. واعترف صناديد قريش في أنفسهم بأن القرآن معجزة، وإن ظلوا في ضلالهم يعمهون.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم هو المرجع في الأحكام، والقاضي في الخصومات، فينتظر الوحي فينزل الوحيِ بالقول الفصل، والصحابة رضوان الله عليهم إذا بلغهم ذلك ما عليهم، إلَّا أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي في بعض الأمور بدون انتظارٍ للوحي. فإذا حدث أن قضى في أمرٍ بخلافِ الأولى، نزل الوحي يسدده لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يُقَرُّ على الخطأ. وَذلك كما حدث في قصة أسارى بدرٍ، وكما حدث في إعراضه عن ابن أم مكتوم رضي الله عنه قال تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (1) وقال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} (2).
وقد ساعد على تطبيق الأحكام وفهم دقائقها أنها كانت تنزل منجمةً حسب الحوادث، وما على الصَّحَابَة رضوان الله عليهم إلَّا أن يُلحقوا بها كل ما ضارعها من الحوادث.
وكانت الصَّحَابَة في عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم لاتساع الدولة الإِسلامية يجتهدون فيما يعترض لهم من حوادث، لعدم تمكنهم من مراجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعده عنهم، وقد سنّ ذلك صلى الله عليه وسلم وعلمهم إياه بفعله وورد في ذلك من
= لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
المرحلة الثَّانية بقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [هود: 13].
المرحلة الثالثة بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
(1)
[الأنفال: 67].
(2)
[عبس: 1 - 11].
السنة الشيء الكثير، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب لما سأله عن قبلة الصائم:"أرأيتَ لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه"(1). وكذلك قوله للخثعميَّة لما سألته عن قضاء الحج عن الميت "أرأيتِ إن كان على أبيك دينٌ فقضيته أكان يجزئ. فقالت: نعم. قال: فدين الله أحق بالقضاء"(2).
ولم يكتف الرسول-صلى الله عليه وسلم بأنه اجتهد ليعلمهم ذلك، بل أمرهم بذلك ودرّبهم عليه ومن ذلك حديث معاذ المشهور (3) عندما أرسله قاضيًا لليمن.
وزاد على ذلك أنَّه حثّهم عليه، ورغّبهم فيه لعلمه صلوات الله وسلامه عليه أنَّه سيجدُّ للنَّاس أقضية بعد أن يلحق بربه تحتاج إلى أحكام. ولا وحي بعد وفاته، فلا بد أن يطمئن قبل أن يلحق بالرفيق الأعلى على أن ما خلفه من تراثٍ كافٍ لسد كل ما تحتاجه أمته من أحكام، ولهذا أطلقها صراحةً واطمأن على ذلك حيث قال:"تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلَّا هالك". وقال: "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي"(4). وقد روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"(5). وهذا حث على الاجتهاد ليس بعده حث، حيث رتّب على الاجتهاد الخطأ أجر فإذن كانت مصادر التشريع في عهد رسول الله-صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر تخريج الحديث في صفحة (2/ 165) من الجزء التحقيقي.
(2)
انظر تخريج الحديث في صفحة (2/ 166) من الجزء التحقيقي.
(3)
وهو أنَّه لما أراد أن يبعث رسول الله معاذًا لليمن قال كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: "أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنّة رسول الله ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد برأي ولا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".
واللفظ لأبي داود ورواه أحمد في مسنده والتِّرمذيّ في سننه وغيرهم وقد تكلمنا على سنده بالتفصيل أثناء تخريجه في القسم التحقيقي، وقد اجتهد الإِمام الرَّازيّ في المحصول في دفع الاعتراضات الواردة على الحديث وأطال في ذلك.
(4)
انظر تخريج الحديث في صفحة (2/ 70) من الجزء التحقيقي.
(5)
انظر تخريج الحديث في صفحة (2/ 295) من الجزء التحقيقي.
الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والسنّة المطهرة بأنواعها الثلاثة القولية والفعلية والتقريرية، والاجتهاد في استنباط الأحكام منهما الذي حثّ عليه ودرّب قضاته في حياته عليه الصلاة والسلام.
وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم اجتهدت الصَّحَابَة فيما اعترضها من حوادث ومن طبيعة الاجتهاد أن تختلف الآراء فقد تجد في المسألة الواحدة أقوالًا متعددة لهم مما يدل على أن الحكم فيها كان عن اجتهادٍ لا عن نص، ولو كان عن نص ما اختلفوا أبدًا لأنهم كانوا يعظمون النصوص فلا يخالفونها أبدًا، وكان إذا نزلت بهم نازلة سألوا عن من سمع فيها شيئًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك لما عرض لعمر رضي الله عنه أمر المجوس، وهل يأخذ منهم الجزية، توقف في ذلك حتَّى سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهد عبد الرَّحْمَن بن عوف رضي الله عنه على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"سُنوا بهم سنة أهل الكتاب"(1).
فأخذ منهم الجزية. وكذلك لما جاءت الجدة تطلب الميراث من أبي بكرٍ رضي الله عنه سأل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هل سُمع منه في ذلك شيء.
"فأخبر المغيرة بن شعبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس"(2). وشهد له محمَّد
بن مسلمة بذلك. وغير ذلك من الحوادث كثير جدًا. وهذا يدل على أن الصَّحَابَة رضوان الله عليهم لا يلجأون للاجتهاد إلَّا بعد أن يستنفذوا الوسع في عدم وجود النص، سواء أكان من القرآن أم من السنّة المطهرة بأقسامها الثلاثة، ولم يتجرأ أحد منهم أن يترك النص الصريح للعقل أبدًا.
وقد اجتهد الصَّحَابَة في أحكام كثيرة ونقلت لنا الكتب بين صفحاتها الكثير من آرائهم، وقد ساعدهم في ذلك ما خلفه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تراثٍ عظيم فيه خبر ما قبلهم وما بعدهم، وقد كانوا على دراية تامة بألفاظ القرآن ومرامي التشريع، وبأسباب النزول لأنهم عاصروا التنزيل، ورافقوا تطبيق الأحكام، وكانوا على علم بالسنة المطهرة يحفظونها عن ظهر قلب
غضة طرية يتذكرون المجالس التي قيلت فيها والحوادث التي نزلت من
(1) انظر تخريج الحديث في صفحة (1/ 280) من الجزء التحقيقي.
(2)
انظر تخريج الحديث في صفحة (1/ 390) من الجزء التحقيقي.
أجلها، ويذكرون مع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فيشعرون بالهيبة، ويدفعهم ذلك لإجلالها واحترامها والمسارعة للعمل بموجبها، وكانت الألسن لم تفسد بعد ولم يستشر داء المعجمة إلى الأفهام والألسنة فكانوا على علم بالمطلق والمقيد والعام والخاص والمجمل والمبين والمنطوق والمفهوم ومدلولات الألفاظ على المعاني، والناسخ والمنسوخ، حتَّى كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
يقول في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أنَّه وضع الحمل، وكان يقول: آية النساء الصغرى نزلت بعد آية عدة الوفاة ومن شاء باهلته (1).
وكان كبار الصَّحَابَة رضوان الله عليهم يرسمون لمن دونهم منهج الاجتهاد، ويحثونهم عليه ويدربونهم عليه بنوعٍ من الحذر، لأن الخطأ في الأحكام أمر خطير وتعتبر رسائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك إلى قضاته أساسًا رصينًا بنى عليه من جاء بعده، ومن أعظم هذه الرسائل رسالته إلى أبي موسى الأَشْعريّ رضي الله عنه والتي جاء فيها:(الفهم الفهم فيما أدلي إليك مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم قس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال). وقد ذكرتها بطولها في أول كتاب القياس من القسم التحقيقي، لما لهذه الرسالة من أهمية عظمى في التشريع الِإسلامي على وجه العموم والقضاء على وجه الخصوص.
وكتبَ عمر رضي الله عنه أَيضًا إلى قاضيه شريح يقول: (إذا حضرك أمر لا بد منه، فانظر ما في كتاب الله فاقض به، فإن لم يكن فَبما قضى به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن فَبما قضى به الصالحون وأئمة العدل، فَإِنْ لم يكن فأنت بالخيار، فإن شئتَ أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإن شئت أن تؤامرني فآمرني ولا أرى مؤامرتك إياي إلَّا خيرًا لك والسلام)(2).
ونقل البغدادي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: (يَا أيها
(1) يعني بآية النساء الصغرى قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . وآية عدة الوفاة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].
(2)
أعلام الموقعين 1/ 70.
النَّاس أنَّه قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هناك، وأنه قد قدر أن بلغنا من الأمر ما ترون فمن ابتلي منكم بقضاءٍ فليقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فليقض بما قضى به النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الحلال بين والحرام بيَن، وشبهات بين ذلك، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك) (1).
ونقل عن جمهور من الصَّحَابَة رضوان الله عليهم أنَّهم استعملوا القياس. فنقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: (ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن إبنًا، ولا يجعل أبي الأب أبًا). ونقل عن علي وزيدٍ رضي الله عنهما أنهما شبها الأخ والجد بغصنيْ شجرة وجدوليْ نهر، وشركا بينهما في الميراث. وقد ذكر النظام (2) أن الذين استعملوا القياس من الصَّحَابَة عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبو الدَّرداء وأبو موسى الأَشْعريّ وعائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر.
وبهذا يظهر أنَّه قد أصبح الاجتهاد مصدرًا بارزًا ظاهرًا في التشريع الإِسلامي أكثر من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كانت الحاجة للاجتهاد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم قليلة لوجوده بينهم، فيقضي هو فيها أو ينتظر الوحي من رب العباد.
ومن البديهي أن تظهر أقوال مختلفة في المسألة الواحدة، إما لاختلاف وجهات النظر في دلائل النصوص إذا لم تكن جلية أو لمشابهة المسألة أكثر من أصل، ومن ذلك ما أورده صاحب التحصيل تبعًا لما تقدمه من كتب الأصول مسألة الحرام (3) اختلف فيها الصَّحَابَة على خمسة أقوال (4):
أولها: أن التحريم في حكم الطلاق الثلاث، وهو منقول عن علي
(1) أعلام الموقعين 1/ 71.
(2)
ترجمنا له في الجزء التحقيقي ص (1/ 431).
(3)
هو قوله لامرأته "أنت علي حرام".
(4)
التحصيل الجزء التحقيقي (2/ 167).
وزيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم، وعمدتهم في ذلك أنَّه كناية عن الطلاق وأدرجوه تحت آية الطلاق ونزَّلوه على أعظم أحواله.
ثانيها: أنَّه في حكم الطلقة الواحدة، وهو منقول عن عبد الله بن مسعود وغيره. وبعضهم قال: إنها طلقة واحدة بائنة، وبعضهم قال: إنها رجعية، وعمدتهم في ذلك أنَّه كناية عن الطلاق وأدرجوه تحت آية الطلاق، ولكن نزلوه على أقل أحواله.
ثالثها: أنَّه يمين تلزم فيه الكفارة وهو منقول عن أبي بكر وعمر وعائشة رضي الله عنهم، وذلك لأنهم تمسكوا بقوله تعالى:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1). نزلت لما حرَّم النَّبِيّ على نفسه مارية القبطية (2) فالله سبحانه وتعالى جعل حكمه حكم اليمين.
رابعها: أنَّه في حكم الظهار، وهو المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما، وذلك لأنه اعتبره كناية عن الظهار وأدرجه تحت قوله:{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (3) الآية.
خامسها: أنَّه ليس بشيء، وهو منقول عن علي رضي الله عنه وعن مسروق (4)، وذلك لأنه من لغو الكلام الذي لا يترتب عليه حكم، لأن المحلل والمحرم هو الله جل شأنه، ولا عبرة بتحريم العبد وتحليله، وشبهوه بمن يحرم على نفسه نوعًا من الطعام.
فكل قول من هذه الأقوال كما يظهر للناظر فيها لم يكن قولًا بالتشهي، ولا نابعًا من هوى النفس، بل كل قولٍ له مستند لو لم يكن غيره لأيقن الناظر فيه أنَّه صحيح فمنشأ الاختلاف بين أقوالهم له ما يبرره، وهو أمر لا مفر منه.
وسبحان الله الذي تنزهت أقواله عن التعارض، وعصمت عن الاختلاف. قال
(1)[التحريم: 2].
(2)
ترجمت لها في الجزء التحقيقي ص (2/ 170).
(3)
[المجادلة: 5].
(4)
ترجمت له في الجزء التحقيقي ص (2/ 167).
تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (1).
ومن ذلك أَيضًا المسألة المشتركة أو المشركة في الفرائض المشهورة، ومن ذلك أيضًا اختلافهم في توريث الجد مع الأخوة (2)، وغير ذلك لا حصر له.
وعلى العموم فقد ذكر محمَّد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية (3) في كتابه إعلام الموقعين (4) نيفًا وثلاثين صحابيًا أُثر عنهم القياس، والذين اشتهروا منهم بذلك تقدم ذكرهم قبل صفحتين. والناظر في فقههم يدرك أن لهم طرقًا في الاستنباط واضحةً، وإن لم يدونوها ويذكروا لها أسماءًا اصطلاحية. فكانت هذه الأسس التي اعتمدوا عليها عبارة عن سليقةٍ سليمة وقريحةٍ وقَّادة وفطنةٍ خارقة ودراية بأهداف التشريع ومرامي الأحكام، ويلمس الناظر في فقههم أنَّهم كانوا يأخذون بعين الاعتبار تحصيل المصالح ودفع المفاسد وسد الذرائع، وغير ذلك من الأسس التي بني عليها الفقه
الإِسلامي الشامخ البناء المتين الأساس.
ومع هذا فقد كانوا رضوان الله عليهم يهابون من القول بآرائهم، خوفًا من أن تزل الأقدام بعد الثبوت، لأن الأمر خطير والخطب جسيم، وكانوا
(1)[النساء: 82].
(2)
الجزء التحقيقي من التحصيل ص (1/ 167).
(3)
هو محمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدِّمشقيّ الحنبلي، المعروف بابن القيم الجوزية شمس الدين أبو عبد الله. ولد بدمشق سنة 691 هـ لازم ابن تيمية وسجن معه في قلعة دمشق، وهو فقيه أصولي مجتهد مفسر متكلم نحوي محدث مشارك في غير ذلك من العلوم، تُوفِّي بدمشق في 13 رجب سنة 751 هـ، مصنفاته كثيرةٌ جدًا، منها: روضة المحبين ونزهة المشتاقين، زاد المعاد في هدي خير العباد، تهذيب سنن أبي داود، الجيوش الإِسلامية على حرب المعطلة والجهمية، وإعلام الموقعين.
له ترجمة في: الدرر الكامنة لابن حجر 3/ 400، النجوم الزاهرة 10/ 249، شذرات الذهب لابن العماد 6/ 168، البدر الطالع للشوكاني 2/ 143، روضات الجنان 205، إيضاح المكنون للبغدادي 1/ 271، هداية العارفين للبغدادي 2/ 158، معجم المؤلفين 9/ 106.
(4)
إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم، مطبوع في مجلدين كبيرين من المطبعة الفنية المتحدة وغيرها.
يحلون القول بالقياس وينزلونه منزلة الميتة للمضطر فلا يقدمون عليه إلَّا بعد نفاذ السبل في الحصول على حكم صريح من كتاب الله أو سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فروى عبد الرَّحْمَن بن مهدي عن حماد بن زيد عن سعيد بن المسيّب عن محمَّد بن سيرين قال: (لم يكن أهيب لما لا يعلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر وعمر. وأنها نزلت بأبي بكر فريضة فلم يجد لها في كتاب الله أصلًا ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرًا. فقال: أقول فيها برأي، فإن يكن صوابًا فمن الله وإن يكن خطأً فمني وأستغفر الله)(1).
وأخرج أبو عبيد في فضائل أبي بكر، وعبد بن حميد عن إبراهيم التَّمِيمِيّ قال:(سئل أبو بكر الصديق عن قوله تعالى: {وأبا} فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم)(2).
وقد ورد عن بعض من أثر عنهم القياس من الصَّحَابَة ذم القياس، وقد اعتنى بنقل هذه الآثار أبو علي محمَّد بن حزم (3) صاحب ملخص إبطال القياس، ونقل طائفةً منها الِإمام الدَّارميّ (4) في سننه (5)، ونقلها أَيضًا ابن
(1) انظر تلخيص الحبير 4/ 195.
(2)
انظر الدر المنثور للسيوطي 6/ 317.
(3)
هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح الأندلسي القرطبي اليزيدي أبو محمَّد، ولد سنة 384 هـ وتوفي سنة 456 هـ. فقيه أديب أصولي محدث حافظ متكلم.
مشارك في النحو واللغة والشعر والتاريخ والمنطق والفلسفة، له مصنفات كثيرة منها المحلى بالآثار والأحكام في أصول الأحكام ترجم له: ابن خلكان 1/ 428، جذوة المقتبس 290، معجم الأدباء لياقوت 12/ 235، تذكرة الحفاظ 3/ 321، البداية والنهاية لابن كثير 2/ 91، تاريخ الحكماء للقفطي 233، لسان الميزان لابن حجر 4/ 198، النجوم الزاهرة 5/ 75، مرآة الجنان 3/ 79، شذرات الذهب لابن العماد 3/ 299، معجم المؤلفين 7/ 16.
(4)
هو عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الفضل بن بهرام بن عبد الصمد التَّمِيمِيّ الدَّارميّ السمرقندي
أبو محمَّد، محدث حافظ مفسر فقيه، له السنن والثلاثيات في الحديث ولد سنة 181 هـ وتوفي سنة 255 هـ، له ترجمة في تهذيب التهذيب 5/ 294، الكامل لابن الأثير 7/ 71، تذكرة الحفاظ للذهبي 2/ 105، شذرات الذهب لابن العماد 2/ 130، النجوم الزاهرة 3/ 22، مفتاح السعادة 2/ 16، هداية العارفين 1/ 441، معجم المؤلفين 6/ 71.
(5)
سنن الدَّارميّ مطبوع في جزءين أكثر في أوله من ذكر آثار ذم القياس عن الصَّحَابَة والتابعين.
عبد البر النمري (1) في كتابه جامع (2) بيان العلم وفضله، فنقلوا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال:(لو كان الدين يؤخذ قياسًا لكان باطن الخف أولى بالمسح من أعلاه)(3). ونقلوا عن ابن عمر رضي الله عنه أنَّه قال: (من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه)(4). ونقلوا عن ابن عباس رضي الله عنه أنَّه قال: (يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ النَّاس رؤساء جهالًا يقيسون الأمور برأيهم)(5). ونقلوا عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّه قال: (السنة ما سنه رسول الله، لا تجعلوا الرأي سنّة المسلمين)(6).
وقد وردت آثارٌ أخرى كثيرة جدًا أَيضًا عن تلاميذهم من كبار التابعين، والتناقض بين فعل الصَّحَابَة رضوان الله عليهم وهذه الأقوال لا يليق بهم أبدًا، فلذا لا مناص من الجمع بين هذه الأقوال وما ورد عنهم من القول بالقياس أن هذه الأقوال محمولة على القياس المذموم، وهو الذي يكون قبل التفتيش والتدقيق عن وجود النص. والقياسِ مع وجود النص باطل عند كل من يعتد بقولهم من علماء الإِسلام وقد صرَح أئمة الفقه بذلك قال الإِمام مالك:(كلٌّ يؤخذ من قوله ويرد عليه إلَّا صاحب هذا القبر). وقال الشَّافعيّ: (إذا خالف رأي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضربوا به عرض الحائط). وقد يكون ذمهم للقياس الفاقد لشرائط القياس أو ما يتعارض مع عمومات الشريعة
(1) يوسف بن عبد الله بن محمَّد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي أبو عمر، ولد بقرطبة سنة 368 هـ، حافظ محدث مؤرخ عارف بالرجال والأنساب مقرئ فقيه نحوي، له: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحرير التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، وجامع بيان العلم وغيرها. له ترجمة في وفيات الأعيان 2/ 458، جذوة المقتبس 344، البداية والنهاية لابن كثير 12/ 104، مرآة الجنان لليافعي 3/ 89، تذكرة الحفاظ للذهبي 3/ 306، معجم المؤلفين 13/ 316.
(2)
جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته ونقله لابن عبد البر، أعظم ما أَلْف في بابه طبع
كثيرًا، منها طبع المنيرية في جزءين.
(3)
انظر القسم التحقيقي في هذا الكتاب ص (2/ 172).
(4)
انظر القسم التحقيقي صفحة رقم (2/ 172).
(5)
انظر القسم التحقيقي صفحة رقم (2/ 172).
(6)
انظر القسم التحقيقي صفحة رقم (2/ 172).
السمحة، ويحمل ما ورد عنهم من العمل بالقياس على القياس الصحيح المتوفر فيه شروط صحة القياس.
وعلى العموم فإن التجرؤ على القول بالقياس بدون الإلمام بما ورد غير محمود، وينبغي الإقدام على ذلك بعد استفراغ الوسع في البحث عن النص، وأن يكون الإقدام مع الحذر الشديد حتَّى لا يُحرم ما أحل الله ولا يُحلل ما حرم الله عصمنا الله من ذلك.
وينبغي أن لا نغفل عن نقطةٍ هامة جدًا يتميز بها اجتهاد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن نجعلها دائمًا أمام عيوننا وفي قلوبنا لنتأسى بهم ونهتدي بهداهم، ألا وهي الرجوع للحق ولو كان مرًا، والتنازل عن آرائهم إذا ظهر الصواب مع غيرهم مهما كانت صفة الذي معه الحق فهذا خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمير المؤمنين، وماذا عساه يستحق من الألقاب لو عاش في هذا الزمان، وماذا عساه يستحق من الألقاب لو عاش في هذا الزمان، وماذا عساه يستحق من الأوسمة والنياشين لو قُدِّر له العيش في هذه الأيام يعتلي المنبر يريد أن يحدد المهور رأفةً وشفقةً بشباب هذه الأمة، وحرصًا على المصلحة العامة واستئصالًا لآفةٍ اجتماعية قد يستشري ضررها لجسم الأمة الإِسلامية، فإذا بامرأة عجوز تنهض من مجلسها وتقول: اتق الله يا عمر، كيف تقول ذلك، والله جل شأنه يقول:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} (1). فينزل عن المنبر حامدًا الله شاكرًا له. ويعلنها صريحة مدوية على مسمع ومرأى من مئات الصَّحَابَة. (أصابت امرأة وأخطأ عمر). وتناقلها التاريخ عبر العصور وبين سطور الكتب لكي نعتبر بها ونتعظ بما نسمع. وهو الذي وقف قبلها على المنبر وخطب النَّاس وقال: (من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقوِّمه). فينهض رجل من ضعفاء الصَّحَابَة فيقول: (والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا). فيرد عليه بقوله: (الحمد لله الذي وجد في المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه). وهو الذي سنّ لقضاته الرجوع إلى الحق حيث يقول
(1)[النساء: 20].
في رسالته لأبي موسى الأَشْعريّ رضي الله عنه: (لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)(1). وكانوا يرجعون للحق لا تأخذهم في ذلك لومة لائم، ويتنازلون عن آرائهم لآراء غيرهم، وقد
صرحوا بذلك كثيرًا في موسوعات الفقه الإِسلامي، فاجتهادهم يختلف عن كثير ممن جاء بعدهم بعصور حيث كانوا يدورون في فلك غيرهم، أو يجهدون أنفسهم في الحصول على الأدلة المؤيدة لمذهبهم ويسوؤهم الإقلاع عن مذهب إمامهم مع وضوح الحق مع غيره وضوح الشمس في رابعة النهار، مع أن الله رزقهم من العلم ما أوصلهم إلى رتبة الاجتهاد فكفروا بالنعمة وأساؤوا استعمالها ولم ينطلقوا من قيودٍ ما أنزل الله بها من سلطان، فالعصمة لله وحده جل شأنه، ثم لرسوله صلى الله عليه وسلم في ما أمره بتبليغه اتفاقًا، ولم تثبت العصمة لبشرٍ بعده ولم يدع من أنزلوهم منزلة المعصومين العصمة لأنفسهم، بل ثبت عنهم رضوان اللهَ عليهم نفي العصمة عن أنفسهم وأجازوا على
أنفسهم الخطأ.
ثم انقرض عهد الصَّحَابَة رضوان الله عليهم وظهر عصر التابعين، وكان من أعظم فقهاء التابعين الحسن البَصْرِيّ وإبراهيم بن يزيد النَّخَعيّ وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزُّبير ومحمَّد بن سيرين وعطاء بن أبي رباح وغيرهم، وكبار التابعين سلكوا مسلك الصَّحَابَة رضوان الله عليهم في استنباط الأحكام
من الكتاب والسنة، والأخذ بما أجمع عليه الصحابة، ثم الاستئناس بأقوالهم وما صدر عنهم من أحكام وكانوا يجلون آراء الصَّحَابَة ويلتزمون بها إذا عرفوها.
فروي عن أبي حنيفة النُّعمان رضي الله عنه أنَّه قال: (وما جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين وما جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال).
ونقل صاحب إعلام الموقعين عن الإِمام الشَّافعيّ رضي الله عنه أنَّه قال عن الصَّحَابَة: (أدوا إلينا سنن رسول الله-صلى الله عليه وسلم، وشاهدوه والوحي ينزل عليه
(1) انظر القسم التحقيقي أول كتاب اّلقياس.
فعلموا ما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم عاماً وخاصاً وعزماً وإرشاداً، وعرفوا من سننه ما عرفناه وجهلناه، وهم فوقنا في كل علمٍ واجتهاد وورعٍ وتقوى وعقل، وآراؤهم لنا أحْمدُ وأولى بنا من آرائنا عند أنفسنا) (1).
وعن الحسن بن عبد الله قال: قلت لِإبراهيم النخعي أكلَّ ما أسمعك تفتي به سمعته فقال: لا. فقلت: تفتي بما لم تسمع. فقال: (سمعت الذي سمعت وجاءني ما لم أسمع فقسته بالذي سمعت)(2). وفي هذه الفترة أيضاً لم تظهر قواعد مدونة للاستنباط يرجع إليها، ومع هذا فالناظر في فقههم يقطع ويجزم أنهم كانوا يُصدرون أحكامَهم عن ضوابط وقواعد تكاد تكون فردية فمثلاً الإمام مالك رضي الله عنه أدخل مصدراً جديداً في التشريع، وهو عمل أهل المدينة وإجماعهم. وكذلك قال بالمصالح المرسلة وكذلك وضع ضوابط لرواية الحديث، وكان أيضًا للإِمام أبي حنيفة رضي الله عنه أصول يستنبط الأحكام بموجبها ولكن لم تجمع وتدون في فصول وأبواب. وخلال هذه الفترة بدأت تلوح في الأفق طريقتان (3) متمايزتان لاستنباط الأحكام، فالأولى تنحو نحو التمسك بظواهر الألفاظ، والوقوف عند ظواهر النصوص وهؤلاء لهم سلف من الصحابة رضوان الله عليهم، وقصة قول الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة رضوان الله عليهم بعد الرجوع للمدينة من غزوة الخندق:"لا يصلين أحد العصر إلَّا في بني قريظة". مشهورة مسطورة في كتب المغازي والسير وكتب الفقه والسنّة. فبعضهم لم يصل العصر إلَّا في بني قريظة عملاً بظاهر النص مع أن الصلاة أدركته في الطرَيق، والبعض الآخر صلى في الطريق لأنه فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم حثهم على الإِسراع في السير، ولما
عرضوا الأمر على الرسول صلى الله عليه وسلم أقر كلا الفريقين فيما فهم وفيما عمل، ولكن
(1) إعلام الموقعين 1/ 92.
(2)
الفقيه والمتفقه 1/ 203.
(3)
انظر: تاريخ التشريع الإِسلامي للخضري ص 133، وما بعدها وانظر تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ عبد اللطيف السبكي وآخرين ص 217، وما بعدها طبع الاستقامة سنة 1946.
وانظر المذاهب الإسلامية لأبي زهرة 2/ 17 وما بعدها.
كان هذا الخلاف عند الصحابة لا يدعو للمشاحنة والقذف بالتُّهم، بل كان يعذر بعضهم بعضاً فيما ذهب إليه. والذين التزموا بهذه الطريقة هم أهل الحجاز تلاميذ عبد الله بن عمر، وعلى رأسهم سعيد بن المسيِّب، وذلك لأن السنة كانت بين أيديهم وفي صدورهم نقيةً صافيةً لم تمتد لها أيدي الوضاعين ولا ألسنتهم، وكانوا على معرفة بسقيمها وصحيحها. وفي الحقيقة أنهم لم يهملوا العقل، لأن العقل السليم لا يتعارض مع النقل الصحيح، ولكن يقفون عند النصوص ولا يلجأون للرأي إلا نادراً. وكان ما عندهم من الآثار كافٍ لما عندهم من الحوادث لقلة ما يحتاجونه من الأحكام لبعدهم
عن مركز الخلافة. وأهل الحديث في الحجاز يختلفون قليلاً عن أهل الحديث في العراق، وهم الذين حدث التصادم بينهم وبين أهل الرأي.
وأما الطريقة الثانية فهي طريقة أهل الرأي وكان هؤلاء في العراق وهم تلاميذ الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي رضي الله عنه، وهؤلاء اهتموا بالبحث عن علل الأحكام اعتقاداً منهم أن أكثر الأحكام الشرعية معقولة المعنى، والمقصود من شرعيتها مصالح العباد. وذكر بعض المؤرخين للتشريع الإِسلامي أن سبب تمسكهم بالرأي أن بضاعتهم كانت في الحديث مزجاة، وهذا الكلام يحتاج إلى برهان ودليل، ولكن الذي يظهر لي أن سبب تمسكهم بالرأي أن المشرق كان مركزاً لوضاعي الحديث، نظراً لظهور الفرق الإسلامية الكثيرة بعد التحكيم، وعلى رأسهم الشيعة.
ثم هؤلاء تفرقوا إلى شيع وأحزابٍ سخرت من يضع الحديث تأييداً لأرائهم وتقويةً لمذهبهم، زد على ذلك ظهور جماعة من السذج، أخذوا يضعون الأحاديث على زعمهم حسبةً لله ترغيباً للناس في الإِقبال على قراءة القرآن وغير ذلك من الأذكار، وقالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: "من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار". ولم يقل: "من كذب لي". ولما كثر الوضع في الحديث تعسر عليهم معرفة السقيم من الصحيح بسهولة، وهذا السبب نفسه هو الذي أدى إلى ظهور صيارفة للحديث في المشرق لم تشهد الدنيا من يضارعهم أو يدانيهم حتى في جميع أرجاء الدولة الإِسلامية على
وجه العموم والحجاز على وجه الخصوص، فمن الذي يقارب محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج وأبا داود والترمذي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة السنة، ولا يوجد في الحجاز من يقارب هؤلاء إلَّا مالك بن أنس رحمه الله. وكان من أشهر تلاميذ ابن مسعود علقمة وإبراهيم والنخعي - رحمهما الله -. وكان من دوافع انتشار الرأي وجود الخلافة في بغداد التي نتج عنها كثرة الحوادث التي في حاجة إلى أحكام متجددة باستمرار، وظهور طريقتين للاستنباط بينهما تغاير طفيف لا غبار عليه، لأن طبيعة الاجتهاد يؤدي لذلك وقد حدث بين الصحابة ما يماثل
ذلك، كما مثلنا له باختلافهم في فهم لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بالصلاة
في بني قريظة.
ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل احتدم النزاع بين الفريقين، فأسرف كل فريق في الطعن على الآخر. فعاب أهل الرأي على أهل الحديث الجمود عند ظواهر النصوص وعدم التدبر وإشغال الفكر في الاستنباط.
وكان أهل الحديث (1) يعيبون على أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن ويحكمون العقل في الدين، ولكن كما يبدو أن كفة أهل الرأي كانت راجحة وطعنهم على أهل الحديث كان شديداً لأن السلطان كان معهم، ولأنهم أقدر على الحجاج واللجاج.
قال الإِمام الرازي: (أما أصحاب الحديث فكانوا حافظين لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل وكلما أورد عليهم أحد من أصحاب الرسول سؤالًا أو إشكالًا أُسقط في أيديهم عاجزين)(2). وظهر متعصبون لكلا المدرستين واتسع الخلاف وزادت الشقة واحتدم النزاع وأخذ كل فريق ينتصر لمذهبه ولطريقة شيخه.
(1) تاريخ التشريع الإسلامي للخضري ص 146.
(2)
مناقب الإِمام الشافعي لفخر الدين الرازي ص 21.