الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ بن سيرين عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ. فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ. وَذَكَرَ مِنْ جِيرَانِهِ فَكَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَدَّقَهُ، قَالَ: وَعِنْدِي جَذَعَةٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ شَاتَيْ لَحْمٍ، فَرَخَّصَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا أَدْرِي أَبَلَغَتِ الرُّخْصَةُ مَنْ سِوَاهُ أَمْ لَا.
قوله: "من ذبح قبل الصلاة فليعد" أي قبل صلاة العيد.
وقوله: "فقام رجل" هو أبو بردة بن نيار كما يأتي التصريح به قريبًا في حديث البراء.
وقوله: "هذا يوم يشتهى فيه اللحم" في رواية داود بن أبي هند عند مسلم "فقال: يا رسول الله إن هذا يوم اللحم فيه مكروه". وفي لفظ "مقروم" بسكون القاف. قال عياش: رويناه في "مسلم" عن الفارسي والسجزي "مكروه"، وعن العذري "مقروم". وقد صوب بعضهم الرواية الثانية، وقال معناه يشتهى فيه اللحم يقال: قَرَمْتُ إلى اللحم، وَقَرَمْتُه إذا اشتهيته فهو موافق للرواية الأولى "هذا يوم يشتهى فيه اللحم" قال: وقال بعض الشيوح: صواب الرواية "اللحم فيه مكروه" بفتح وهو اشتهاء اللحم، والمعنى ترك الذبح والتضحية وإبقاء أهله فيه بلا لحم حتى يشتهوه مكروه.
قال: وقيل معناه ذبح ما لا يجزىء في الأضحية مما هو لحم، وبالغ ابن العربي فقام: إن الرواية بسكون الحاء هنا غلط، وإنما هو اللحم بالتحريك يقال، لحم الرجل بكسر الحاء يلحم بفتحها إذا كان يشتهي اللحم.
وقال القرطبي: تكلف بعضهم ما لا يصح رواية أي اللحم بالتحريك ولا معنى، وهو قول الآخر معنى المكروه أنه مخالف للسنة وهو كلام من لم يتأمل سياق الحديث، فإن هذا التأويل لا يلائمه إذ لا يستقيم أن يقول إن هذا اليوم اللحم فيه مخالف للسنة وإني عجلت لأطعم أهلي. قال: وأقرب ما يتكلف لهذه الرواية أن معناه اللحم فيه مكروه التأخير فحذف لفظ التأخير لدلالة قوله عجلت. وقال النووي: معناه هذا يوم طلب اللحم فيه مكروه شاق يعني طلبه من الناس كالصديق والجار فاختار هو أن لا يحتاج أهله إلى ذلك فأغناهم بما ذبحه عن الطلب، وهذا معنى حسن، ويؤيد هذا ما يأتي قريبًا في رواية البراء فعرفت "أن اليوم يوم أكل وشرب، فأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي"، ويظهر أن بهذه الرواية يحصل الجمع بين الروايتين المتقدمتين وأن وصفه
اللحم بكونه مشتهى وبكونه مكروهًا لا تناقض فيه، وإنما هو باعتبارين: فمن حيث إن العادة جرت فيه بالذبائح فالنفس تتشوق له يكون مشتهى، ومن حيث توارد الجميع عليه حتى يكثر يصير مملولًا فاطلقت عليه الكراهة، لذلك فحيث وصفه بكونه مشتهى أراد ابتداء حاله، وحيث وصفه بأنه مكروه أراد انتهاءه، ومن ثم استعجل بالذبح ليفوز بتحصيل الصفة الأولى.
وعند مسلم عن الشعبي فقال خالي: "يا رسول الله قد نسكت عن ابن لي" وقد استشكل هذا والظاهر أن مراده أنه ضحى لأجله للمعنى الذي ذكره في أهله وجيرانه فخص ولده بالذكر؛ لأنه أخص بذلك عنده حتى يستغنى ولده بما عنده عن التشوف إلى ما عند غيره.
وقوله: "وذكر جيرانه" وفي رواية "وذكر هَنَة من جيرانه" وهي بفتح الهاء والنون الخفيفة بعدها هاء تأنيث حاجة من جيرانه إلى اللحم.
وقوله: "فكأنه صلى الله عليه وسلم صدّقه" وفي رواية "عذره" بتخفيف الذال المعجمة من العُذْر أي قبل عذره، ولكن لم يجعل ما فعله كافيًا، وكذلك أمره بالإعادة قال ابن دقيق: فيه دليل على أن المأمورات إذا وقعت على خلاف مقتضى الأمر لم يعذر فيها بالجهل، والفرق بين المأمورات والمنهيات أن المقصود من المأمورات إقامة مصالحها وذلك لا يحصل بالفعل، والمقصود من المنهيات الكف عنها بسبب مفاسدها، ومع الجهل والنسيان لم يقصد المكلف فعلها فيعذر.
وفي رواية عند مسلم "وإني عجلت فيه نسيكتي لأطعم أهلي وجيراني وأهل داري".
وقوله: "فقال وعندي جَذَعة أحبّ إلى من شاتي لحم" وعندي جذعة معطوف على كلام الرجل الذي عني الراوي بقوله، وذكر "هنة من جيرانه" تقديره هذا يوم يشتهى فيه اللحم ولجيراني حاجة فذبحت قبل الصلاة، وعندي جذعة أي بالتحريك، والجذعة المذكورة من المعز كما هو مصرح به في حديث البراء في "الأضاحي" فقال:"عندي داجنًا جذعة من المعز" والداجن التي تألف البيوت وتستأنس، وليس لها سن معين ولما صار هذا الاسم علمًا على ما تألف البيوت اضمحل الوصف عنه فاستوى فيه المذكر والمؤنث.
والجَذَعة بالتحريك وصف لسن معين من بهيمة الأنعام. فمن الضأن ما أكمل السنة وهو قول الجمهور، وهو قول مالك، والأصح عند الشافعي والأشهر عند أهل اللغة. وقيل دونها ثم اختلف في تقديره فقيل نصف سنة وهو قول الحنفية والحنابلة.
وقيل سبعة أشهر وحكاه صاحب "الهداية" من الحنفية عن الزعفراني.
وقيل ستة أو سبعة حكاه الترمذي عن وكيع.
وقيل بالتفرقة بين ما تولد بين شابين فيكون له نصف سنة أو بين هرمين فيكون ابن ثمانية.
سادسها ابن عشرة.
سابعها لا يجزىء حتى يكون عظيمًا حكاه ابن العربي وقال: إنه مذهب باطل. وقد قال صاحب "الهداية": إنه إذا كانت عظيمة بحيث لو اختلطت بالثنيات اشتبهت على الناظر من بعيد أجزأت.
وقال العبادي من الشافعية: لو أجذع قبل السنة أي سقطت أسنانه أجزأ كما لو تمت السنة قبل أن يجذع ويكون ذلك كالبلوغ. إما بالسن وإما بالاحتلام.
وهكذا قال البغوي: الجذع ما استكمل السنة أو أجذع قبلها. وأما الجذع من المعز فهو ما دخل في السنة الثانية، ومن البقر ما أكمل الثالثة، ومن الإبل ما دخل في الخامسة.
ودلت الرواية المذكورة أن الجذع من المعز لا يجزىء وهو قول الجمهور، وعن عطاء والأوزاعي تجوز مطلقًا وهو وجه لبعض الشافعية حكاه الرافعي وقال النووي وهو شاذ أو غلط. وأغرب عياض فحكى الإجماع على عدم الإجزاء قيل: والإجزاء مصادر للنص ولكن يحتمل أن يكون قائله قيد ذلك بمن لم يجد غيره، ويكون معنى نفي الإجزاء عن غير من أذن له في ذلك محمولًا على من وجد.
وأما الجذع من الضأن فقال الترمذي: إن العمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لكن حكى غيره عن ابن عمر والزهري أن الجذع لا يجزىء مطلقًا كان من الضأن أو من غيره، وممن حكاه عن ابن عمر ابن المنذر، وبه قال ابن حزم وعزاه لجماعة من السلف، وأطنب في الرد على من أجازه. ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً مقيدًا بمن لم يجد، وقد صح فيه حديث جابر رفعه "لا تذبحوا إلا مُسِنَّة إلا أن يعسرَ عليكم فتذبحوا جَذَعةً من الضأن" أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم. لكن نقل النووي عن الجمهور أنهم حملوه على الأفضل والتقدير يستحب لكم أن لا تذبحوا إلَاّ مسنّة فإن عجزتم فاذبحوا جذعة من الضأن. قال: وليس فيه تصريح بمنع الجذعة من الضأن وأنها لا تجزىء. قال: وقد أجمعت الأمة على أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأن الجمهور يجوزون الجذع من الضأن مع وجود غيره وعدمه وابن عمر والزهري يمنعانه مع وجود غيره وعدمه فتعين تأويله.
ويدل للجمهور ما أخرجه ابن ماجه عن أم هلال بنت هلال عن أبيها رفعه "يجوز الجذع من الضأن أضحية".
وبما أخرجه أبو داود وابن ماجه عن رجل من بني سليم يقال له مجاشع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجذع يُوفي ما يُوفي منه الثني".
وأخرجه النسائي من وجه آخر لكن لم يسم الصحابي، بل وقع عنده "أنه رجل من مزينة". وبما أخرجه النسائي بسند قوي عن عقبة بن عامر قال:"ضحّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بجذاع من الضأن".
وبما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رفعه "نعمت الأضحية الجذعة من الضأن" وفي سنده ضعف.
وقوله: "أحب إلى من شاتي لحم" المعنى أنها أطيب لحمًا وأنفع للآكلين لسمنها ونفاستها، وقد استشكل هذا بما ذكر في العتق أن عتق نفسين أفضل من عتق نفس واحدة، ولو كانت أنفس منهما وأجيب بالفرق بين العتق والأضحية أن الأضحية يطلب فيها كثرة اللحم فتكون الواحدة السمينة أولى من الهزيلتين والعتق يطلب فيه التقرب إلى الله تعالى بفك الرقبة، فيكون عتق الاثنين أولى من عتق الواحدة. نعم، إن عُرض للواحد وصف يقتضي رفعته على غيره كالعلم وأنواع الفضل المتعدي، فقد جزم بعض المحققين بأنه أولى لعموم نفعه للمسلمين.
وفي رواية شعبة في حديث البراء الآتي هي خير من مسنة التي سقطت أسنانها للبدل. وقال أهل اللغة: المسن الثني الذي يلقي سنه ويكون في ذات الخف في السنة السادسة، وفي ذات الظلف والحافر في السنة الثالثة. وقال ابن فارس: إذا دخل ولد الشاة في السنة الثالثة فهو ثني وحسن.
وقوله: "فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا" قد وقع في حديث البراء الآتي قريبًا اختصاصه بذلك، ويأتي الكلام عليه. وكأن أنسًا لم يسمع ذلك، وقد روى ابن عون عن الشعبي حديث البراء وعن ابن سيرين حديث أنس، فكان إذا حدث حديث البراء يقف عند قوله: ولن تجزىء عن أحد بعدك ويحدث بقول أنس "لا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا"، ولعله استشكل الخصوصية بذلك لما جاء من ثبوت ذلك لغير أبي بردة كما يأتي بيانه في الحديث الذي بعده.
واستدل من قال بوجوب الأضحية بقوله في هذا الحديث: "فَلْيُعِدْ"، وبقوله في حديث جندب بن سفيان:"فَلْيُعِدْ مكانها أخرى". وفي رواية "اذبحْ مكانها أخرى"، وفي لفظ "أَعِدْ نسكًا" وغير ذلك من الألفاظ المصرحة بالأمر بالضحية والقائل بوجوبها أبو حنيفة فإنه قال: إنها تجب على الموسر المقيم. وقال مالك إنها سنة عين على كل حر لا تجحف به وإن يتيمًا. وعند الشافعية والجمهور سُنّة مؤكدة على الكفاية، وفي وجه للشافعية من فروض الكفاية. وقال أحمد يكره تركها مع القدرة، وعنه واجبة، وعن محمد بن الحسن هي سُنّة غير مرخص في تركها. قال الطحاوي: وبه نأخذ، وليس في الآثار ما يدل على وجوبها، وأقرب ما يتمسك به للوجوب بحديث أبي هريرة رفعه "مَنْ وجد سعة فلم يُضحِ فلا يَقْرَبَنَّ مصلانا" أخرجه ابن ماجه وأحمد، ورجاله ثقات لكن اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف أشبه بالصواب قاله الطحاوي وغيره ومع ذلك فليس صريحًا في الإيجاب.
وأما الاستدلال بالألفاظ المتقدمة، فقد قال القرطبي: لا حجة في شيء من ذلك وإنما