المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علومه ومنزلته بين العلماء - التحصيل من المحصول - جـ ١

[السراج الأرموي]

فهرس الكتاب

- ‌ترجَمَة المؤلّف

- ‌نَسَبهُ وَمَولدهُ وَنشْأته

- ‌رحْلَاته في طَلَب العِلْم وَالوَظائِفُ الّتي شَغَلَهَا

- ‌عُلومُه وَمَنزلَتُهُ بَيَن العُلَماء

- ‌وَفَاتُهُ

- ‌شيوُخه

- ‌تَلاميذهُ

- ‌مؤَلَّفَاتُ القَاضي سِرَاجِ الدّين الأَرمَوي بوَجهٍ عَام

- ‌1 - مطالع الأنوار في المنطق والحكمة

- ‌2 - شرح الإِشارات والتنبيهات في المنطق والحكمة

- ‌3 - بيان الحق في المنطق والحكمة ذكره صاحب كشف الظنون

- ‌من اشتغل بالمحصول للإِمام فخر الدين الرَّازيّ بالشرح أو الاختصار

- ‌ الكتاب

- ‌تنبيهات

- ‌كتَابُ التّحْصِيل وعَدَدُ نُسُخهَ الموَجُوَدَة وَمَكان وُجُودهَا وَصفَتها

- ‌عَلَاقة كِتَاب التَّحْصِيل بِمَا تقدّم عَلَيْه منْ كتُب الأصُول

- ‌1 - التشريع قبل تدوين علم أصول الفقه

- ‌2 - الشافعي واضع علم الأصول

- ‌3 - علم الأصول في القرنين الثالث والرابع الهجريين ومن ورد ذكره في التحصيل من أصولي هذين القرنين

- ‌4 - علم الأصول في القرنين الخامس والسادس الهجريين وذكر من وردت آراؤهم في كتاب التحصيل من الأصوليين

- ‌الكتُبُ الّتي تأثّرَت بالتّحصِيل

- ‌مَسْلَكُ القَاضِي سِرَاج الدّين الأَرمَويّ في الاخِتِصَار وَمَدَى إلتزامه بآراء الإِمَام فخر الدّين الرّازي

- ‌ الخاتمة

- ‌مراجع القِسم الدّراسي

- ‌المراجع غير العربيّة

- ‌الكَلَام في المقَدِّمَات

- ‌المقدمة الأولى

- ‌(المقدمة) الثانية

- ‌تنبيهان

- ‌(المقدمة) الثالثة

- ‌(المقدمة) الرابعة

- ‌التقسيم الأول:

- ‌ التقسيم الثاني

- ‌(التقسيم) الثالث

- ‌(التقسيم) الرابع

- ‌(التقسيم) الخامس

- ‌(التقسيم) السادس

- ‌(المقدمة) الخامسة

- ‌(المقدمة) السادسة

- ‌الكَلَام في اللّغَات

- ‌الفصل الأول في أحكامها الكلية

- ‌ المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌المسألة الرابعة

- ‌المسألة الخامسة

- ‌ الفصل الثاني" في تقسيم الألفاظ

- ‌ الفصل الثالث" في الأسماء المشتقة

- ‌المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ الفصل الرابع" في الترادف والتوكيد

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ الفصل الخامس" في الاشتراك

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ الفصل السادس" في الحقيقة والمجاز

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ المسألة الثامنة

- ‌ المسألة التاسعة

- ‌ المسألة العاشرة

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ المسألة الثامنة

- ‌ المسألة التاسعة

- ‌ المسألة العاشرة

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ الفصل التاسع"" في كيفية الاستدلال بالخطاب

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثَّانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌الكلَام في الأوامِر وَالنّواهي

- ‌ الفصل الأول"في المقدمات

- ‌ المقدمة الأولى

- ‌ المقدمة الثَّانية

- ‌ المقدمة الثالثة

- ‌ المقدمة الرابعة

- ‌ المقدمة الخامسة

- ‌ المقدمة السادسة

- ‌ المقدمة السابعة

- ‌ الفصل الثاني"في المباحث اللفظية

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثَّانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ المسألة الثامنة

- ‌ المسألة التاسعة

- ‌ المسألة العاشرة

- ‌ الفصل الثالث " في المباحث المعنوية

- ‌ النظر الأول

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ النظر الثاني " في أحكام الوجوب وفيه مسائل

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ النظر الثالث " في المأمور به وفيه مسائل

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ الفصل الرابع " في المناهي

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌الكَلَام في العُمُوم وَالخصُوص

- ‌ الفصل الأول " في ألفاظ العموم

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ المسألة الثامنة

- ‌ المسألة التاسعة

- ‌ المسألة العاشرة

- ‌ المسألة الحادية عشرة

- ‌ المسألة الثانية عشرة

- ‌ المسألة الثالثة عشرة

- ‌ المسألة الرابعة عشرة

- ‌ المسألة الخامسة عشرة

- ‌ المسألة السادسة عشرة

- ‌ المسألة السابعة عشرة

- ‌ الفصل الثاني " في الخصوص

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ المسألة الثامنة

- ‌ الفصل الثالث" في مخصص العام المتصل به

- ‌الأول: الاستثناء

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌الثاني الشرط:

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ الثالث "الغاية:

- ‌ الرابع"الصفة:

- ‌ الفصل الرابع " في مخصص العام المنفصل

- ‌الأول: العقل

- ‌الثاني: الحس

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ الفصل الخامس" في بناء العام على الخاص

- ‌ الحالة الأولى: أن يعلم تقارنهما

- ‌ الحالة الثانية: أن يعلم تأخر الخاص

- ‌ الحالة الثالثة: أن يعلم تأخير العام

- ‌ الحالة الرابعة: أن لا يعلم التاريخ

- ‌ الفصل السادس" فيما يظن أنه من المخصصات

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ المسألة الثامنة

- ‌ المسألة التاسعة

- ‌ المسألة العاشرة

- ‌ الفصل السابع " في حمل المطلق على المقيد لا يحمل عليه إن اختلف حكمهما وإن تماثل حكمهما

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌الكلام فى المُجمَل والمبَيَّن

- ‌المقدمة في تفسير ألفاظٍ أطلقت في هذا الباب

- ‌ الفصل الأول" في المجمل

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ المسألة السابعة

- ‌ الفصل الثاني" في المبيَّن

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

- ‌ المسألة الخامسة

- ‌ المسألة السادسة

- ‌ الفصل الثالث " في وقت البيان

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌ الفصل الرابع" في المبيَّن

- ‌ المسألة الأولى

- ‌ المسألة الثانية

- ‌الكَلَام في الأَفعَال

- ‌ المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌ المسألة الثالثة

- ‌ المسألة الرابعة

الفصل: ‌علومه ومنزلته بين العلماء

ثم لا ندري متى رجع إلى قونية للاستقرار فيها، إلَّا أن كاتب مقدمة كتابه لطائف الحكمة قد- ذكر أن لطائف الحكمة قد صنفه القاضي سراج الدين الأرموي باسم سلطان السلاجقة في قونية والذي دخل في خدمته سراج الدين الأرموي عام 655 هـ، وبعد ذلك استقر في قونية عاصمة سلاطين بني سلجوق واشتغل فيها قاضياً ثم قاضياً للقضاة، وكذلك مدرساً حيث عرفنا اثنين فقط من تلاميذه في بلاد الروم وهما: الصفي الهندي محمد بن عبد الرحيم الهندي المتوفى سنة 715 هـ، والشيخ تاج الدين الكردي ولم نعثر على أسماء تلاميذ له آخرين في كتب التراجم. وبقي في مدينة قونية حتى انتقل إلى رحمة ربه راضياً مرضياً.

وعلى العموم يظهر لنا أن الأرموي- رحمه الله قد قضى صدر حياته طالباً للعلم في بلده ثم في الموصل. وبلغ من العلم أوجه حتى حظي بالمنازل الرفيعة عند السلاطين والحكام فبدأ حياته العملية مدرساً في ملطية، ثم سفيراً للملك الصالح نجم الدين أيوب عند الانبراطور، ثم انتظم في سلك القضاء مع المواظبة على مهنة التعليم، فبلغ من القضاء منصب قاضي القضاة وهو أعلى منصب علمي في ذلك الزمان، فكان في ذلك مثال النزاهة والذكاء والفطنة، ومع هذا لم يكن ليغفل مع تزاحم الأعمال عليه الاتصال بأقرانه، فكان يتردد على جلال الدين الرومي ويشارك في شؤون المسلمين العامة ويهتم بأمورهم.

‌عُلومُه وَمَنزلَتُهُ بَيَن العُلَماء

ذكر المترجمون لحياة القاضي سرج الدين الأرموي-رحمه الله تعالى- أنه برع في عدة فنون، وأجاد في أخرى. ولهذا، فالقاضي الأرموي لم يختص بنوع واحدٍ من الفنون بل كان موسوعة علمية متحركة. ويدل على ذلك مصنفاته العظيمة التي لازالت تتلألأ ناصعة نقية تكشف لنا عن دقةِ

= المصنفات سالم مولى أبي حذيفة بدل صهيب. وانظر أيضاً أسنى المطالب للحوت البيروتي ص 244.

ص: 27

فهمه ورجاحةِ عقله. ولذا سيكون الكلام عن علومه موزعاً على شتى العلوم التي برع فيها وخاض غمارها. فالقاضي الأرموي- رحمه الله: منطقي حكيم جدلي أصولي فقيه، متكلم شاعر مفسر ولذلك سنقسم الحديث عن علومه إلى خمسة أقسام:

1 -

القاضي سراج الدين الأرموي المنطقي الحكيم الجدلي:

عاش القاضي الأرموي في عصرٍ غلبت عليه العلوم العقلية وخاصة في بلاد المشرق، فلذا كان لابد له أن يتسلح بسلاح العلم بها. وقد قامت طائفة أخرى في نفس العصر تعادي هذه العلوم وترمي أهلها بالزيغ والضلال والانحراف، ولذا قال الناظم يصف رأي علماء عصره في المنطق بقوله:

ابن الصلاح والنواوي حرما

وقال قوم ينبغي أن يعلما

وفعلاً رمي جهابذة علماء ذلك العصر بالانحراف لغلبة العلوم العقلية عليهم وكانوا ينسبون من تكلم بتلك العلوم إلى فساد الاعتقاد، وقد رمي فيمن رمي بذلك علامة الموصل وشيخ القاضي الأرموي كمال الدين موسى بن يونس- رحمه الله قال الناظم:

وأعطيته صهباء من فيه مزجها

كرقة شعري أو كدين ابن يونس

وكان بعض الأفاضل يطلبون هذه العلوم سراً خوفاً من أن يظن فيهم العوام فساد الاعتقاد، ويقذفونهم بما يطعن في دينهم. ومن ذلك ما حدث لعلّامة الحديث في ذلك العصر عثمان أبي عمرو بن الصلاح الشهرزوري، حيث حاول سراً دراسة علم المنطق على الشيخ كمال الدين بن يونس، ولكنه

أظلم قلبه فلم يفتح الله عليه بشيء ونصحه العلاّمة كمال الدين بن يونس بعدم دراسة هذا الفن لكي لا تفسد عقائد الناس فيه.

ومع هذا فإن القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله لم أجد لفظةً واحدةً من الغمز أو اللمز أو الطعن في دينه لا من أقرانه ولا من مخالفيه في

ص: 28

المسلك، فقد عاش- رحمه الله موفور العرض مصون الجانب رغم تعدد الاتجاهات وكثرة النزعات في عصره، بل وصفوه بأسمى ألفاظ الثناء والفضل، وأعلى درجات العلم مما يدل على سمو علمه وخلقه.

والقاضي الأرموي أجاد في هذه الفنون العقلية الثلاثة: المنطق والحكمة والجدل، وصنف فيها أنفع المصنفات، وقد بلغ في ذلك الذروة، وحاز قصب السبق، حتى أصبح يشار لمؤلفاته بالبنان. فإذا ذكر علم المنطق تبادر للذهن مطالع الأنوار الذي تلقته العلماء بالشرح والتعليق بما لم يحدث لكتاب آخر كما سنوضح ذلك في فصل مصنفاته. وإذا ذكرت الحكمة تبادر للذهن لطائف الحكمة ذلك الكتاب العظيم الذي وضعه باللغة الفارسية وطبع بها. وإذا ذكر الجدل تبادر للذهن رسائله في هذا الفن وكتابه تهذيب النكت للشيرازي.

ولم يكتفِ بمصنف واحد في كل فن، بل صنف عدة مصنفات ففي المنطق والحكمة بالِإضافة إلى مطالع الأنوار فقد صنف بيان الحق في المنطق والحكمة، وشرح الِإشارات والتنبيهات لابن سينا، والمناهج في

المنطق والحكمة، ولطائف الحكمة، ولعله يوجد أيضاً ما لم يصل علمنا إليه.

وهذه الكتب تعطينا فكرةً صادقةً عن مدى تمكن القاضي الأرموي من العلوم العقلية على العموم، فقد كان فارس حلبتها وخبير خباياها وعويصات مسائلها وحلَاّل عقدها وغوامضها. فلا مبالغة إن قلنا: إنه تربع على عرش هذه الفنون، وفاق من قبله ووقف من بعده دونه وعاش عالةً عليه. يرتوي من نبعه ويأكل من ثماره، ويحاكيه فيما ذهب إليه.

2 -

القاضي سراج الدين الأرموي الأصولي:

لقد كانت طريقة المتكلمين في فن الأصول هي السائدة في هذا العصر - القرن السابع الهجري- وقد غلب على مصنفات الأصول طابع الاختصار والشرح والتعليق على مصنفات قد تقدمت، وكان صنيع القاضي الأرموي

ص: 29

- رحمه الله متناسباً مع ما ساد في ذلك القرن فشارك وأدلى بدلوه مع من أدلى، ولقد انتهى علم الأصول في القرن السادس إلى كتاب المحصول لفخر الدين الرازي، والِإحكام لسيف الدين الآمدي، وقد حظي كتاب المحصول بما لم يحظ به كتاب سيف الدين الأمدي من الشرح والتعليق.

والقاضي الأرموي الحاذق لفن المنطق والحكمة المجيد لعلم الكلام خير من تمتد يده إلى المحصول، ولذا فقد كان مختصراً متميزاً عن غيره من المختصرات، بأنه التزم منهجاً رسمه في صدر كتابه مقيداً بقوانين وضوابط، تدل على الدقة في الفهم والبراعة في التصنيف والترتيب والتقسيم إلى أبواب وفصول ومسائل وفروع، وكان يبدي من الملاحظات ما يدل على علو كعبه ورسوخ قدمه فيِ فن الأصول، ولذا فاق مختصره المحصول سائر المختصرات تنظيماً وترتيباً وتنبيهاً على مشكلاتٍ، وحلاً لعويصات ودفعاً لإيهام قد يرد على بعض الأدلة والحدود. وأسئلته الواردة فيه تشهد له بذلك.

لم يكتف القاضي الأرموي بهذا الكتاب الذي اشتهر به كأصولي، بل وجدت له كتاباً آخر لا يشعر اسمه في فهارس المكتبات بحاله ولا ينبئ عما فيه، فالعنوان لا يناسب المحتوى، فقد سموه في الفهارس بأسئلة القاضي الأرموي على المحصول، فيتبادر للذهن أن المقصود هو الأسئلة التي أوردها القاضي سراج الدين الأرموي داخل التحصيل، ولكن الواقع والحال بعد أن نظرتها، وجدت أن البون شاسع والفارق عظيم والذي وجدته شرح للمحصول، ولكن الموجود في دار الكتب المصرية ليس مستوعباً لجميع المحصول وقد سماه القاضي الأرموي في بدايته:(مقاصد العقول من معاقد المحصول) وهو كتاب عظيم فصلت التعريف به في مصنفاته.

وقد ساهم في هذا الفن أيضاً برسالةٍ في أمثلة التعارض في أصول الفقه، وقد حررت ما تحتويه في مصنفاته، وذكرت أنها ليست شاملة لجميع أمثلة التعارض، بل هي في عشر مسائل في دلالات الألفاظ فقط.

فالقاضي الأرموي- رحمه الله بما قدم للمكتبة الِإسلامية في هذا الفن استحق أن يوسم بالانتساب لعلمائه، وأن يجلس معهم جنباً إلى جنب،

ص: 30

مع أنه تربع على كرسي الصدارة في علم المنطق والحكمة.

3 -

القاضي سراج الدين الأرموي الفقيه قاضي القضاة:

كثير من العلماء يرتقون من المجد أعلاه ويصلون من العلم منتهاه، ولكن لم يخلِّفوا لمن بعدهم علماً مدوناً مكتوباً، لأنهم لا يريدون شهرة، أو قد يكون لأسباب أخرى. فالقاضي الأرموي- رحمه الله قد وصل لرتبة قاضي القضاة في دولة بني سلجوق. وهذه المرتبة لا يصلها أحد وفي زمانه من يدانيه علماً، فضلاً عن أن يفوقه والقضاء ينبع من الفقه ويسانده الذكاء والفطنة، وتؤيده العزيمة وقوة الشخصية، فكلِ ذلك اتصف به القاضي الأرموي ومع هذا لم يذكر المترجمون له إلَّا كتاباً واحداً في فروع الفقه وهو شرح الوجيز.

فقد جرت عادة الأفذاذ أن لا ترضى إلا بمصافحة الأفذاذ، فبعد أن مدَّ القاضي الأرموي يده ليصافح فخر الدين الرازي علَّامة عصره من خلال اختصار المحصول، فيحدث له بذلك اقتران اسمه باسمه، ويندرج ذكره مع ذكره، فنجد يد القاضي الأرموي- رحمه الله تمتد لمصافحة حجة الِإسلام وحيد زمانه وفريد عصره وأوانه، فيضع ظلال قلمه في جملة من وضع على معجزته التي تبارى العلماء في شرحها واختصارها والتعليق عليها، وذلك هو كتابه الوجيز الذي سارت بذكره الركبان، وأصبح عمدة في فروع مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه فشرحه شرحاً لم نطلع عليه، ولكن شخصية

القاضي سراج الدين الأرموي ووصوله إلى منصب قاضي القضاة ينبئ عن عظيم فائدته، وليس ما في شرح الوجيز هو كل فقه القاضي الأرموي بل في أحكامه إبَّان مهنة القضاء الذي تولاه ما يقارب الثلاثين عاماً ما قد يكون أضعاف شرحه للوجيز. ولذا نجد معظم من ترجم له وصف بالاجتهاد،

ومرتبة الاجتهاد، مرتبة عزيزة لم يصل إليها إلا أفذاذ العلماء.

4 -

القاضي سراج الدين الأرموي المفسر والشاعر:

لم يذكر من ترجم للقاضي الأرموي تراثاً له في التفسير، ولكن وصفوه

ص: 31

بأنه عالم بالتفسير (1)، وفي الحقيقة فإن علوم الشريعة حلقات متداخلة، فلا يكون فقيهاً من لم يكن عالماً بالتفسير، فليس في وصفه بالمفسر مع عدم ذكر إنتاجٍ له في ذلك مخالفة، فقد يكون له إنتاج ولكن لم يصل إلينا، وقد تكشف الأيام ما لم نره اليوم وتخبرنا عما لا نعلمه الآن.

وأما كونه شاعراً مع عدم ذكر شيء من شعره فلا غرابة فيه، لأنه قد نقل ذلك مشاهد أعيان ورفيق زمانه أحمد الأفلاكي (2)، الذي يقول: سمعته يقول شعراً في رثاء جلال الدين الرومي وقت دفنه على تبره، ولعل البحث والتنقيب سيكشف لنا عن شيء من شعره، وهل كان باللغة العربية أم الفارسية أم التركية.

5 -

القاضي سراج الدين الأرموي المتكلم:

قد ظهرت شخصية القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله كمتكلم من خلال كتاب التحصيل، فيما تعرض له من مسائل على سبيل التبع والارتباط بينها، وبين بعض مسائل أصول الفقه، وهي كثيرة في كتابه التحصيل ومنها: التحسين والتقبيح العقليان، وعصمة الأنبياء، وشكر المنعم عقلاً وشرعاً، والصفة هل هي ذات الموصوف أم غيره وتكليف ما لا يطاق، وغير ذلك من المسائل. وأظهر في كل ذلك قدرة فائقةً في بحث هذ المسائل ونقاش أدلة المذاهب وخاصة المعتزلة، وأظهر احترازاً شديداً من قاعدتهم المشهورة التحسين والتقبيح العقليين حيث أدخل كلمة شرعاً في جميع حدود الأحكام الشرعية الخمسة.

وقد صنف في ذلك كتباً مستقلة، ومن ذلك مختصره لكتاب الأربعين للإمام فخر الدين الرازي المتمكن من ناصية علم الكلام في عصره، وقد بلغ فيه الذروة وسماه اللباب، وهو أيضاً من أمهات الكتب في هذا الفن.

والأرموي في صنيعه هذا كأنه يأبى إلَّا أن تمتد يده إلا للأمهات، ويرفض أن يقارن إلَّا العظماء فكما سبق له أن امتدت يده ليضع ظلال قلمه على

(1) مقدمة لطائف الحكمة.

(2)

مناقب العارفين 1/ 354.

ص: 32

صفحات الوجيز، فيعانق بذلك حجة الِإسلام، فقد مدَّ يده ليصافح ابن سينا علامة زمانه وفيلسوف عصره، فيضع شرحاً للِإشارات التي تعتبر من عيون كتب المنطق والحكمة، وقد شارك فقهاء الشافعية في اختصار الوجيز، ليقف بذلك في صف حجة الإسلام الغزالي، وهنا كذلك يسيل مداد قلمه ليسطر

لنا مختصراً من أعظم المختصرات لكتاب الأربعين الشهير في أصول الدين، ولم يكتف بذلك فقد وجدت له رسالةً في "الفرق بين موضوع العلم الإلهي والكلامي" في مكتبة الحرم المكي حرسه الله. وقد أجاد في كل ما كتب في هذا الفن لارتباطه بفنه الذي فاق فيه الأقران، وهو علم المنطق والحكمة، فكان بذلك متكلماً مناظراً ومجادلًا، يحسب له الحساب في بلاط بني سلجوق.

هذه هي العلوم التي برع فيها القاضي سراج الدين الأرموي، وتراثه العلمي الضخم يدل بالبرهان ويقيم الحجة على صحة الدعوى، ويشهد له بالفضل وحيازة قصب السبق في كل مضمار. وقد أحسن العلّامة محمود بن محمد الأقسرائي المتوفى سنة 723 هـ، والذي عاش في عصره فترة من

الزمن في كتابه "مسامرة الأخبار ومسايرة الأخيار" المطبوع باللغة الفارسية بأنقرة سنة 1944 م. حيث يقول عن سراج الدين الأرموي في فصل وفيات الأكابر صفحة 121 ما معناه: (كان سراج الدين الأرموي علماً للعالم وبحر الفضائل وشمس سماء الشريعة ومركز محيط الحقيقة والطريقة. فقد سلب من علماء العالم قصب السبق في المعقول والمنقول، وكان أفاضل الدنيا يأتون من الأطراف والأكناف بقصد الاستفادة من مجلسه. وكانوا يجتمعون جميعاً حول ملك قونية مثل كوكب "بروين" (ويتفرقون مثل بنات نعش).

وقد سارت بذكره الركبان في حياته من مقارنيه فعطروا كتبهم بذكره الجميل، وسطرت أقلامهم له أنصع الصفحات وأحلى الذكريات، وقلما أن يُفعل ذلك لِإنسان في حياته وليس له صولة السلطان ولا جبروت الحاكم فيكون ما كتب عنه رياءً ونفاقاً وخوفاً وتزلفاً، بل الخلق القويم والفضل العميم والعلم الغزير ينطق الأقلام فتتكلم، ويوحي لها فترسم ما تكنه له

ص: 33

القلوب وما تلمسه مما ترى وتسمع، فتسجل طائعة مختارة عين الحقيقة.

وهذا هو الحسين بن محمد بن علي الجعفري الرودكي الشهير بابن بي بي المتوفى قبل الأرموي سنة 679 هـ، ينطق كتابه بالصدق ويظهر الحق ويدون الذكرى الحميدة التي نظرها بعينه ووعاها بقلبه، فيسطر ما شاء الله له أن يسطر من الفضائل، ويذكر مركز الأرموي بين علماء زمانه في شتى العلوم

والفنون على صفحات كتابه الشهير. الأوامر العلائية في الأمور العلائية المطبوع باللغة الفارسية صفحة 700، 701، واكتفى بذكر الألقاب التي أوردها له خوفاً من التطويل، وليتناسب المقال مع المقام. فيقول المصنف في فصل حادثة جمرى القرماني في التعريف بالقاضي سراج الدين الأرموي:

قاضي القضاة ملك العلماء، سلطان الأئمة، قدوة الأمة، شُرَيْح الزمان، سراج الملة والدين، حجة الإسلام والمسلمين، أبو الملوك والسلاطين، أبو الثناء محمود الأرموي أدام الله علاه، وأطال بقاه، فريد دهره ووحيد عصره، حاز قصب السبق على العلماء الأوائل والحكماء الأفاضل وزعيم المحافل، يشار له بالبنان في جملة فنون لاسيما الأصولين (1):(والمنطق والفقه والخلاف واقتبس من مصنفاته واستفاد الأعاظم والأماثل والأماجد). انتهى مترجماً.

أوردت هذه النقول من كتب أقرانه ومعاصريه، ليعلم الناظر أنني لم أبالغ فيما وصفته به، وما ذكرته من علماء الجم، وفضله العميم فهؤلاء عاصروه وقارنوه، فوصفوه بشُرَيْح الزمان في القضاء وبشمس السماء في العلوم والعهدة عليهم، ولكن دليلهم قائم والآثار شاهدة.

ومنزلته بين العلماء لم تبرز بشهادة معاصريه فحسب، بل في منزلته عند عظماء حكام الأمة الإسلامية آنذاك بني أيوب، الذين فرجوا الكروب وكسروا الصليب وهزموا آله وأعادوا للمسلمين عزهم ومجدهم التليد، وتحطمت على سواعدهم الفتية أطماع الطغاة، الذين لا زالوا يكيدون للإسلام وأهله وإن تغير السلاح وتبدل الأسلوب، فقد كان سفيراً للملك

(1) اعتاد العلماء أن يطلقوا على علمي أصول الدين وأصول الفقه الأصلين".

ص: 34

الصالح نجم الدين وهو في عنفوان شبابه، فيمثله في لقاء إمبراطور الروم على ما ذكر صديقه وقرينه جمال الدين محمد بن سالم بن واصل الحموي في كتابه مفرج الكروب.

ثم يجلس في حلقات الملوك والعلماء للمناظرة والنقاش والاستفتاء برفقة سلطان علماء زمانه بل سلطان علماء المسلمين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، عز الدين بن عبد السلام قدَّس الله روحه وأعلى درجاته في الجنة، وذلك في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة سنة 647 هـ في ردهات قصر آخر ملوك بني أيوب في القاهرة الملك المعظم السلطان غياث الدين توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل، فيدلي برأيه غير خافتٍ ولا متروك، وروى لنا ذلك شاهد عيان حاضر ذلك المجلس فلا ريبة ولا شك في صحة ما نقل.

وأما شأنه في قصور سلاجقة الروم فهو ليس أدنى من ذلك ولا أقل، وقد أوردنا فيما مضى من شأنه في ذلك من المواقف والحوادث، وما يبهر العقل ويثير في النفس العجب. وهناك سؤال يفرض نفسه على كل ناظر في ترجمة القاضي سراج الدين الأرموي هذه، وهو كيف تكون سيرة هذا العالم بهذا الشكل العظيم، ونحن معاشر العلماء لا نكاد نسمع إلَّا باسمه؟ ولا نعرف من شأنه وحاله إلا اختصاره للمحصول؟ والجواب على هذه الصفحات مسطور وخزانات الكتب بآثاره تقول: كم من عالم اليوم مغمور الذكر أصبح نسياً منسياً، وكان قد ارتقى أعلى المنابر، وتصدر أكبر المحافل وجالس أعظم الأماثل، ثم يأتي زمان فترفع الستائر، وتنقشع الحجب عن دُرٍّ مستور، ويتبدد السحاب عن شمس صافية وينفض الغبار المتراكم عن رفوف الكتب، فيظهر الحق ويزهق الباطل، إن الباطلَ كان زهوقاً.

فهذه منزلة القاضي سراج الدين الأرموي- رحمه الله بين علماء زمانه ومنها تظهر منزلته بين علماء المسلمين جميعاً، قد أقمنا عليها الأدلة وأحضرنا لها الشهادات من بطون الكتب ليس ما دوِّن منها بالعربية فحسب، بل ما دوِّن باللغتين الفارسية والتركية أيضاً، ولعل المستقبل يكشف لنا عن المزيد.

ص: 35