الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب إذا رأى الإِمام رجلًا وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين
أي: إذا كان لم يصلهما قبل أن يراه.
الحديث الثالث والخمسون
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ ركعتين".
قوله: "عن جابر بن عبد الله" صرّح في الباب الذي يليه بسماع عمرو بن دينار من جابر. وقوله: "جاء رجل" هو سُلَيْك بن هُدْبَة الغَطَفاني كما وقع مسمى في هذه القصة عند مسلم عن أبي الزبير عن جابر بلفظ: "جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له: أصليت ركعتين: قال: لا، فقال: قمْ فاركعهما". ومن طريق أبي سفيان عن جابر نحوه وفيه: "فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين" وتجوز فيهما هكذا رواه أصحاب الأعمش عنه ووهم منصور بن أبي الأسود عنه، فقال: جاء النعمان بن نوفل أخرجه الطبراني. وأخرج الطبراني عن أبي أنه: "أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال لأبي ذر: صلّيت ركعتين: قال: لا"، الحديث. وفي إسناده ابن لهيعة وشذ بقوله يخطب فإن الحديث مشهور عن أبي ذر أنه "جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد" أخرجه ابن حِبّان وغيره.
وأما ما رواه الدارقطني عن أنس "قال: دخل رجل من قيس المسجد" فذكر نحو قصة سليك فلا يخالف كونه سليكًا؛ لأن غطفان من قيس، وأما تجويز أن الواقعة تعددت فغير ظاهر. وقد اختلف فيه على الأعمَش اختلافًا آخر، فقد رواه الثوري عنه عن جابر عن سليك فجعل الحديث من مسند سليك، وهذا لم يقله أحد عن الثوري غير الفريابي وإبراهيم بن خالد. وقد قاله عنه أيضًا عبد الرزاق أخرجه في مصنفه هكذا وأحمد عنه وأبو عوانة والدارقطني من طريقه.
وروى ابن عدي عن النسائي أنه قال: هذا خطأ، والذي يظهر أنه ما عني أن أحمل القصة عن سليك وإنما معناه أن جابراً حدّثهم عن قصة سليك؟ ولهذا نظير سيذكر إن شاء الله تعالى في كتاب "البيوع" في قصة أبي شعيب اللحام، فإنه هناك روى عن أبي مسعود "جاء رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب فقال لغلام له قصاب: اجعل لي طعامًا يكفي خمسة" إلخ، فقد اتفقت الطرق على أنه من مسند أبي مسعود إلا ما روى عن أحمد عن الأعمَش بسنده فقال: "فيه عن رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه الجوع" إلخ.
ومن المستغربات ما حكاه ابن بشكوال في "المبهمات" أن الداخل المذكور يقال له: "أبو هدبة" فإن كان محفوظًا فلعلها كنية سليك صادفت اسم أبيه.
وقوله: "فقال صليت؟ " كذا للأكثر بحذف همزة الاستفهام، وثبتت في رواية الأصيلي. وقوله:"قم فاركع" زاد المستملي والأصيلي "ركعتين"، وكذا في رواية سفيان في الباب بعد فصل ركعتين. وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب يستحب أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما. وذهب مالك وأبو حنيفة والليث والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين وقال الأولون: يندب صلاتهما إلا إذا كان في آخر الخطبة، فلا يصلي لئلا يفوته أول الجمعة قال في "المجموع": إن غلب على ظنه إن صلاّهما فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصلهما بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد، لئلا يكون جالسًا في المسجد قبل التحية. قال ابن الرفعة: ولو صلاّها في هذه الحال استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكمل التحية، فإن لم يفعل ذلك قال في "الأم": كرهته له، فإن صلاّها وقد أقيمت الصلاة كرهت ذلك له، ويخففها وجوبًا ليسمع الخطبة.
قال الزركشي: والمراد بالتخفيف فيما ذكر الاقتصار على الواجبات لا الإسراع. قال: ويدل له ما ذكروه من أنه إذا ضاق الوقت وأراد الوضوء اقتصر على الواجبات. واستدلت الشافعية والحنابلة لما ذهبوا إليه بحديث الباب وبما أخرجه الشيخان عن جابر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب: إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصلِ ركعتين".
ولمسلم عن أبي سفيان عن جابر أنه قال ذلك في قصة سليك ولفظه بعد قوله: "فاركعهما وتجوز فيهما"، ثم قال:"إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإِمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما".
قال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالمًا يبلغه هذا اللفظ ويظنه صحيحًا ويخالفه. وقال ابن أبي جمرة: هذا الحديث لم يقل بتأويله وإنما عمل بمعارضته؛ لكونه أقوى عنده منه فقد تمسك القائلون بالمنع بما قاله ابن العربي قصة سليك ما هو أقوى منها كقوله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت" متفق عليه.
قال: فإذا امتنع الأمر بالمعروف وهو أمر اللاغي بالإِنصات مع قصر زمنه فمنع التشاغل بالتحية مع طول زمنها أولى، وعارضوا أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام وهو يخطب للذي دخل يتخطى رقاب الناس:"اجلس فقد آذيت" أخرجه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة. وغيره عن عبد الله بن بشر قالوا: "فأمره بالجلوس ولم يأمره بالتحية". وبما أخرجه الطبراني عن ابن عمر رفعه "إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإِمام" وتأولوا حديث سليك بأنه
واقعة عين لا عموم فيها فيحتمل اختصاصها بسليك لما رأى من بذاذته لتتفطن له الناس فتتصدق عليه.
ويدل على هذا التأويل حديث أبي سعيد الذي أخرجه أصحاب "السنن" وغيرهم "جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب والرجل في هيئة بذة فقال له: أصليت؟ قال: لا، قال: صلِ ركعتين وحضِ الناس على الصدقة" الحديث، فأمره أن يصلي ليراه الناس وهو قائم فيتصدقون عَليه، ويؤيده أن في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا الرجل دخل المسجد في هيئة بذة فأمرته أن يصلي ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه" وعرف بهذه الرواية الرد على مَنْ طعن في هذا التأويل فقال: لو كان كذلك لقال لهم: إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه أو إذا كان أحد ذا بذة فليقم فليركع حتى يتصدق الناس عليه، والذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتني في مثل هذا بالإجمال دون التفصيل كما كان يصنع عند المعاتبة.
ومما يضعف الاستدلال به أيضًا على جواز التحية في تلك الحالة أنهم أطلقوا أن التحية تفوت بالجلوس، وورد ما يؤكد الخصوصية أيضًا وهو قوله صلى الله عليه وسلم لسليك في آخر الحديث:"لا تعودن لمثل هذا" أخرجه ابن حِبّان. وأجابوا عن هذا التأويل بأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بكونه عليه الصلاة والسلام قصد التصدق عليه لا بمنع القول بجواز التحية، فإن المانعين منها لا يجيزون التطوع لعلة التصدق.
وقال ابن المنير: لو ساغ ذلك لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس وسائر الأوقات المكروهة ولا قائل به.
قلت: هذا الجواب كله غفلة من قائله أما أن الأصل عدم الخصوصية فمحله عند عدم القرينة، وهنا قامت القرينة على الخصوصية بما تقدم من تصريحه عليه الصلاة والسلام بأنه أمره أن يصلي رجاء أن يفطن له رجل فيتصدق. وبقوله له:"لا تعودن لمثل هذا" وبما دل عليه الحديث الذي كاد أن يكون متواترًا "إذا قلت لصاحبك أنصت" إلخ فإذا منعه من الأمر بالمعروف الذي هو فرض في هذه الحالة فمنعه من إقامة السُّنة أو الاستحباب بطريق الأول، وإذا ثبتت الخصوصية لسليك بطل بديهة قول القائل المار: لا يمنع القول بجواز التحية، فإن المانع هو النهي الوارد عنها في هذا الوقت. والحديث لكونه خصوصية لا يعارض النهي لا يرفعه.
وقول الآخر: "لساغ مثله في التطوع عند طلوع الشمس" إلخ فإن هذا خصوصية من الشارع والشارع لا يلزم بشيء والخصوصية لا يقاس عليها. وأجابوا أيضًا بأن أحمد وابن حِبّان أخرجا بأنه كرر أمره بالصلاة ثلاث مرات في ثلاث جُمع، وكان ذلك كما أخرجه النسائي وابن خزيمة بعد أن حصل له في الجمعة الأولى ثوبين فدخل بهما في الثانية فتصدق بأحدهما فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قالوا: فدل على أن قصد التصدق عليه جزء علة لا علة كاملة.
قلت: هذا لا يجدي مع ثبوت الخصوصية وتكرر الأمر له هو دون غيره من جميع الصحابة لما مرّ أن هذه القصة لم تثبت عن أحد من الصحابة سواه قال على معنى فيه غيره موجود في غيره إذ لا يمكن أن أحدًا من الصحابة يؤمر بحكم شرعي مرتين ويتمادى، هذا ما ظهو لي والله تعالى أعلم.
وأجابوا عن كون التحية تفوت عندهم بالجلوس بأن النووى نقل عن المحققين أن ذلك في العامد العالم، أما الجاهل أو الناسي فلا وحال هذا الداخل محمولة في الأولى على أحدهما، وفي المرتين الأخريين على النسيان. وما قالوه في أمر الصحابي إنما هو تجوز عقلي لا يعول عليه. وأجابوا عمّا مرّ عن ابن العربي بأن المعارضة التي تؤول إلى إسقاط الدليلين إنما يعمل بها عند تعذر الجمع، والجمع هنا ممكن
أما الآية فليست الحطبة كلها قرآنًا، وأما ما فيها من القرآن فالجواب عنه كالجواب عن الحديث، وهو تخصيص عمومه بالداخل قلت: مع النهي الصريح للداخل عنها وثبوت الخصوصية وثبوب القاعدة الأصولية المتفق عليها من "تقديم درء المفاسد على جلب المصالح" لا يستقيم هذا الجواب.
وأجابوا أيضًا بأن مصلي التحية يجوز أن يطلق عليه أنه منصت، فقد تقدم في افتتاح الصلاة من حديث أبي هريرة أنه قال:"يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه؟ فأطلق على القول سرًا السكوت".
قلت: هذا الجواب ساقط؛ لأن المطلوب في الجمعة اصغاء والاستماع كما مرّ في الباب السابق لا مجرد السكوت، حتى يستدل بالحديث. وأما حديث ابن بشر فهو أيضًا واقعة عين لا عموم فيها فيحتمل أن يكون ترك أمره بالتحية قبل مشروعيتها، ويحتمل أن يجمع بينهما بأن قوله له:"اجلس" أي: بشوطه، وقد عرف قوله للداخل "فلا تجلس حتى تصلي ركعتين" فمعنى قوله:"اجلس" لا تتخط أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة؛ أو لكون دخوله وقع في آخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية.
وقد اتفقوا على استثناء هذه الصورة، ويحتمل أن يكون صلى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة فوقع منه التخطي فأنكر عليه والجواب عن حديث ابن عمر بأنه ضعيف فيه أيوب بن نهيك وهو منكر الحديث قاله أبو زرعة وأبو حاتم، والأحاديث الصحيحة لا تعارض بمثله.
والجواب عن هذا أنها لم تعارض بهذا الحديث وحده بل عورضت بما هو أقوى منها. وقد أجابوا عن حديث ابن بشر بما مرَّ من الاحتمالات. وقد قال الترمذي: إن قصة سليك هي أصح شيء روي في هذا الباب. وقد مرّ ما تطرقها من الاحتمال والقاعدة الأصولية أن "الدليل إذا تطرقه الاحتمال سقط به الاستدلال".
وأجيب عنه أيضًا بأنه عليه الصلاة والسلام أنصت له حتى فرغ من صلاته، ويدل عليه ما رواه الدارقطني في "سننه" عن أنس قال:"دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته" فعلى هذا، فقد جمع سليك سماع الخطبة وصلاة التحية. فإن قيل إن الدارقطني قال أسنده عبيد بن محمد والصواب أنه مرسل وقد أخرجه أحمد من رواية سليمان التيمي مرسلًا، فالجواب أن المرسل حجة عند المانعين ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة عن محمد بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره أن يصلي أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه، ثم عاد إلى خطبته.
وأجيب عنه أيضًا بأن ذلك كان قبل شروعه عليه الصلاة والسلام في الخطبة.
وقد بوّب النسائي في "سننه الكبرى" على حديث سليك فقال باب "الصلاة قبل الخطبة" ثم أخرج حديث سليك عن جابر قال: "جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقعد سليك قبل أن يصلي" الحديث، ومثله عند مسلم.
وأجيب عن هذا بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين، فيكون كلمه بذلك وهو قاعد فلما قام ليصلي قام النبي صلى الله عليه وسلم للخطبة؛ لأن زمن الخطبة لا يطول، ويحتمل أن يكون الراوي تجوّز في قوله وهو قاعد؛ لأن الروايات الصحيحة كلها مطبقة على أنه دخل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب. ويرد هذا الجواب أن الأصل ابتداء قعوده وقعوده بين الخطبتين محتمل، فلا يحكم به على الأصل على أن أمره صلى الله عليه وسلم إياه بأن يصلي ركعتين وسؤاله إياه هل صليت وأمره للناس بالصدقة وامتثال الناس يضيق عنه القعود بين الخطبتين؛ لأن زمن هذا القعود لا يطول كما مرّ عند ذكره. واحتمال تجوز الراوي احتمال عقلي لا دليل عليه وتوهين للرواية الصحيحة بدون سبب.
وأجيب عنه أيضًا بما قاله ابن العربي قال: لما تشاغل النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع عنه إذ لم تكن منه حينئذ خطبة؛ لأجل تلك المخاطبة وادعى أنه أقوى الأجوبة قال في "الفتح": وهو من أضعفها؛ لأن المخاطبة لما انقضت رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطبته وتشاغل سليك بامتثال ما أمره به من الصلاة، فصح أنه صلى في حالة الخطبة. وما قاله مردود، فإن رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى الخطبة حال صلاة سليك لم يأت عليه بدليل. وما مرّ عن الدارقطني وغيره يبطله.
وأجيب عنه أيضًا بأن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضًا في الخطبة؛ لأنها شطر صلاة الجمعة أو شرطها. قال الطحاوي: تواترت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن مَنْ قال لصاحبه "انصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغا" فإذا كان قول الرجل والإمام يخطب لصاحبه أنصت لغوًا كان قول الإمام للرجل قم فصل لغوًا أيضًا، فثبت بذلك أن
الوقت الذي كان فيه الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسليك جاء أمره به إنما كان قبل النهي، وكان الحكم منه في ذلك بخلاف الحكم في الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوًا.
وقد قال ابن العربي: الصلاة حين ذلك حرام من ثلاثة أوجه:
الأول: قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} فكيف بترك الفرض الذي شرع الإِمام فيه إذا دخل عليه فيه ويشتغل بغير فرض. وقد مرَّ جوابهم عن هذا.
الثاني: صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت"، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان الركنان في الإِسلام يحرمان في حال الخطبة، فالنفل أولى أن يحرم.
الثالث: لو دخل والإمام في الصلاة لم يركع والخطبة صلاة إذ يحرم فيها ما يحرم في الصلاة من الكلام والعمل. وأما حديث سليك فلا يعترض به على هذه الأصول من أربعة أوجه:
الأول: هو خبر آحاد.
الثاني: يحتمل أنه كان في وقت كان الكلام فيه مباحًا في الصلاة؛ لأنا لا نعلم تاريخه، فكان مباحًا في الخطبة فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو آكد فرضية من الاستماع، فأولى أن يحرم ما ليس بفرض.
الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كلّم سليكاً وقال له: "قم فصل"، فلما كلّمه وأمره يسقط عنه فرض الاستماع إلى آخر ما مرّ.
الرابع: أن سليكًا كان ذا بذاذة إلخ.
وأجابوا عمّا قيل من أن الكلام كان مباحًا في الصلاة بأن سليكًا متأخر الإِسلام جدًا، وتحريم الكلام متقدم جدًا، فكيف يدعى نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال؟ هكذا قال في "الفتح". وقد مرَّ قول ابن العربي: إن التاريخ غير معلوم. وقول صاحب "الفتح": إن تحريم الكلام متقدم جدًا غير مُسَلّم لما يأتي عنه في أبواب العمل في الصلاة هل كان التحريم (بمكة) أو (المدينة)؟ والذي يظهر أنه المعتمد كونه (بالمدينة)، وما قاله من تأخير إسلام سليك جدًا لم يذكر هو في "الإصابة" ولا ابن عبد البر في "الاستيعاب" وقت إسلام سليك حتى يكون متقدمًا أو متأخرًا فبان سقوط ما اعترض به، وتعقبوا ما مرّ من كون الداخل والإمام في الصلاة تسقط عنه التحية والخطبة صلاة إلخ بأن الخطبة ليست صلاة من كل وجه، والفرق بينها ظاهر من وجوه كثيرة، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل الجلوس بخلاف الداخل في حال الصلاة، فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت يحصل المقصود هذا مع تفريق الشارع بينهما.
فقال: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوية، وفي بعض طرقه فلا صلاة إلا التي أقيمت،
ولم يقل ذلك في حال الخطبة بل أمر فيها بالصلاة، وهذا التعقيب متعقب فإن قوله:"إن الخطبة ليست صلاة من كل وجه". يقال فيه: إن القائل لم يدّع أنها صلاة من كل وجه بل قال: إنها صلاة من حيث إنها يحرم فيها ما يحرم في الصلاة من الكلام والعمل وكون الداخل مأمورًا بشغل البقعة بالصلاة مصادرة، فإن هذا هو محل النزاع، فالمانعون قالوا إنه منهي عن الصلاة في ذلك الوقت، وأنه مطلوب بشغل البقعة بالإنصات الواجب عليه كون الشارع فرّق بينهما إلخ. لم يفرق بينهما بل نهى عن الصلاة في الحالتين.
وأجيب أيضًا بأن قضية سليك كانت في حال إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهى عنها، ألا ترى أن في حديث أبي سعيد الخدري "فألقى الناسُ ثيابَهم". وقد أجمع المسلمون على أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب غير جائز وكذلك مس الحصى. وقول الرجل لصاحبه: أنصت كل ذلك لا يجوز، فدل ذلك على أن ما أمر به سليكًا، وما أمر به الناس من الصدقة عليه كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة، ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالإنصات عند الخطبة وجعل حكم الخطبة كحكم الصلاة، وجعل الكلام فيها لغوًا كما كان لغوًا في الصلاة، ثبت بذلك أن الصلاة فيها ممنوعة.
وأجيب أيضًا بأنا لا نُسَلّم أن المراد بالركعتين المأمور بهما في حديث سليك تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائتة كالصبح مثلًا.
قال ابن المنير: لعله صلى الله عليه وسلم كشف له عن ذلك، وإنما استفهم ملاطفة له في الخطاب.
قال: ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه؛ لأنه قد رآه لما دخل وقد روى هذا ابن حِبّان فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى، وما استدل به ابن حِبّان غير ظاهر؛ لأنه يقال فيه كذلك لو كان للتحية لم يتكرر أمره له بذلك، ولا يحتاج الصحابي إلى التكرار وكون التكرار واقعًا في الواجب أولى من كونه واقعًا في النفل.
وأجيب أيضًا بأنا لا نسلم أن الخطبة المذكورة كانت للجمعة، ويدل على أنها كانت لغيرها قوله للداخل: أصليت؛ لأن وقت الصلاة لم يكن دخل، وهذا ينبني على أن الاستفهام عن صلاة الفرض فيحتاج إلى ثبوت ذلك، وقد وقع في حديث الباب وفي الذي بعده أن ذلك كان يوم الجمعة، فهو ظاهر في أن الخطبةكانت لصلاة.
وأقوى ما اعتمده المالكية في هذه المسألة عمل أهل المدينة خلفًا عن سلف من لدن الصحابة إلى عهد مالك أن التنفل في حال الخطبة ممنوع مطلقًا.
وقد قال عياض: كان أبو بكر وعمر وعثمان يمنعون من الصلاة عند الخطبة.
وقال ابن شهاب: خروج الإِمام يمنع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام.
وأخرج الطحاوي عن ثعلبة بن أبي مالك كان عمر -رضي الله تعالى عنه- "إذا خرج للخطبة أنصتنا".
وفي رواية: "إن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة".
وأخرج ابن أبي شيبة عنه في مصنفه قال: "أدركت عمر وعثمان -رضي الله تعالى عنهما- فكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة، وإذا تكلم تركنا الكلام".
وتعقب في "الفتح" هذا بمنع اتفاق أهل المدينة على ذلك. قال: فقد ثبت فعل التحية عن أبي سعيد الخدري، وهو من فقهاء الصحابة من أهل المدينة، وحمله عنه أصحابه من أهل المدينة.
فقد روى الترمذي وابن خزيمة وصححاه "أن أبا سعيد الخدري دخل ومروان يخطب فصلّى ركعتين فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاّهما ثم قال: "ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما".
قال: ولم يثبت عن أحد من الصحابة صريحًا ما يخالف ذلك.
وأما ما نقله ابن بطال عن عمر وعثمان وغير واحد من الصحابة من المنع مطلقًا، فاعتماده في ذلك على روايات عنهم فيها احتمال كقول ثعلبة بن أبي مالك:"أدركت عمر وعثمان وكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة". وجه الاحتمال أن يكون ثعلبة عني بذلك من كان داخل المسجد خاصة.
وقال الحافظ أبو الفضل في "شرح الترمذي": كل مَنْ نقل عنه من الصحابة منع الصلاة والإمام يخطب محمول على مَنْ كان داخل المسجد؛ لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية. وقد ورد فيها حديث يخصها فلا يترك بالاحتمال.
قلت: هذا التعقب كله متعقب فإن حديث أبي سعيد نفسه دال على أن عملهما في المدينة لم يكن متعارفًا وإلا لما أراد حرس مروان منع أبي سعيد من صلاتهما، فإرادتهما سمعه دليل واضح على أن الأمراء كانوا يوكلون من يمنع من صلاتهما، وانفراد أبي سعيد لا يمنع من الاتفاق كانفراد عبد الله بن مسعود بالقراءة وغيره من الصحابة. وما قاله من الاحتمال في كلام ثعلبة بن أبي مالك بعيد جدًا، فإن تعليقه لترك الكلام على خروج الإمام ظاهر أو صريح في عموم الداخل والسابق، وكذلك الروايات السابقة عنه. وما قاله أبو الفضل من أنها ورد فيها حديث يخصها فلا يترك بالاحتمال يجاب عنه بأن الوارد فيها أقواه حديث سليك كما مرَّ، وفيه من الاحتمالات ما يوجب سقوط الاستدلال به قطعًا
وقوله: "أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة صريحًا ما يخالف ذلك" يقال فيه: إنه قد ورد عنهم ما يخالف ذلك، فقد روي عن أبي سعيد الخدري رفعه:"لا تصلُّوا والِإمام يخطب". ودعوى أن عمومه يخص بالأمر بصلاة التحية دعوى لا دليل عليها، ولم لا يقال إن إطلاق الأمر بالتحية يقيد بالنهي وقت الخطبة.
وأخرج الطحاوي عن عقبة بن عامر أنه قال: الصلاة والإمام على المنبر معصية، فأي تصريح فوق هذا؛ فإن قيل في سنده ابن لهيعة.
أُجيب عنه بأنه قد وثّقه أحمد، وروى عنه كثيرًا، ووثّقه ابن وهب وأحمد بن صالح.
وأخرج الطحاوي عن عطاء قال: "كان ابن عمر وابن عباس -رضي الله تعالى عنهم- يكرهان الكلام والصلاة إذا خرج الإِمام يوم الجمعة".
وأخرج الطحاوي مثل هذا عن الشعبي والزهري وعلقمة وأبي قلابة ومجاهد من التابعين. واحتج المانعون أيضًا بأنهم اتفقوا على أن منع الصلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه مَنْ كان داخل المسجد أو خارجه. وقد اتفقوا على أن مَنْ كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفل حال الخطبة، فليكن الآتي كذلك، قاله الطحاوي ووافقه الماوردي من الشافعية على ما نقل من الاتفاق. وتعقب هذا بأنه قياس في مقابلة النص فهو فاسد، ورد هذا بأن الطحاوي لم يبن كلامه على القياس حتى يكون ما قاله قياسًا في مقابلة النص، بل الطحاوي روى أحاديث عن سليمان وأبي سعيد وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأوس بن أوس -رضي الله تعالى عنهم- كلها تأمر بالإنصات إذا خطب الإمام، فتدل على أن موضع كلام الإمام ليس بموضع للصلاة، فبالنظر على ذلك يستوي الداخل والآتي.
وأيضًا إنما يكون القياس في مقابلة النص فاسدًا إذا كان ذلك النص سالمًا من المعارض، ولم يسلم حديث سليك عن أمور كثيرة مرَّ ذكرها. واحتجوا أيضًا بأنهم اتفقوا على سقوط التحية عن الإِمام مع كونه يجلس على المنبر مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى، وتعقب بأنه أيضًا قياس في مقابلة النص فهو فاسد؛ ولأن الأمر وقع مقيدًا بحال الخطبة، فلم يتناول الخطيب، وهذا التعقب مردود بما مرّ قريبًا من أن القياس في مقابلة النص إنما يكون فاسدًا إلخ، وبأن الخطيب إذا لم يتناوله الحديث المقيد بحال الخطبة يتناوله الحديث المتفق عليه الذي فيه الأمر للداخل بأن لا يجلس حتى يصلي ركعتين، فلولا أن دخوله هو للمسجد مانع من التحية لكان هو مطالبًا بالتحية.
واحتج المانحون بأن عمر لم يأمر عثمان بصلاة التحية مع أنه أنكر عليه الاقتصار على الوضوء.
وأجيب باحتمال أن يكون صلاّهما.
واحتجوا أيضًا بما أخرجه الطحاوي "عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن، ثم سلم ثم جلس ولم يركع. وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد استدل به الطحاوي فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية، فدل على صحة ما قلناه. وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على