الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَسْلَكُ القَاضِي سِرَاج الدّين الأَرمَويّ في الاخِتِصَار وَمَدَى إلتزامه بآراء الإِمَام فخر الدّين الرّازي
لقد بيَّن القاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي في صدر كتابه التحصيل الدافع الذي دفعه إلى اختصار المحصول، وبيّن منهجه الذي رسمه لنفسه ليسير عليه بياناً شافياً حيث قال:
(لقد كانت الهِمم فيما قبل لا تقصر عن الارتقاء إلى المراتب القاصية، ولا تفتر دون الوصول إلى المراتب العالية، والآن فقد أفضى الحال بالأُمم في تقصير الهِمم إلى أن استكثروا اليسير، واستكبروا النذر الحقير، حتى أن الكتاب الذي صنّفه الإِمام العالم العلّامة فخر الملة والدين، حجة الإِسلام
والمسلمين، ناصر الحق مغيث الخلق محمد بن عمر الرازي، نوَّر الله ضريحه، في أُصول الفقه وسمّاه بالمحصول، مع نظافة نظمه ولطافة حجمه، يستكثره أكثرهم ولا يقبل عليه أيسرهم. على أنه يشتمل من الفوائد على جملٍ كافية، ويحتوي من الفرائد على قوانين متوافية، ثم إن بعض مَن صدقت فيه رغبته وتكاملت فيما يحتويه محبته التمس مني أن أُسهّل طريق حفظه بإيجاز لفظه ملتزماً بالإِتيان بأنواع مسائله، وفنون دلائله، مع زياداتٍ من قبلنا مكملة، وتنبيهات على مواضع منه مشكلة، لا على سبيل استيفاء الفكر واستكمال النظر لإِخلاله بالمقصود من هذا المختصر، وأجبته إليه مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، وسمّيته بتحصيل الأُصول من كتاب المحصول ليتوافق اسمه ويتطابق لفظه ومعناه. والله وليّ التوفيق والمعين وعليه أتوكل وبه أستعين).
بهذه الكمات بيَّن الإِمام سراج الدين الأرموي رحمه الله منهجه، وأُسسه التي شرع يختصر كتاب المحصول بموجبها، وفعلاً فقد التزم بالمنهج الذي وضعه، وسار على الخطة التي رسمها، فلم يكد يفارقها. وقد تتبعت التحصيل مع المحصول كلمة كلمة وفقرة فقرة ومسألة مسألة فما وجدته خرج
عن منهجه.
ومسلك القاضي الأرموي هذا في الاختصار هو المنهج القويم لأي
مختصر، فالاختصار هو ضغط المعنى في ألفاظ أقل مع عدم التصرّف في الآراء المنقولة في الكتاب، إلَّا على سبيل التنبيه مع إظهار أن ما أدخل ليس من الأصل. والأرموي رحمه الله كان إذا ما عنَّ له تدوين ملاحظة ابتدأها بقوله:(ولقائلٍ أن يقول) تمييزاً لها عن ما ورد في الكتاب، وعبارته هذه تدل
على ذوق سليم وأدب رفيع كان يتحلى به القاضي سراج الدين الأرموي، حيث أنه ينسب الملاحظة أو الاستدراك لمجهول تواضعاً منه، ووأداً لغريزة حب الظهور لأن العلم لا يتعلم ليُمارى به العلماء، ولا ليُقال فلان أعلم من فلان، فروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَن طلب العلم ليباهي به العلماء أو ليُماري به السفهاء وليصرف وجوه
الناس إليه فهو في النار". ورواه أيضاً عن ابن دريك بلفظ: "مَن طلب العلم لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار".
وما نبّه عليه القاضي الأرموي رحمه الله لم يكن كله اعتراضاً وردّاً لما ذهب إليه الإِمام محمد بن عمر الرازي رحمه الله، بل وجدته بعد التقصّي له في كتابه أن أغلبه كان تنبيهاتٍ على أدلةٍ ضعيفةٍ لا تقف أمام مناظرات الخصوم، ويوجد ما هو أقوى منها، فيسدّ بالتنبيه على ذلك ثغرة قد
تنفتح على دليل الإِمام الرازي أو خلل قد ينفذ للاستدلال به، وقد أحصيت هذه التنبيهات والاعتراضات فوجدتها نيِّفاً وثمانين، جمعها أحد النسّاخ أيضاً في آخر إحدى مخطوطات التحصيل بعد أن نسخها. والمخطوطة هذه محفوظة برقم 444 في مكتبة وليّ الدين جار الله أفندي الملحقة بالمكتبة
السليمانية بإستنبول بتركيا.
وقد تصدى لبيان معظم هذه التنبيهات والاعتراضات الإِمام بدر الدين محمد بن أسعد التستري المتوفى سنة 732 هـ في كتابه حل عُقَد التحصيل، فكان غالباً يقرّها، وكان في بعض الأحيان يبيِّن عدم وجاهتها وعدم رضائه بها. وقد أفردها بمصنف مستقل محمد بن يوسف الجزري، المتوفى سنة
711 هـ بكتابه المسمى أجوبة أسئلة القاضي الأرموي على التحصيل، ولم أتمكن من معرفة مكان وجوده.
وكانت معظم التنبيهات والاعتراضات موجهة للأدلة العقلية، وذلك لأنه فارس حلبتها ومغوارها الحاذق الذي كان له الباع الأطول فيها. ولهذا خلا القسم الأخير من هذه الاعتراضات لقلة المباحث الكلامية فيه، حيث أن آخر ما ورد من الاعتراضات كان في الفصل الثاني من التراجيح، ولم أجد شيئاً منها في الفصول الآتية (ترجيح الأخبار، الاجتهاد، المفتي، والمستفتي، الأدلة المختلف فيها).
وكان القاضي الأرموي رحمه الله يورد هذه التنبيهات بعبارةٍ موجزةٍ جداً، قد تصل إلى حدّ الإِلغاز، ولا يمكن أن يعرف الناظر المُراد منها إلَّا بعد الرجوع للمحصول، وحتى بعد الرجوع للمحصول قد يكون معرفة مراد الأرموي رحمه الله من باب الاجتهاد. وليس هذا طابع جميع التنبيهات بل يوجد بعض التنبيهات الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. ومن الاعتراضات التي ظهر عليها الإِبهام والإِلغاز.
أ- ما أورده على أجوبة الإِمام الرازي عن أدلة مَن قال بعدم جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد حيث قال في التحصيل:
(احتج القائل بعدم جواز التخصيص بما يلي:
أ- الإِجماع: (إذ ردّ عمر خبر فاطمة بنت قيس. وقال: لا ندع كتاب ربنا وسنّة نبيِّنا بقول امرأة لا ندري لعلّها نسيت أم حفظت).
ب - قوله عليه السلام: "إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فاقبلوه وإن خالف فردّوه".
جـ - الكتاب مقطوع فقدّم على الخبر المظنون.
د- لو جاز تخصيصه به لجاز نسخه به بجامع تقديم الخاص).
والجواب عن:
أ- أنه ردٌّ للتهمة بالكذب والنسيان.
ب- أنه ينفي تخصيصه بالمتواتر، ولو قيل تخصيص الكتاب لا يكون على خلافه قلنا: كذلك ههنا.
جـ - أن خبر الواحد تترك به البراءة الأصلية اليقينية على أن الكتاب مقطوع المتن مظنون الدلالة، والخبر بالعكس، وأيضاً لما دل القاطع على وجوب العمل بخبر الواحد كان وجوب العمل مقطوعاً
فاستويا
…
ولقائلٍ أن يقول: في هذه الأوجه نظر: (انتهى من التحصيل ..).
فكيف يمكن أن يعرف هذا النظر الذي في الأجوبة، وإذا توصل الناظر في الأجوبة إلى خلل فيها فهل يكون موافقاً لما في ضمير القاضي سراج الدين الأرموي، فلا يعلم ما في ضميره على وجه القطع
إلَّا الله جلّ شأنه، ولهذا لما أراد الإِمام بدر الدين محمد بن أسعد التستري أُستاذ جمال الدين الأسنوي أن يوضّح هذا الاعتراض قال: (لعله كانت بالنسبة للدليل الأول أن فاطمة بنت قيس لم تكن متهمةً
بالكذب). وقوله: أصدقت أم كذبت لا يوجب تهمتها. وبالنسبة للدليل الثاني أنه لا يلزم من ترك العمل بخبر الآحاد ترك العمل بالخبر المتواتر لزيادة قوة المتواتر وبالنسبة للثالث، فإن البراءة الأصلية ربما يقدم عليها خبر الواحد لأنها ليست من الأدلة الشرعية) (1).
ب- ومن ذلك ما أورده اعتراضاً على بعض الأحكام المتعلقة بكون الإِجماع ناسخاً للنص، أو لإِجماع آخر أو للقياس حيث قال: ولقائلٍ أن يقول: (في هذه الأقسام نظر ما فليتأمله الناظر). وهو يشبه المثال المتقدم في الإِبهام، وقد اجتهد بدر الدين التستري في معرفة ذلك مع عدم الجزم بما يقول ولهذا قال: إن محل النظر يحتمل أن يكون ما أقوله:
1 -
عدم تسليم وقوع الإِجماع بخلاف النص، وكذلك قد ينسخ الإِجماع النص وذلك إذا كان الإِجماع مستنداً إلى نص راجح على النص المنسوخ، وحينئذٍ يكون الناسخ النص الراجح.
(1) انظر حل عقد التحصيل لوحة: 63 والجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص (1/ 392).
2 -
ما ذكر من عدم نسخ الإِجماع إجماعاً آخر سواء كان يفيد الحكم مطلقاً أم إلى وقت فهو منقوض بجواز نسخ نصٍ بنص، ويلزم كذلك عدم إمكان نسخ نصٍ بنص أصلاً.
3 -
عدم تسليم أن الإِجماع لا ينسخ القياس، لجواز أن يكون سند الإِجماع قطعياً أو ظنياً راجحاً.
4 -
يجوز نسخ النص بقياس يكون قطعي المقدمات، باعتبار أن يكون أصل القياس متأخراً عن نص متناول لما يتناوله القياس.
5 -
لا نسلم نسخ النص أو الإِجماع للقياس، فإن صحته مشروطة بعدم وجودهما فإذا وجد النص أو الإِجماع زال القياس لزوال شرطه (1).
ولم يُجب القاضي سراج الدين الأرموي عن ما أورده من اعتراضات وتنبيهات، بل تركها للناظر الحاذق، والمتأمل النبيه. وهي كما قال بدر الدين محمد بن أسعد التستري تدل على علو كعب القاضي سراج الدين الأرموي في هذا الفن، ودقة فهمه وصفاء ذهنه، لأنها نكات لطيفة لا يتنبه إليها إلَّا مَن له قريحةٌ وقّادة وذكاء خارق وذهن عبقري، اعتاد النظر في عويصات علم الكلام، والاشتغال بدقائق الاستنباط والاجتهاد. وما كان لغير سراج الدين الأرموي أن يستدرك على الإِمام فخر الدين الرازي، الذي بهر علمه علماء زمانه، ومناظراته شهد له بها أقرانه، فإن كان القاضي الأرموي رحمه الله قد لمح هذه الملاحظات، فهي إن دلّت على شيء إنما تدل على منزلته بين العلماء، ودقة فهمه وحذاقته لفن الأصول. وهذا لا يضير الإِمام الرازي رحمه الله، حيث إن العصمة لله وحده، وما من أحدٍ إلَّا يؤخذ منه ويردّ عليه إلَّا الرسول الحبيب صلوات الله وسلامه عليه. وكفى الرازي فخراً وعلوّاً في المنزلة وارتفاعاً في الرتبة أن يتلقى كتابه بالشرح والاختصار والتدقيق والتعليق عشرات من العلماء الأجلّة، فلم يوجد كتاب في فن الأُصول ذاع صيته وعمّت شهرته المشرق والمغرب والروم والعرب ككتاب المحصول،
(1) انظر حل عقد التحصيل لوحة: 80 والجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص (1/ 374).
وليس ذلك محل استغراب إذا اعلمنا أنه خلاصة كل ما كتب في هذا الفن قبله كما بينا ذلك وأيدناه بالنقل عن مؤرخ العلوم العلّامة ابن خلدون.
وقد التزم القاضي الأرموي رحمه الله بنقل الأقوال المنسوبة لأصحابها في المحصول، ولا يكاد يحذف أو يزيد اسماً ممّن نسبت إليهم الأقوال، ولهذا خلا كتاب التحصيل من ذكر آراء أقران الإِمام الرازي، والمتأخرين عنه تماماً. والإِمام الرازي نفسه التزم بنقل الآراء التي نسبها صاحب المستصفى وصاحب المعتمد لأصحابها ولم يتعرض لنقل آراء مَن تأخر عن هذه الكتب إلا ما ندر. ووجدتُ أن القاضي الأرموي رحمه الله يغيِّر أحياناً نسبة القول من أبي حنيفة إلى الأحناف، وكأنه يسوّي بين
النسبتين، ومن ذلك أن الإِمام الرازي في المحصول نسب القول بعدم جواز التعليل بالعلة القاصرة للإِمامٍ أبي حنيفة وأصحابه، ولكن القاضي الأرموي قال: وجوّزه الشافعي خلافاً للحنفية (1).
ومن ذلك أيضاً ما وقع في مسألة إثبات التقديرات والحدود والكفّارات والرخص بالقياس، حيث نقل الإِمام فخر الدين الرازي الخلاف في جواز ذلك عن الإِمام أبي حنيفة وأصَحابه، وأما القاضي الأرموي قال خلافاً للحنفية (2)، وجدت مثل هذا في عدة مواضع في الكتاب.
وقد وجدت أن القاضي سراج الدين الأرموي قد أبدل كلمة الإِجماع في مواضع بلفظ الجمهور أو ما يقاربها، وكان موفقاً في ذلك لأن الإِمام نقل الإِجماع على أُمورٍ لا تسلم له أبداً، حيث هو نفسه نقل في موضع آخر الخلاف فيها. ولعله لم يكن يقصد بإطلاق لفظة الإِجماع الإِجماع الاصطلاحي المعروف. ولكن هذا الاحتمال أيضاً واهٍ، حيث إن الإِمام الرازي من عظماء علماء الأصول وعالم بمصطلحاتهم وعامل بها. ومن ذلك ما نقله الإِمام الرازي في أدلة مَن قال بالقياس: إن الدليل الرابع هو إجتماع الصحابة على العمل به ثم عدّد رهطاً من الصحابة عملوا به، وهذا لا يسمى
(1) انظر المحصول 2/ 2/ 423، والجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 2/ 231.
(2)
انظر المحصول 2/ 2/ 471، والجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 2/ 243.
إجماعاً عند عامة الأصوليين لأنه نقل عن بعضهم إنكار القياس، وبعضهم حذّر منه. فالإِجماع لا يسلم للإِمام الرازي ولكن القاضي الأرموي قال: ومعتمد الجمهور هو أن بعض الصحابة عمل بالقياس (1).
وكان اختصار القاضي الأرموي - رحمه الله تعالى- يتناول أحياناً بعض المعاني الإِضافية التي ليست أساسية، كبيان المحترزات بالتعريف أو حذف دليل ضعيف وكان هذا في مواضع معدودة. وهذا ليس عيباً في الاختصار لأن المحترزات بالقيود من الأشياء التي يدركها الناظر بالتأمل، وكان في بعض الأحيان يشير للمحترز عنه بذكر المثال، وصنيعه هذا من مستلزمات الاختصار التي لا محيد عنها، وإنما ذكرته لأُبيِّن أن اختصاره لم يتناول الفِكَر الأساسية، بل كان في الأمور الجانبية، ومن ذلك في المقدمة الأولى من الجزء التحقيقي لم يستوعب المحترزات الخارجة بقيود تعريف الفقه، وقد بيّنها الإِمام الرازي في المحصول. ولم يبيِّن القاضي الأرموي رحمه الله ما خرج بقوله:(لا يعرف كونها من الدين بالضرورة)، وهو مثل الصلاة والصيام المعلومين من الدين بالضرورة، ولم يبيِّن ما خرج بقوله:(بالاستدلال على أعيانها) بما أخذه المقلّد من الأحكام فهو لا يسمى فقهاً لعدم أخذه الحكم بالدليل.
وحدث مثل هذا في تعريف أُصول الفقه أيضاً، فلم يبيِّن القاضي الأرموي رحمه الله ما خرج بقوله:(مجموع طرق الفقه) حيث خرج العلم ببابٍ واحد ككون القياس حجة، ولم يبيِّن ما خرج بقوله:(من حيث هي طرق) حيث خرج الفقيه والخلافي، لأنهما يبحثان في حجية الدليل في مسألة معينة.
وأما حذفه لبعض الأدلة الضعيفة فلم يحدث إلَّا في موضعين أو ثلاثة في جميع الكتاب نبّهت عليها في مكانها ومن ذلك.
أورد الإِمام الرازي رحمه الله على تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني للقياس ستة اعتراضات، ولم يورد القاضي سراج الدين الأرموي
(1) الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 2/ 165.
- رحمه الله سوى خمسة اعتراضات، فحذف خامس الاعتراضات وهو:(أن كلمة "أو" للإِبهام وماهية كل شيء معينة، والإِبهام ينافي التعيين)، وحذف هذا الاعتراض لضعفه لأن "أو" ليست دائماً للإِبهام.
وطبيعة الاختصار جعلت القاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله يتصرف في تقسيمات الكتاب، فكثيراً: ما كان يحوِّل الأبواب إلى فصول، والفصول إلى مسائل، ومع هذا كان يحافظ على الأفكار الواردة، وهذا كثير جداً في الكتاب ومنه ما ورد في الكلام على اللغات حيث قسَّمه الإِمام الرازي إلى أبوابٍ، وقسّمه القاضي سراج الدين الأرموي إلى فصول ينطوي تحتها مسائل وجعل الكلام في اللغات باباً واحداً (1).
ومن ذلك أيضاً أن الإِمام فخر الدين الرازي - رحمه الله تعالى- ذكر في بداية المحصول عشر مقدماتٍ ثم عدّدها واحدة تلو الأُخرى، ولكن القاضي الأرموي رحمه الله في التحصيل ذكر أن المقدمات ست، وبعد التقصّي وجدته لم يحذف من المادة العلمية شيئاً، ولكنه دمج بعض المقدمات مع ما يناسبها لقوة ارتباطها بها وشدة تعلقها.
وكل ما تقدم في هذا المبحث ذكرته إظهاراً لمسلكه، ولمس على سبيل إظهار مآخذ على كتابه لأنه لا بدّ للمختصر من فعل ما تقدم.
وأما ما قد يكون عيباً في مسلك الاختصار في كتاب التحصيل فهما أمران، وهما أيضاً يدلّان دلالة واضحة على دقة فهمه وقوة قريحته ورسوخ قدمه في علم الأصول المركب من المعقول والمنقول، وإنما هما عيبان من زاوية أُخرى غير الزاوية التي يدلّان منها على سعة علمه وقوة عقله، وإنني
حينما أكتب هذه الكلمات أشعر بشيء من الوجل، لأن النقد سهل والعمل صعب، ولكن الأمانة العلمية تلزمني بتدوين كل ما انطبع في ذهني عن هذا الكتاب لتلاوته المرة بعد المرة، ولمحت فيه ما لا يلمحه القارئ العجل.
أما الأمر الأول: تصرفه في بعض التعاريف الواردة في الكتاب بما
(1) الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 1/ 191.
يصلحها ويسدّ ثغرة فيها مع بقائها منسوبة لأصحابها مع عدم التنبيه على ذلك، والتعاريف نقلها مبني على التضييق في نظري، فلا يجوز التصرّف فيها أدنى تصرف، مع أن الأقوال قد يتجوّز في نقلها بما لا يحدث اختلافاً في المعنى. وهذا الِإصلاح الذي حدث في التعاريف يدل على دقة فهم القاضي الأرموي رحمه الله.
ومن ذلك: قد عرَّف القاضي أبو بكر الباقلاني القياس كما ورد في المحصول بلفظ: (حمل معلومٍ على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنهما). والقاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله نقله في التحصيل منسوباً للقاضي أبي بكر الباقلاني بلفظ: (حمل معلوم على معلوم في إثبات حكمٍ لهما أو نفيه عنهما بجامع حكمٍ أو صفةٍ أو نفيهما)(1). فمن حيث المدلول التعريفان متقاربان إلَّا أن تعريف القاضي الأرموي كان أشد اختصاراً، وحبذا لو ذكر التعريفين لأن التعريف الثاني لا يمكن القول عنه أنه تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني.
وقد تصرف أيضاً في تعريف أبي الحسين البصري صاحب المعتمد للقياس، حيث أورده القاضي سراج الدين الأرموي في التحصيل منسوباً لأبي الحسين بلفظ:(تحصيل مثل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم في ظن المجتهد)(2). والإِمام فخر الدين الرازي أورده في المحصول بلفظ: (تحصيل حكم الأصل في الفرع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد).
فالقاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله أضاف كلمة "مثل"، وذلك لأن الحكم الحادث في الفرع ليس عين الحكم الذي في الأصل، فتعبير الأرموي أدق وأبدل "عند المجتهد" بقوله:"في ظن المجتهد" وذلك لكي لا يدخل القياس الذي يعتقد المجتهد فساده لأنه ليس بقياس، وكان
(1) الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 2/ 155.
(2)
الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 2/ 156.
القاضي الأرموي موفقاً في إضافة هاتين اللفظتين إذ بهما انسدّ خلل التعريف.
ومن ذلك أيضاً: أورد القاضي الأرموي في التحصيل تعريف الحقيقة منسوباً لأبي الحسين البصري بلفظ: (ما أُفيد بها في اصطلاحٍ به التخاطب ما وضعت له فيه). وعرفها أبو الحسين البصري كما ورد في المعتمد (1) ونقله الإِمام فخر الدين الرازي في المحصول بلفظ: (ما أُفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به). ومدلول التعريفين واحد، مع أن التعريف الذي أورده القاضي الأرموي أشد اختصاراً.
ومن ذلك أيضاً نقل القاضي الأرموي رحمه الله عن العلماء أنهم عرفوا الفقه بلفظ: (العلم بالأحكام الشرعية العملية التي لا يعرف بالضرورة كونها من الدين إذا حصل بالاستدلال على أعيانها)(2). وقد أورده الإِمام فخر الدين الرازي في المحصول بلفظ: (العلم بالأحكام الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة). فاستبدل القاضي الأرموي كلمة يعلم بكلمة "يعرف"، وذلك للاعتراض الذي أورده الإِمام فخر الدين الرازي رحمه الله ثم أجاب عنه وهو: أن الفقه من باب الظنون فكيف يجعل علماً، وأجاب أنه إذا غلب على ظن المجتهد مشاركة
صورة بصورة قطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظنه، فالحكم معلوم قطعاً، والظن واقع في طريقه.
وأما الأمر الثاني: أن القاضي الأرموي رحمه الله كان يقول في مواضع كثيرة. والجواب عن أ - من غير ذكر المجاب عنه وإذا نظر الإِنسان فيما تقدم لم يجد أشياءً مرقمة، وعندئذ يظهر أن الأجوبة عن أشياء لم ترد مرقمة، وهذا يشوِّش ذهن الناظر ويحتاج أحياناً إلى جهد في تعيين المُجاب عنها، لأنها قد تكون تقدمت قبل صفحات وهي مرقمة في ذهنه وهذا ورد كثيراً، وفي مواضع متعددة نبّهت على هذا في مواضعه بعد قراءة الأجوبة
(1) المعتمد 1/ 16 والتحصيل الجزء التحقيقي ص (1/ 221).
(2)
الجزء التحقيقي من هذا الكتاب المقدمة الأولى.
ومعرفة ما أُجيب بها عنه. وفي بعض الأحيان كنت أضع ترقيماً لما أُجيب عنه موافقاً للأجوبة. وهذا يدل على سعة علمه ورجاحة عقله، ولكنه يشوِّش على الناظر فيه، ويؤخر عليه الوصول إلى معرفة المراد، ومن ذلك على سبيل المثال. قوله: احتجوا (القائلون بأن الكفّار غير مخاطبين بفروع الشريعة) بأن الصلاة مثلاً لا تجب عليه بعد الإِسلام وفاقاً ولا قبله لامتناعه، ولأنها لو وجبت لوجب قضاؤها كالمسلم بجامع تدارك المصلحة.
والجواب عن:
أ- أن ما ذكرتم لا ينفي العقاب على تركها.
ب- النقض بالجمع، والفرق (أن وجوب القضاء عليه تنفير له عن الإِسلام)(1). ويقصد بالجواب عن أ- عن دليلهم الأول، وهو بأن الصلاة مثلاً لا تجب عليه بعد الإِسلام وفاقاً ولا قبله لامتناعه. ويقصد بالجواب عن ب- عن دليلهم الثاني وهو: لأنها لو وجبت لوجب قضاؤها كالمسلم بجامع تدارك المصلحة، وكلاهما لم يرد مرقماً.
وقد برزت شخصية القاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله بروزاً واضحاً كمختصر متمكِّن من فنه ولغته، فقد كانت عباراته بقدر المعاني، فلا حشو ولا إلغاز. فلو حذفت كلمة من موضعها لحدث بها خلل كبير في التركيب. وأظهر قدرة فائقةً في إبراز المعاني الكثيرة في ألفاظ قليلة، وهذا من سمات الحكماء المتكلمين الذين كل حرف في كلامهم له وزن ومعنى.
فالأسلوب العلمي الذي يعتني بالحقائق يختلف عن الأسلوب الأدبي الذي يعكس العواطف. واختصاره كتاب المحصول وهو لأعظم الحكماء العلماء المتكلمين في القرن السادس الهجري إلى الثلث مع عدم نقص المادة العلمية لَدليلٌ قاطع على التمكّن من لغته ودقة تعبيره، وكتاب علمي مثل هذا لا يتأتى اختصاره لأقل من ذلك إلَّا إذا كان الاختصار على حساب المعاني، وحينئذٍ تضيع القيمة العلمية للأصل.
(1) الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 1/ 324.
وأما وضوح العبارة وسهولة إيصالها المعاني للناظر فيها فقد حالف القاضي الأرموي فيها الحظ، فقد خلا كتابه مما احتوت عليها المختصرات الأخرى من تعقيد اللفظ، والإِلغاز في التركيب، ولكن ليس معنى وضوح المعنى أنه واضح للقاصي والداني، بل واضح لمن اعتاد النظر في كتب هذا الفن، وكثيراً ما يتكلم إنسان بكلام واضح في ذهنه وضوح الشمس مع وجود غموض فيه على بعض الناس. وقد ألانَ الله له التراكيب فانسابت على قلمه فنمنم بها صفحات كتابه، كما ألانَ الله لسليمان الحديد فنسج منه الدروع فمعظم ما كتب واضح يدرك بالنظر الثاقب ودقة الفهم، ولم أجد العبارة قد خانت القاضي الأرموي رحمه الله فلم توصل المعنى للقارئ لأول وهلة إلَّا في مواضع قليلة ناتجة عن اجتهاد الأرموي في الاختصار بقدر الإِمكان.
نبّهت عليها في مواضعها وهي:
أولاً: دمج القاضي سراج الدين الأرموي رحمه الله مسألتين في مسألة واحدة في موضعين، فحدث بذلك التباس وتشويش في الفهم، مما يجعل الفهم صعباً إلا بالرجوع للمحصول.
أ- الموضع الأول: دمج مسألة الاختلاف في صدق المشتق بدون المشتق منه بمسألة بقاء وجه الاشتقاق، هل هو شرط لصدق المشتق أم لا (1).
ففي المسألة الأولى ارتضى القاضي الأرموي رحمه الله تبعاً للإِمام الرازي - رحمه الله تعالى- عدم صدق المشتق دون المشتق منه، لاستحالة صدق الكل بدون الجزء، وخالفه في ذلك الجبائيان أبو علي وأبو هاشم. وارتضى في الثانية أن الاشتقاق شرط لصدق المشتق منه. وخالف في ذلك أبو علي بن سينا وأبو هاشم الجبائي المعتزلي، ونظراً لترابط المسألتين أراد القاضي الأرموي حرصاً منه على الاختصار أن يجعلهما مسألةً واحدة فحدث الالتباس.
(1) الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 1/ 204.
ب- دمج القاضي الأرموي رحمه الله مسألتين مشهورتين في مسألة واحدة وهما:
الأولى: هل الأمر يفيد التكرار أم المرة الواحدة.
الثانية: هل الأمر على الفور أم على التراخي (1).
والذي دفع القاضي الأرموي رحمه الله لدمج المسألتين كما يبدو والله أعلم - أن الرأي المختار في المسألتين كان واحداً، وهو أنهما يدلّان على القدر المشترك ولهذا كانت معظم الأدلة متحدة،
فحدث بذلك تشويش وخاصة في الاستدلال، لأن كل مسألة انفردت ببعض الأدلة، ولم أرَ في الكتب الأُصولية التي نظرتها أن أحداً جعلهما مسألةً واحدةً.
ثانياً: نقل القاضي الأرموي رحمه الله عن الإِمام الغزالي تبعاً للإِمام الرازي في المحصول أربعة أوجه، للتفريق بين الحقيقة والمجاز فقال:
(أ- اطراد الحقيقة: فلا يقال واسأل البساط وهو ضعيف)(2).
والناظر في هذا الوجه لا يفهم منه شيئاً إلا بعد الرجوع للمحصول أو المستصفى ليعرف المراد، ومراده أن الطريق الأول من طريق التفريق بين الحقيقة والمجاز، أن الحقيقة مطّردة والمجاز غير مطّرد. فلا يقال: واسأل البساط إلحاقاً لقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وضعَّف هذا الطريق الإِمام الرازي في المحصول، وتابعه القاضي سراج الدين الأرموي بقوله:(وهو ضعيف) والضمير (هو) راجع للتفريق، والتفريق لم يتقدم وهذا يرد على ما يرد عليه في اللغة.
(1) الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 1/ 287.
(2)
الجزء التحقيقي من هذا الكتاب ص 1/ 240.
وقد ظهرت شخصية القاضي الأرموي رحمه الله في اختصار المحصول في التبويب بالتقسيم، فكانت في غاية الدقة. فقد أحسن تنظيم الكتاب وتقسيمه إلى أبوابٍ وفصول ومسائل، وكثيراً ما كان يذيّل المسائل إما بتفريعات أو بتنبيهات.
وقد أكثر القاضي الأرموي رحمه الله في تقسيماته وتعداد بعض الأمور من استعمال الحروف. وكان يستعملها بشكل عجيب لم يسبق لي الاطّلاع على مثله، حيث كان يركب الحروف الهجائية لتدل على الأرقام، ففي باب التراجيح ركّب حرفاً لتدل على ستةٍ وستين نوعاً.
وبرزت شخصية القاضي الأرموي رحمه الله في التحصيل كمتكلمٍ ممسك بناصية فنه، عالم بأبعاده ومراميه خبير بدقائقه وخباياه. فظهر ذلك في الإِضافات الدقيقة والملاحظات اللطيفة التي أوردها على أدلة الإِمام الرازي في المحصول، والتي بينّاها في الجزء التحقيقي بياناً شافياً. وظهرت دقة علمه في ترتيب الأدلة، حيث كان في بعض الأحيان يقدم بعض الأدلة، ويؤخر أُخرى، وبعد السبر وجدت أن هذا لم يكن عبثاً، بل لأنه لمّح أن بعضها أقوى من الآخر فقدّم الأقوى. والإِضافات الدقيقة لبعض التعاريف وحذْف بعض الألفاظ منها لسد الخلل فيها، ومنع توجه الاعتراض عليها أيضاً يدل على مدى تمكنه من فنه. ومن ذلك ما تقدم ذكره من إضافة "مثل" و"ظن" لتعريف أبي الحسين البصري للقياس، لاحتمال ورود اعتراضين عليه وهما أن الحكم الحادث في الفرع ليس عين الحكم الموجود في الأصل، ولكي لا يدخل القياس الفاسد. ومن ذلك أيضاً استبداله كلمة "يعلم" بكلمة "يعرف" في تعريفه الفقه عند العلماء، وذلك لاحتمال ورود اعتراض عليه، وهو أن الفقه من باب الظنون فكيف يجعل علماً؟.
وظهرت شخصية القاضي الأرموي رحمه الله في سلامة لغته، مع أنه أعجمي ولد في أذربيجان، ونشأ وترعرع فيها، ثم كانت دراسته على بني قومه من الأكراد ثم ختم حياته بالإِقامة في بلاد الروم، وكانت السلطة الحاكمة التى يعيش في ظلها سلجوقية ومع هذا كله، كانت لغته سليمة لا