الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث التاسع والخمسون
حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَاّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} ".
قوله "عن حصين" هو ابن عبد الرحمن ومدار هذا الحديث في "الصحيحين" عليه، وقد رواه تارة عن سالم بن أبي الجعد وحده كما هنا وهي رواية أكثر أصحابه، وتارة عن أبي سفيان طلحة بن نافع وحده وهي رواية قيس بن الربيع وإسرائيل عند ابن مردويه، وتارة جمع بينهما عن جابر وهي رواية خالد بن عبد الله عند المصنف في التفسير، وعند مسلم وكذا رواه هشيم عنده أيضًا. وقوله "بينا نحن نصلي" في رواية خالد المذكورة عند أبي نعيم في المستخرج "بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة" وهذا ظاهر في أن انفضاضهم وقع بعد دخولهم في الصلاة، لكن وقع عند مسلم عند عبد الله بن إدريس عن حصين "ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبُ". وله في رواية هشيم:"والنبي صلى الله عليه وسلم قائمٌ" زاد أبو عوانة في "صحيحه" والترمذي والدارقطني من طريقه "يخطب". ومثله لأبي عوانة عن عباد بن العوام، ولعبد بن حميد عن سليمان بن كثير كلاهما عن حصين، وكذا في رواية قيس بن الربيع وإسرائيل، ومثله عند البزار عن ابن عباس وعند الطبراني في "الأوسط" عن أبي هريرة وعند الطبراني أيضًا، وغيره من مرسل قتادة فعلى هذا، فقوله "يصلي" أي: ينتظر الصلاة.
وقوله "في الصلاة" أي في الخطبة مثلًا، وهو من تسمية الشيء باسم ما قاربه، فبهذا يجمع بين الروايتين.
ويؤيده استدلال ابن مسعود على القيام في الخطبة بالآية المذكورة كما أخرجه ابن ماجه بإسناد صحيح، وكذا استدل به كعب بن عُجْرة في "صحيح مسلم"، وحمل ابن الجوزي قوله "يخطب قائمًا" على أنه خبر (لكان) آخر غير خبر كونهم كانوا معه في الصلاة. فقال التقدير (صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يخطب قائمًا) الحديث، ولا يخفى تكلفه.
وقوله "إذ أقبلت عير" أي بكسر العين المهملة. وهي الإبل التي تحمل التجارة طعامًا كانت أو غيره، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، ونقل عبد الحق أن البخاري لم يخرج قوله "إذ أقبلت عير
تحمل طعامًا" وهو ذهول منه، نعم سقط ذلك في التفسير، وثبت هنا وفي أوائل البيوع.
وزاد فيه "أنها أقبلت من الشام". ولمسلم مثله عن جرير عن حصين وعند الطبري عن أبي مالك ومرة فرقهما أن الذي قدم بها من الشام دحية بن خليفة الكلبي، ونحوه عند البزار عن ابن عباس وعند ابن مردويه عن ابن عباس "جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف" وجمع بين هاتين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن، وكان دحية السفير أو كان مشاركًا له وفي رواية ابن وهب عن الليث أنها كانت لوبرة الكلبي، وتجمع بأنه كان رفيق دحية.
وقوله "فالتفتوا إليها" وفي رواية ابن فضيل في البيوع "فانفض الناس"، وهو موافق للفظ القرآن ودال على أن المراد بالالتفات الانصراف، وفيه رد على من حمل الالتفات على ظاهره فقال لا يفهم من هذا الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنما يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو قلوبهم.
وأما هيئة الصلاة المجزئة فباقية، ثم هو مبني على أن الانفضاض وقع في الصلاة، وقد ترجح مما مضى أنه إنما كان في الخطبة. فلو كان كما قيل لما وقع هذا الإنكار الشديد، فإن الالتفات فيها لا ينافي الاستماع وقد غفل قائله عن بقية ألفاظ الخبر.
وفي قوله "فالتفتوا" الحديث التفات؛ لأن السياق يقتضي أن يقول التفتنا، وكان الحكمة في عدول جابر عن ذلك أنه هو لم يكن ممن التفت كما سيأتي.
وقوله "إلا اثنا عشر" ليس الاستثناء مفرغًا حتى يجب رفعه، بل هو من ضمير بقي الذي يعود على المصلي، فيجوز فيه الرفع على البدل والنصب على الاستثناء، وقد جاءت بها الرواية.
وفي "تفسير الطبري" وابن أبي حاتم بإسناد صحيح إلى أبي قتادة قال: "قال لهم رسول الله كم أنتم فعدوا أنفسهم فإذا هم اثنا عشر رجلًا وامرأة".
وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي "وامرأتان". ولابن مردويه عن ابن عباس وسبع نسوة، لكن إسناده ضعيف واتفقت هذه الروايات كلها على اثني عشر رجلًا إلا ما رواه علي بن أبي عاصم عن حصين بالإسناد المذكور. فقال إلا أربعين رجلًا أخرجه الدارقطني، وقال تفرد به علي بن أبي عاصم وهو ضعيف الحفظ. وخالفه أصحاب حصين كلهم ويأتي في السند ما قيل في تسمية الباقين معه وتعريف من لم يمضِ تعريفه منهم، وذكر محل من عرف منهم.
وقد اختلف فيما إذا انفضوا فقال الشافعية والحنابلة: لو انفض الأربعون أو بعضهم في أثناء الخطبة أو بينها وبين الصلاة أو في الركعة الأولى ولم يعودوا أو عادوا بعد طول الفصل استأنف الإمام الخطبة والصلاة، ولو انفض السامعون للخطبة بعد إحرام تسعة وثلاثين لم يسمعوا الخطبة أتم بهم الجمعة؛ لأنهم إذا لحقوا والعدد تام صار حكمهم واحدًا فسقط عنهم سماع الخطبة، أو انفضوا قبل إحرامهم استأنف الخطبة بهم، لأنه لا تصح الجمعة بدونها وقال المالكية أن انفضوا وبقي مع
الإمام اثنا عشر صحت ويتم بهم جمعة إذا بقوا معه إلى السلام بحيث لو انفض منهم واحد قبل السلام بطلت على الجميع إعطاء للدوام حكم الابتداء. وبهذا قال ربيعة وإسحاق بن راهويه مستدلين بحديث الباب، وتعقبه المخالفون بأنها واقعة عين لا عموم فيها، وبأنه يحتمل أنه تمادى حتى عادوا أو عاد من تجزىء بهم إذ لم يرد في الخبر أنه أتم الصلاة، وتحتمل أيضًا أنه أتمها ظهرًا. وأيضًا قد فرق كثير من العلماء بين الابتداء والدوام فيها فقيل إذا انعقدت لم يضر ما طرأ بعد ذلك ولو بقي الإمام وحده.
وقال أبو حنيفة: إذا نفر الناس قبل أن يركع الإِمام ويسجد إلا النساء استقبل الظهر.
وقال صاحباه: إذا نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة، وإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بني على الجمعة في قولهم جميعًا خلافًا لزفر فإنه قال يتمها ظهرًا. وقيل تصح إن بقي واحد، وقيل اثنان، وقيل ثلاثة، وقيل إن كان صلى بهم الركعة الأولى صحت لمن بقي، وقيل يتمها ظهرًا مطلقًا وهذا الخلاف كله أقوال مخرجة في مذهب الشافعي إلا الأخير فهو قوله في الجديد، قاله في "الفتح" وقد مرَّ عند الترجمة أن ظاهرها يقتضي أن لا يتقيد الجمع الذي يبقى مع الإِمام بعدد معين.
وقوله في الترجمة: "فصلاة الإمام ومن بقي جائزة يؤخذ منه أنه يرى أن الجميع لو انفضوا في الركعة الأولى ولم يبق إلا الإِمام وحده أنه لا تصح له، وهو كذلك عند الجمهور كما مرّ.
وقوله: "فنزلت هذه الآية" الخ ظاهر في أنها نزلت بسبب قدوم العِير المذكورة. والمراد باللهو على هذا ما ينشأ من رؤية القادمين وما معهم.
وعند الشافعي عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا "كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ يومَ الجمعةِ وكانتْ لهم سوقٌ كانت بنو سليم يجلبونَ إليها الخيلَ والإبلَ والسمنَ فقدموا، فخرج إليهم الناسُ وتركوهُ وكان لهم لهوٌ يضربونهُ فنزلت". ووصله أبو عوانة في "صحيحه" والطبري بذكر جابر فيه "أنهم كانوا إذا نكحوا تضربُ الجواري بالمزامير، فتشتدُ الناسُ إليهم ويَدَعُون رسول الله صلى الله عليه وسلم قائمًا فنزلت هذه الآية". وفي مرسل عبد بن حميد "كان رجالٌ يقومونَ إلى نواضحهم وإلى السفر يقدمون يبتغونَ التجارة واللهو" ولا بعد في أن تنزل في الأمرين معًا وأكثر. وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن أنس: "بينما نحنُ مع رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يخطبُ يومَ الجمعةِ إذ سمعَ أهلُ المسجدِ صوتَ الطبول والمزاميرِ وكان أهلُ المدينةِ إذا قدمت عليهم العيرُ من الشامِ بالبُرِّ والزبيب استقبلوها فرحًا بالمعازفِ فقدمت عيرٌ لدحيةَ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ فتركوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وخرجوا، فقال النبىُّ عليه الصلاة والسلام مَنْ هنا؟ فقالوا: أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعليُّ وابنُ مسعودٍ وسالمُ مولى أبي حذيفة فإذا اثنا عشر رجلًا وامرأتان، فقال عليه الصلاة والسلام: لو اتبع آخركُم أولكم لاضطرم الوادي عليكم نارًا، ولكن تطول علي فرفعَ العقوبةَ بكمْ عمن خرجَ فنزلتِ الآيةُ".
وفي "تفسير النسفي""بينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يخطبُ يومَ الجمعةِ إذ قَدمَ دحيةُ بنُ خليفةَ الكلبي ثم أحدُ بني الخزرج ثم أحدُ بني زيد بن مناة من الشام بتجارةٍ. وكان إذا قدمَ لم تبقَ بالمدينةِ عاتقٌ، وكان يقدمُ إذا قدمَ بكلِّ ما يحتاجُ إليه من دقيقٍ أو بُرٍّ وغيره، فنزلَ عند أحجارِ الزيتِ وهو مكان بسوق المدينةِ ثم يضربُ الطبلُ ليؤذنَ الناسَ بقدومِه فيخرجَ إليه الناسُ ليبتاعوا منه، فقدمَ ذاتَ يومِ جمعةٍ وكانَ ذلكَ قبلَ أن يسلمَ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائم على المنبرِ يخطبُ. فخرجَ إليهِ الناسُ فلم يبقَ في المسجدِ إلا اثنا عشر رجلًا وامرأةً، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لولا هؤلاء لقد سومتْ لهم الحجارةُ من السماءِ وأنزل اللهُ تعالى هذه الآية".
وقال في "الفتح": ذكر الحميدي في الجمع أن أبا مسعود الدمشقي ذكر في آخر حديث جابر هذا أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو تتابعتم لم يبقَ منكم أحدٌ لسالَ بكُم الوادي نارًا". قال: وهذا لم أجده في الكتابين ولا في مستخرجي الإسماعيلي والبرقي.
قال صاحب "الفتح": لم أرَ هذه الزيادة في الأطراف لأبي مسعود ولا هي في شيء من طرق حديث جابر المذكورة وإنما وقعت في مرسل الحسن وقتادة وكذا في حديث ابن عباس عند ابن مردويه، وفي حديث أنس عند إسماعيل بن أبي زياد وسنده ساقط.
والنكتة في قوله، انفضوا إليها" دون قوله إليهما أو إليه أن اللهو لم يكن مقصودًا لذاته وإنما كان تبعًا للتجارة أو حذف لدلالة أحدهما على الآخر، وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه أو أعيد الضمير إلى مصدر الفعل المتقدم وهو الرؤية. أي انفضوا إلى الرؤية الواقعة على التجارة أو اللهو والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته.
واستشكل الأصيلي حديث الباب فقال: إن الله تعالى وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، ثم أجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث كان قبل نزول الآية. وهذا الذي يتعيّن المصير إليه مع أنه ليس في آية النور التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه في الخطبة لا في الصلاة، وهو اللائق بالصحابة تحسينًا للظن بهم، وعلى تقدير أن يكون في الصلاة حمل على أن ذلك وقع قبل النهي كآية {لَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقبل النهي عن الفعل الكثير في الصلاة.
ولو ثبت قول مقاتل بن حيان الذي أخرجه أبو داود في المراسيل إن الصلاة كانت حينئذ قبل الخطبة، زال الإشكال لكنه مع شذوذه مفصل ولفظه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعةَ قبلَ الخطبةِ مثلَ العيدين حتى كان يومَ جمعةٍ والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يخطبُ وقد صلّى الجمعةَ فدخلَ رجلٌ فقالَ إنّ دحيةَ قدمَ بتجارتِه، وكان دحيةُ إذا قدم تلقاهُ أهلهُ بالدفوفِ فخرجَ الناسُ لم يظنوا إلا أنّه ليس في تركِ الخطبةِ شيء، فأنزلَ اللهُ عز وجل {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} فقدّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم-